سيف الرحبي: التبشير بأي شيء مستقبلي أصبح ضرب سذاجة

حوارات
الشاعر العماني سيف الرحبي
* لنبدأ حوارنا من عتبات المكان الأول؛ عندما كنت طفلا متمردا؛ فهل انعكست تلك الطفولة على علاقتك بالكتابة، لا سيما أن "الشاعر ابن بيئته"؟ 

يرجعني هذا السؤال إلى سهوب تلك الطفولة السحيقة في عُمان. وبالمناسبة أنا الآن بصدد الكتابة حول تلك المرحلة التي أصبحت نائية وبعيدة، إذ أحاول أن أفتش في ذلك المكان الراشح بالنأي والغموض، في زوايا الذاكرة المضببة والمعتمة، وطبعًا الذاكرة بعد تقادم الزمن والأحداث والمآسي، من المؤكد تحتاج إلى تركيز، وإلى نوع من الحفر القاسي، والصعب في أرضية أضحت بعيدة جدًا.
ما يرشح من تلك الفترة، بأن طفولتي كانت موزعة، بين قرية سرور في الداخل الحجري من عُمان، وبين البندر، التي هي مطرح، أو مسقط، وهي بلدة بحرية، ربما تتسم بسمات مختلفة، من ناحية تنوعها اللغوي، والإثني، والمذهبي، عن قرية سرور، أو سمائل، التي هي ذات نمط قبلي، ومذهبي، شبه موحد.

بطبيعة الحال، تلك الطفولة الجبلية البعيدة، كأنها كانت حرّة إلى حدّ بعيد، رغم منظومة القيود، القبلية والدينية. كانت حرة في ذلك الفضاء، المترامي، والشاسع، من أودية، وجبال. وإذا ابتعدتُ قليلًا، تكونُ الصحارى، والبحار؛ هذه السعة المكانية، أعطت للطفولةِ حرية الحركة، وحرية المخيلة، بأن تسرح في سهوب شاسعة وبعيدة.
وفي ظلّ غياب أدوات اللعب والتسلية في تلك الفترة، التي عادةً ما تلهي الأطفال عن الشقاوة والعدوانية؛ فإن العدوانية في تلك الفترة كانت متفجّرة ومندفعة، في هذا الاتجاه، كثيرة الاصطدام، والاشتباك، مع صبية آخرين.
المقابر، والجبال، والصخور المسننة، وبرك الأودية الصغيرة، كانت هي ملاعبنا؛ فالبلاد كانت أكثر خصوبة، وقاحلةً أقل من الوقت الراهن، ومجمل هذه العناصر، اشتغلتُ عليها نسبيًا في أدبي، وأحاول أيضًا تركيزها، في نوع من سيرة المكان والطفولة، أصدرتُ جزءًا في التسعينيات تفتشُ في هذه المنطقة العصية نوعًا ما، باسم "منازل الخطوة الأولى"، والآن بصدد تكملة ذلك الجزء، عبر العودة إلى سيرة الطفولة، والمكان.

وهنا عبارتكَ "الشاعر ابن بيئته"؛ بطبيعة الحال الشاعر ليس انعكاسًا للبيئة بشكل مرآوي لها، بقدر ما هي موجودة في اللا شعور الفردي، والجمعي، والشاعر، مهما تغرّب، أو انفصل، تظلّ تطاردهُ عناصر البيئة الأولى، عناصر الطفولة الأولى، الوعي المبكّر الفطري، وفي هذا السياق أتذكر الأديب والفيلسوف الألماني غوته الذي قال: إذا أردت أن تعرف الشاعر فلا بدّ أن تذهب إلى بلده؛ التواريخ الجغرافية والروحية لبلد الشاعر تضيء نصه، وتضيء كتابته، إلى حدّ بعيد.

اقرأ أيضًا: أحمد الملا، في كل منا شاعر

* تميل إلى العزلةِ والتأمّل، بيدَ أن كتاباتكَ، في الشعرِ والمقالةِ، تحتفي بالأصدقاء؛ فكيفَ توفق بين الشيء ونقيضه؟

العزلة قدر الكائن مهما كان انخراطه، لا أقول في المجتمع، وإنما في منظومة اجتماعية معينة، من الصداقات، والعلاقات، والعواطف، والأهواء الشخصية، يظلّ محكومًا بالعزلة، والكتابة في النهاية هي نتيجة هذه العزلة، والإنجاز الإبداعي نتيجة لها، والكائن البشري، قادم من عزلة معينة في الرحم، وذاهب إلى عزلته الأخيرة، وما بينهما هذا المسرح المليء بأحداث الحياة، المكتظة بالعبث، والصخب، والعنف، والحركة.
العزلة بهذا المعنى لا تتناقض مع الاجتماع البشري؛ ليس هنالك انغلاق بهذا المعنى، أي انقطاع نهائي، فهنالك عزلة، وهناك تأمّل، في الوجود، والنصوص، والكتابات، وهنالك هذا الاجتماع، خاصّة مع الأصدقاء، والأخوة في المجال، الذي نشأنا منذ البداية، ليس في عُمان فقط، وإنما في أماكن عربية، وغير عربية كثيرة.

يجرفني الحنين دائمًا إلى تلك المطارح، والوجوه الغائبة، سواء في القاهرة، أو الشام، أو بيروت، أو باريس، وفي عواصم وأماكن كثيرة مترحلة باستمرار، لذلك أنا أحتفي كثيرًا بتلك الوجوه الصديقة، الغائبة، في نصوصي؛ إذ ثمة هاجس ملح في هذا المجال.

* بعيداً عن البدايات، أخذت قصيدتك في الذهاب نحو البناء الملحمي وسرد التفاصيل؛ ألا ترى في ذلك تعارضاً مع خصائص قصيدة النثر - كما حدّدها بعض النقّاد - القائمة على الإيجاز والتكثيف اللغوي؟

بصورة عامة أنا لم أنطلق من تحديدات مفهومية أو نقدية وتنظيرية مسبّقة لقصيدة النثر، وجدت نفسي أكتب في هذا الفضاء التعبيري من دون معرفة تنظيرية منجزة، لأمشي على هديها في الكتابة، وإنما بالعكس، وجدتُ أن هذا الفضاء التعبيري أقرب إلى الحرية، وفعل الإبداع بمعناه الحرّ والشاسع.

اقرأ أيضًا: الشعر السعودي محل الشجاعة والفتنة

أنا أقيمُ تعبيريًا في منطقة التخوم الملتبسة؛ أي ضمن النَفَس الملحمي، كما ذكرت، والسرد، والتكثيف، والإيجاز، وهناك النثرية العادية أحيانًا، فأنا أرتاح تعبيريًا في النص المفتوح، أكثر من المنحى التصنيفي للكتابة، وربما الكتابة بهذا المعنى، لا يجدُ الناقد فيها ضالّته، في التصنيف الأكاديمي، أو المفهومي.
هذا النوع من الكتابة يتناسب مع إيقاعي النفسي والحياتي، اللا محدد سلفًا، والذي يحاول أن يكون حرًا، وسط كل هذه الأكوام، والأسوار، من العبودية، والألم البشري.

* على سيرةِ ذكرك للألم البشري، يتشحُ شعرك بالموتِ، ويحتفي به أحياناً؛ فهل يمكن اعتبارهُ ملهماً للكتابةِ، أم أنه ثيمة تعمل عليها، أو يمثل انعكاساً لقلق وجوديٍّ لدى الشاعر؟

ربما كلّ هذه العناصر.
أولًا القابلية الأولى، البذرة النفسية والروحية، والتي هي مفتوحة وجوديًا على هاجس الموت أكثر من غيرها، فهاجس الموت والفناء والعدم، موجود ربما لدى كل الكائنات البشرية، موجود عند كل الشعراء والأدباء، لكن يعبّر عنه بإلحاحات مختلفة، فيأتي لدى هذا أكثر من ذاك.

ربما يلحُ هذا الهاجس عليَّ كثيرًا، فيتجلّى ذلك في الكتابة، والسلوك، وهذا القلق الوجودي العاصف، وما نعيشه وجدانيًا، ومكانيًا في هذه المنطقة، من إبادات جماعية، وغيابات، ورعب وجودي، يدفع بهذا الهاجس، إلى مشارف انتحارية مأساوية أكثر، لكن في النهاية الجذر، والبذرة موجودة بالأصل، في الأعماق، تنضجها المعرفة، والأحداث المأساوية الجارية، وأعتقد أن هاجس الموت والفناء إذا أُحسن استثماره إبداعيًا ربما يكون معينًا لا ينضب لهذه الكتابة، على الرغم من تناقض أن الإبداع يحتفي بالحياة، لكنه يحتفي بالحياة عبر هاجس الموت.

* نعم، لكن يلاحظ أن النص العربي اليوم مشبَّعٌ بالسواد، ولا يقتصر الأمر عليك.

تتقاطع الكتابات في المرحلة الحالية ضمن منطقة حدية، وخطرة، في العالم العربي، مليئة بالسوداوية، واليأس، وانعدام الأمل، وانسداد الأفق، وهذا الواقع التراجيدي الذي تعيشه الأمكنة والمناطق العربية لا بدّ أن يكون ثيمة أساسية للكتابة والإبداع.

التبشير اليوم بأي شيء مستقبلي، بأي يوتوبيا، أصبح ضربًا من السذاجة، أمام هذا الواقع الجهم الذي تهيمن عليه الإبادات، والتهجير، والإجرام، وهذا الموت في المحيطات، وفي الأماكن المجهولة للأطفال، والنساء، والكبار، من هنا لا نتوقف أمام سوداوية هذا النص.

* لم يخرج الرحبي شعريًّا من الصحراء كفضاء مكاني، رغم التنوع الجغرافي الذي تمتازُ به السلطنة، إلى جانب تجوالكَ حول العالم؟

قريتي في عُمان، ليست بعيدة عن مشارف الربع الخالي، هذه الصحراء المروّعة، التي وصفها رحالة إنجليزي في مطلع القرن العشرين "صحراء الصحارى"، أو "أمّ الصحارى"، لكن بالنسبة لي مكانيًا، ورمزيًا، تتحوًل في الكتابة والنص إلى صحراء كونية، ورمزٍ وجودي للوحشة والعدم، فالصحراء هنا ببعدها الواقعي والرمزي ظلّت ملحة في النص، أكثر من العناصر الجغرافية، والجيولوجية الأخرى التي تزخر بها عمان كالجبال، والبحار.

* هل استطاعت مجلة نزوى التي ترأس تحريرها أن تكون منبر عُمان الثقافي عربيًا، وماذا أخذت منك المجلة، وماذا أعطتك؟

كان لا بدّ لنا من عمل، فكانت المجلة في سياق عملنا الصحافي، وفي المجال الثقافي خاصة، وهي تجربة مهمة على الصعيد الشخصي، وأتمنى أن تكون مهمة على الصعيد العماني والعربي، بإنجازها ومراراتها الكثيرة، باصطدامها بواقع غير مهيأ لمجلات لها طموح ثقافي طليعي، في تجاوز السائد، والمستتب عبر أزمنة متراكمة، وبالنهاية هي تجربة جيدة؛ أما ماذا قدمت أو أعطت؟ لا أدري. هذا السؤال نتركه للآخر.

* بعين الشاعر والمثقف؛ ما تقييمك للحراك الثقافي في السلطنة؟

كما تلاحظ، هنالك حراك ثقافي متعدّد الجوانب، والاتجاهات، والأنماط التعبيرية، والتصوّرات، تتعايش جميعها في رقعة هذه الثقافة العُمانية، من النمط الكلاسيكي، إلى نمط التحديث الأدبي، والتجديد، المعتدل، والمغامر؛ فهناك مجموعة من الشعراء يعبّرون عن تلك الأنماط من خلال قصيدة النثر والأشكال الطليعية للإبداع الأدبي، والإنساني. وفي الفترة الأخيرة بدأت تزدهر أنماط تعبيرية كالرواية والقصة والنقد، وهنالك بحوث أكاديمية مهمة كثيرًا، سواء في مجال الشعر القديم، أو الشعر الحديث، وربما لا تغطي كل النتاجات لكنها بحسب ما أعتقد، بدأت تشقّ طريقها، وتشكّل صوت عمان الثقافي في الداخل والخارج.

اقرأ أيضًا: سحر من شبه الجزيرة

* دعنا نتوقف قليلًا عند النقد؛ هل تراه يواكب المنجز الأدبي في السلطنة؟

هنالك جانبان لهذا النقد؛ الجامعي أو الأكاديمي وثمة أسماء مهمّة في هذا المجال، ويغطون جانباً أساسيًا في الأدب العُماني، وهنالك النقد الصحافي الذي أتمنى أن يتطوّر أكثر، أي أن يواكب الأصوات الكتابية والإبداعية، والكتب التي تصدر، على نحو أفضل من وتيرته الحالية، وهذا يتطلب دعمًا من المؤسسات الصحافية.
المشكلة أن هذه المؤسسات، وربما في الوطن العربي وليس فقط في عمان، لا تعير بالًا للمسألة الثقافية، التي هي دائمًا ثانوية، ملغاة، وقابلة للتهميش، وطبعًا هذه نظرة سطحية، نتمنى تجاوزها، من قبل ناسٍ يقدّرون الثقافة والمعرفة حقّ قدرهما.

* وكيف تنظر إلى حركة النشر في عُمان؟

اهتمت مؤسسات الدولة بإصدار الكتب ومن بينها المخطوطات، كذلك نشرت الأندية الثقافية، والمنتديات، وجمعية الكتاب عدة إصدارات، إلى جانب إصدارات أوّل دار نشر أهلية في السلطنة وهي "دار الغشام"، وهي بالمناسبة جيدة، وبدأت تشكّل أفقًا أهليا في الثقافة العُمانية، خارج الأطر الرسمية، التي تعودنا عليها.

* هناك أصوات أدبية في عُمان، بمختلف الأجناس، إلا أن انتشارها خارجيًا بقي محدودًا وفي نطاق ضيق؛ فما السبب؟

يُطرح هذا السؤال دائمًا في المحافل الثقافية العربية، لكن في الفترة الأخيرة أعتقد أن هذه الصورة بدأت تنكسر، لصالح معرفة الثقافة العمانية بأصواتها المتعددة، أو جزء منها على الأقل على الصعيد العربي.

كما تنشط المؤسسات اليوم كالنادي الثقافي، وجمعية الكتاب، ووزارة التراث والثقافة في تسويق الثقافة العمانية خارج السلطنة، وأيضًا وسائل التواصل الاجتماعي مفتوحة الآن على كافة الفضاءات، غير المحددة برقابة أو جمارك، أو حدودًا معينة، لكن يبقى من الضروري تفعيل دور المؤسسات ليكون حضور عُمان الثقافي أفضل مما هو عليه الآن.

* في عُمان شيدت دار الأوبرا السلطانية، وهي أول دار أوبرا خليجيًّا، والثالثة عربيا، فكيف تنظر إليها؟

منذ أسابيع التقيت الفنان الكبير مارسيل خليفة، وجلسنا فترات ليست قصيرة، نتحدّث عن أشياء كثيرة، في صميمها الموسيقى، بصفته هو رمز في هذا المجال، فتكلمنا عن الأوبرا إلى أي مدى هي مهمة وأساسية، وهو كخبير وموسيقار معلوماته أكثر عمقًا وصميمية، فأثنى كثيرًا عليها، وقال إن هذه الأوبرا أساسية، ومهمّة حتى على الصعيد العالمي، من ناحية تكوينها، وبنائها، ومهنيتها، وهذا الكلام سمعته من الأستاذ مارسيل خليفة.

أي مَعْلم جمالي، وروحي في الحياة العُمانية، أو البشرية، نفرحُ لأجلهِ، خاصة إذا جاء ضمن إدارة واعية فنيًا وجماليًا، وواعية لدورها، وهذا ما أتمناهُ، وما هو موجود حقًا في الأوبرا السلطانية في عُمان، وأتمنى أن ينتقل هذا الاهتمام إلى أنشطة وتكوينات أدبية وجمالية أخرى.

* أنت محبّ للموسيقى؛ عادةً ما تتركها تنساب في أركان البيت بعد ذهابك للعمل، كما أنك مستمع جيد لها، ولها أثر في نصوصك

نعم.. أنا محبّ للموسيقى، وأتذكّر الآن كلمة لأديب ليس عربياً على الأرجح، سألوه لو لم تكن كاتبًا ماذا تعمل؟ قال: أجلسُ طول عمري أستمعُ إلى الموسيقى، ولم يقل "موسيقي"؛ فهذا السمو الروحي للموسيقى، والسمو التجريدي لها، روح الرهافة، وروح الجمال الغائبين في زحمة هذا القتل، والكوارث العربية خاصة، بحاجة إلى حضورها دائمًا، كي نستطيع مواصلة الحياة.

نفس سردي

للشاعر سيف الرحبي نفس سردي هو خلاصة اسفاره وتجاربه، يكتب في نص له بعنوان "غرفة في باريس تطل على القطب الجنوبي" يعضا من وجوه المكان، يقول "منذ سنين في مقهى (لافونتين) التقيت صدفة بصديق عراقي لم أره منذ زمن.. دعاني بلطف إلى الطاولة وأخذنا بأطراف الحديث المتشعب، من غير (أن تسيل بأعناق المطيّ الأباطحُ) ، حدثني عن زيارته إلى العراق كحدث استثنائي، بعد ثلاثين عاماً، إثر سقوط النظام الديكتاتوري، حدثني عن الفجوة الصادمة التي يحسّ بها العائد بعد كل هذا الغياب.. ثم أخذ سرْدُ العودة المفرحة والمأساويّة منحى آخر وددتُ لو لم يتطرّق إليه، ولكنتُ احتفظت بذكرى طيّبة لهذا اللقاء: قال انه وجد أحد اخوته متزوجاً من طائفة غير طائفته، مما أربك العائد الباريسيّ وأحزنه حدّ الطلب من أخيه الذي لم يغادر العراق في حياته بطلاق زوجته.. رفض الأخ الطلاق، فهناك عشرة العمر والأبناء الذين أصبحوا شباباً … الخ، هكذا كان جواب ذلك الذي تعاقبت على كاهله الانقلابات ، الحروب والصراعات التي تتبارى في الاقصاء والتدمير.. وأردف العائد الباريسي انه سيعود ، لابد أن يعود لإنجاز هذه المهمة!! ، تلك كانت جملة الأخ ، الحامل للجنسيّة الفرنسيّة اللاهج بأسماء روسو وبودلير، بلد الأنوار والمعرفة والحريّة… هكذا انقلبتْ الأدوار والبديهيّات في هذه الرواية التي رواها العائد الباريسي بصدق ومودّة…".

كلمات مفتاحية