سامي نسيم: الموسيقار الذي مات حاضنًا عوده

علي لفتة سعيد 28 سبتمبر 2024
هنا/الآن
قدّم العديد من المؤلّفات الموسيقية وعُرف بالأطوار العراقية

يخيّل لي إنّ الفنّان وعازف العود سامي نسيم الذي يعدّ واحدًا من أمهر الفنانين على هذه الآلة، مات وحيدًا وهو يحضن عوده الذي كانت أصابعه تناغم أوتاره لعلّها تشفيه من مرضه العضال الخبيث، الذي جعله وحيدًا، فالواقع العراقي لم يعد يطربه صوت العود بعد أن تعوّد سماع الخطابات والانفجارات والصراع الفكري والتوجهات التي قلبت الحياة رأسًا على عقب من زمن الغزو الأميركي عام 2003.
ونسيم مولود في الجنوب العراقي الحزين وتحديدًا في قضاء الرفاعي ضمن محافظة ذي قار عام 1966، وأكمل دراسته فيها وانتقل إلى بغداد لإكمال الدراسة في معهد الدراسات الموسيقية لمدة 6 سنوات، ليصبح مدرسًا في المعهد، وربما هو أصغر مدرس حينذاك. وهو مؤلّف وباحث موسيقي. حصل على الجائزة الأولى بمسابقة العود الدولية وعلى جائزة الإبداع العراقية بالتأليف الموسيقي لمرتين، عمل كأستاذٍ للعود في معهد الدراسات الموسيقية ومعهد الفنون الجميلة ومدرسة الموسيقى والباليه. عضو اللجنة الوطنية العراقية للموسيقى ونقابة الفنانين العراقيين وجمعية الموسيقيين العراقيين، رئيس وعازف عود في فرقة (بابل للتراث الموسيقي) ومؤسّس ورئيس (فرقة بغداد للعود) و(الفرقة العراقية للتراث الموسيقي)، ومدير (دار العود العراقي للثقافة والفنون) و(ورشة صناعة الآلات الموسيقية). لديه مشاركات في مهرجانات دولية وحفلات محلية ودولية منها دار الأوبرا المصرية في القاهرة، ومعهد العالم العربي في باريس، ومهرجان المدينة في تونس، وغيرها في مختلف دول العالم. والموسيقار نسيم تأثّر بالتاريخ الموسيقي للعراق القديم لذا قام بمزاوجة بين ألحان القيثارة السومرية وبين الموروث الصوفي الديني.
يقول الموسيقي والملحّن الفنّان كريم هميم إنّه برحيل الموسيقار نسيم انتهى فصل من فصول الإبداع والتألّق لفنّان سومري عراقي خالص حدّ النخاع، حيث خطّ له لونًا مميّزًا بين مدارس العود العراقية والعربية والتركية، وأضاف أنّه فنّان جنوبي أصيل مغمّس برائحة الطين وماء الأهوار وأسماكه وعطر الطابك (خبز من دقيق الرز) وروح الرفاعي، مدينته الجميلة التي أنجبته ورعته وكان لها ابنًا بارًّا وفخرًا لها ولنا جميعًا. ويشير إلى أنّه أبدع حقًّا في صياغة وتأليف وعزف قوالب موسيقية غاية في الأهمية لرفد حركة الموسيقى الأكاديمية والتي ستبقى شاخصة وعلامة فارقة في مكتبات المعاهد والكليات الموسيقية، لينهل منها طلبة الموسيقى. ويرى هميم أنّ من مآثره الأخيرة ترجمته للأطوار الريفية والحرص على تسجيلها عزفًا بعوده الساحر، للحفاظ عليها من الاندثار وهذا ما لم يذهب له غيره من أساتذة العود، وعدّه فارسًا مميّزًا بين فرسان العود وربّان سفينة الأنغام بروحه وبريشته التي أبحر بها ليشقّ بحار الأنغام ويعتلي أمواجها.
أمّا الناقد الفنّي سامر المشعل فيقول إنّ رحيله شكّل صدمةً للأوساط الفنية في العراق، لكونه لم يزل في ريعان شبابه، لكنّ المرض الذي يتعرّض له الفنّان والمبدع العراقي ربما يعجّل الموت دومًا... وأضاف أنّ الراحل أصبح بصمةً موسيقيةً عراقية بعد أن جدّ واجتهد وتعب من أجل أن يحصل على هذه المكانة، حتى أنّه بالرغم من المكانة الكبيرة عالميًّا، ظلّ متمسّكًا بجذوره الجنوبية.





ولفت إلى أنّ الراحل قدّم العديد من المؤلّفات الموسيقية وعُرف بتقديمه للأطوار العراقية، مشيرًا إلى أنّه من النادر أن تجد موسيقيًّا يهتمّ بالموسيقى العالمية ويهتمّ بالتراث وبالتحديد بالأطوار الريفية العراقية وهو ما مسجّل من خلال ألبوم كامل ومصوّر لدى شبكة الإعلام العراقي. وذكر أنّه جاب العالم مع أستاذه الموسيقار الشهير منير بشير للتعرّف على ثقافات موسيقى العالم، لكنّه اختار لنفسه أسلوبًا خاصًّا في التأليف، وبيّن أنّ العديد من الموسيقيين في البلدان العربية تأثّروا به وبطريقته الرائعة في العزف، ومضى يقول إنّ له بصمةً إبداعيةً وقدّم كثيرًا للموسيقى العراقية والعربية واستطاع أيضًا من خلال المهرجانات أن ينقل الموسيقى والروح والهوية العراقية إلى العديد من البلدان العربية والعالم.
في حين يقول عنه الناقد والصحافي عبد الجبار العتابي إنّه إنسان استثنائي في عمله ومحبّته وتواضعه، يمكن التعرّف عليه بسهولة بسبب جماليات روحه الكثيرة. ويضيف: إنّ لي معه استذكارات ومواقف طريفة أجدها لذيذةً معه خاصة مع أوّل لقاء صحافي لي معه وكان في شهر تشرين الأول/ أكتوبر عام 2010، حينما طلبت رأيه في قضية إلغاء فقرات الموسيقى والغناء من مهرجان بابل الدولي، كانت إجابته حادة مثل (إنّ رفع أي شعار ضدّ الفنّ والموسيقى يعني الانتماء إلى الجهات التي تقتل الإنسان العراقي والتي هي معروفة). ويشير إلى أنّه ما كان يمرّ وقت إلّا وأجريت معه حوارًا أو استطلعت رأيه في قضية، وكان على نفس الوتيرة في التصريح الذي لا يجامل فيه أحدًا ولا يخشى لومة لائم، وكنت أعجب بشجاعته فضلًا عن اعترافي بكونه موسيقارًا مميّزًا. ويذكر أنّه في أيلول/ سبتمبر 2014، وبعد أن حرمته دائرة الفنون الموسيقية من المشاركة في مهرجان عالمي، قال في حوار معه (في العراق... هناك دواعش الثقافة أيضًا)، وفي عام 2018 وبعد تحرير الموصل كان أوّل من أقام حفلةً موسيقيةً بين الأنقاض. وبيّن أنّه واحدٌ من قلّةٍ قليلةٍ ملتزمة ومبدعة ويتفاخر بعراقيّته، وهو من الذين يمتلكون روح النكتة، والأهمّ أنّه يمتلك صوتًا جميلًا إذا ما أطلق حنجرته بالغناء الريفي، ويشير إلى أنّ المرض الخبيث فتك به وعانى منه سنوات طويلة.
ويقول الفنّان لطيف جيجان إنّ الراحل جسّد في أعماله الموسيقية العمارة الإسلامية، وكأنّه يرسم لوحات لها بواسطة ريشة نغمية لا زيتية، وأنّه كان مدرسةً خاصةً في العود، وبيّن أنّ بيئته الجنوبية حيث ولد والتي تعدّ مهد الحضارة السومرية برمزها أور، حيث منها بدأ ليصقل موهبته بعد انتقاله للعاصمة بغداد على يد الموسيقي الكبير منير بشير ممّا جعل موسيقاه تجد تفاعلًا مع جمهور في مختلف دول العالم وهو الأمر الذي أدّى إلى حصول تعاون مع مجموعة من الموسيقيين ومؤلّفين من مختلف الثقافات؛ من بينهم هاني شاكر وتامر حسين وأسماء لمنور وفارس كرم وحسن الشافعي وأيمن بهجت قمر وغيرهم فضلًا عن مشاركاته العديدة في مهرجانات حول العالم ليجسّد الثقافة الموسيقية العربية والتراثية، ويعدّ هو وزميله عازف العود الكبير نصير شمة امتدادًا لعازفي العود والموسيقيين الكبار أمثال عثمان الموصلي ومنير بشير وغيرهما.