تيري كازال: الشعراء حدائق صمت تحفر تحت سطح الكلمات

أحمد لوغليمي 16 يونيو 2018

حوار مع الشاعر الفرنسي تيري كازال حول الهايكو والشِّعر والأدب، تليه منتخبات من شعره وقصائد هايكو

□ كيف تُقَدِّم نفسك للقارئ العربي؟

■ الوِلادة كانت في الجنوب الفرنسي. ومع أنّني لم أعد أقطن هناك، فما زلت أشعر بأنّني الوريث الشرعي لذاك النُّور. مشاهد طفولتي الأولى عبارة عن مساحات رحيبة من الكروم وأراض بَرَاح. أَكَمَات جافّة، بِبِضْع باقات زعتر. هذا النّور وهذا العُري هو ما أحاول مقاربته حتى اليوم في شعري...

عندما كنت طفلا، كنت أخال أن كل الكتّاب أموات. لِذَا، لم تكن الكتابة في عيني حِرفة مستقبل أو نداءً مُحتملا. فقط في ما بعد، بزمن طويل، حينما التقيت روائيا من لحم ودم، فقط حينها، اكتشفت أن الكتابة في متناول "الأحياء" أيضا. الانطلاقة الحاسمة كانت أثناء أحد أعياد ميلادي. كنت قد دوَّنت قصائد صغيرة من بنات أفكاري على قصاصات ورق، يمكن للمدعوين التقاطها من داخل كيس. هذه اللعبة البسيطة جدا أتاحت للجميع أن يثيروا نقاشا حول تلك النصوص وأن يدلوا بانطباعاتهم عنها بحرية، وبمزية إصغاء راقية للآخرـ وهذا أمر، للأسف، صار نادرا جدا في مجتمعاتنا.

ومنذ الغد، شرعتُ في الكتابة بشكل منتظم. ولم يكن ذلك سوى بداية الرحلة...

يُلهمني كلّ شيء. يؤثر بي كلّ شيء. بلا انقطاع. لا أفهم كيف يمكننا العيش، ولو ثانية واحدة على هذه الأرض، دون أن نتأثر وننفعل؛ بِسُحنة، بِمشهد طبيعي، بشيء غير مألوف، بشيء متروك ومُتخلَّى عنه على الرصيف، بتغريدة طائر، بنجمة في سماء، بثمرة آنَ نُقَشِّرها... السؤال ليس: من أين يأتي الإلهام؟ ولكن السؤال هو: لماذا الرجال والنساء يَحْيَون في منأًى عن مشاعرهم الأكثر عمقا؟

صدر لي حوالي 15 كتابا، بين الشعر، الرواية، الهايكو والدراسات النقدية... وهي كتب مقتضَبة بالأحرى، لأنني أعتقد أننا لسنا بحاجة إلى أطنان من الكلام كي نتمكن من إصاخة السمع لدمدمة العالم.

الهايكو: حبّ من

النظرة الأولى

كيف تسنّى لك اكتشاف هذا العالَم السِّحري الذي يُدعى شِعر الهايكو؟

■ كنت في الـ 28 من العمر. وكنت قد أنجزت للتو أطروحتي للدكتوراه في علم الاجتماع حول [مستقبل البشرية في تمثلات الأدب وسينما الخيال العلمي]. تعاطيت مع الكثير من النظريات، مع التجريد، والتصورات، الشيء الذي كان مثيرا وأخَّاذا طبعا، ولكنَّه أيضا، من زاوية أخرى، كان جافًّا شيئا ما. وقتها أعارني أخي الأكبر أنطولوجيتان للهايكو الياباني: واحدة أنجزها روجير مونيي، [هايكو] وتلك التي أعدها موريس كويو، [نمل بِلا ظِلال]. الحبّ من النظرة الأولى حصل فورا. كان لديَّ انطباع أنني عثرت على "مسقط رأسي" على موطني الأصلي، كل ما كان يكتسي أهمية لديَّ خلال طفولتي موجود ها هنا؛ الصَّمت، التأمل، الإحساس بالاتحاد ووحدة الشعور مع الطبيعة... كل هذا ريَّحني بشكل جارف. بدل التحدث عن اكتشاف، سأستعمل بالأحرى عبارة: استعادة العلاقة. الأمر شبيه بأن تلتقي في الطريق بصديق قديم لم تره منذ زمن بعيد.

ما هو توصيفك لقصيدة الهايكو؟

■ بقدر ما أتقدم في العمر، بقدر ما أدرك أن الأشياء الجوهرية ليست في حاجة تماما لتوصيفات، ولكن حسنا، لنحاول رغم ذلك... الهايكو قصيدة قصيرة جدا تحاول أن تلتقط حقيقة وسحر لحظة من الحياة. تقليديا كانت تُكتب على ثلاث وحدات (من 5،7،5 مقاطع)، من دون قافية. من أصل ياباني، كان الهايكو يستوجب الكيـﮕو ( كلمة تربط القصيدة بدورة الفصول) والـ كيريجي (كلمة للوقف، تخلق قطعا وارتجاجا في قلب القصيدة نفسها) لكن اليوم، في اليابان كما في بقية العالم، لم تعد هذه القواعد تُتَّبع من قِبل الجميع، ثمة قصائد هايكو بدون موضوعة موسمية. قصائد هايكو بمقاطع أكثر أو أقل من الـ 17. قصائد هايكو مقفّاة..

 إذًا، كيف سنعرِّف هذا الجنس الشعري؟ ما يبدو لي جوهريا في الهايكو، هو أن عليه ألّا يعبّر عن الأشياء سطحيا، أن يتَمَيَّز بموهبة الإيجاز واللامقول والإيعاز. "الكلمات التي لم نقلها هي أزهار الصمت"، تُوضّح حكمة يابانية. ربما هذا هو جوهر الهايكو: القول من دون أن نقول. ترك الأشياء تحدث وتركنا نحس بها، بدل الإيضاح والبرهنة أو البهرجة الخطابية. الكتابة بالتجاويف والفراغات، بدل الامتلاءات.

□ كيف تقيِّم قواعد فن الهايكو؟ هل علينا الانضباط لجميع القواعد، لبعضها، أم بإمكاننا كتابته بنوع من التحرّر؟

 ■ القواعد مهمة كنقطة انطلاق. أن نتعلم تكثيف انفعالنا في 17 مقطعا، بتحاشي التعابير الثرثارة والتفسيرية.. قد يكون هذا تمرينا مفيدا. وأيضا تجاوز القافية بالنسبة لبعض الآذان المعتادة على القصيدة الكلاسيكية والتي يستعصي عليها الإفلات من زاوية الكتابة هذه. الشيء نفسه في ما يتعلق بالموضوعة الموسمية والوقف.

كل هذه القواعد التي تبدو قسرية ومُلزِمَة قد تكون ذات جدوى في المراحل الأولى، لأجل الانعتاق من أحكامنا المسبقة وعاداتنا الأسلوبية. في الغرب، الشعراء، المبتدئون منهم خاصة، غنائيون، يستعملون العديد من الصور، الرموز والمجازات. في اليابان، حيث حدائق الزن الجافة، الإحساس أكثر تجميعا وإيجازا، أكثر استمرارية، وأكثر استبطانا.

هذا يعني، أن هذه القواعد الصورية، حتى وإن لم يتم استبعادها، فهي لا تشكل جوهر فن الهايكو. علينا ألا نخلط بين لِحاء الشّجرة ونُسغِها. مُعَلِّمُو الهايكو الكبار نفسهم (باشو، إيسا...) لم يكونوا دوما منضبطين لنظم الـ 17 مقطعا. يجب ألا يصير هذا الأمر هاجسا مستحوذا أو غاية في ذاتها. بول كلوديل - الذي كان لزمن سفيرا في اليابان- يُحذّرنا: "يجب أن تحوي القصيدة عددا يمنعنا من العدّ". أو أيضا: "لا عدد ولكن فقط عطر خفي". عطر الوئام هذا والعمق السّاحر هو ما يجب أن نحاول التقاطه.

نفس الشيء بالنسبة للكيـﮕو (الموضوعة الموسمية)؛ أعتقد أنه ليس ضروريا ــــ بشكل حتمي ـــ أن نُقَلِّد أعراف السلف الياباني. زد على ذلك، أننا مختلفون على مستوى الحقائق المناخية، الثقافية والفلكلورية. لا شيء أفظع من "التَّيَبُّنِيَّة Japonisme"، كالتَّغني بأزهار الكرز في الربيع أو بأوراق القيقب في الخريف، رغم أن هذه الأشجار لا وجود لها في بلادنا.

في ما يخصّني، منذ البداية أكتب الهايكو الحر. هذا يتيح لي تكييف النَّظم وإيقاع قصائدي بالانفعالات التي تحملها. وألاحظ أنه على مرِّ الأعوام والكتب، صارت قصائدي أكثر فأكثر أميل إلى التكثيف، التركيز، وأشد تماسكا.

"أرجوحتان

ساكنتان

إحداهما أكثر ثباتا من الأخرى" 

في ما يتعلق بالهايكو، كما في العديد من مجالات الحياة، أنا نصير الحرية. هذا لا يعني أبدا أن كل شيء مباح وأننا يمكن أن نلصق بطاقة "هايكو" على أي نص قصير. الهايكو ليس لا أفوريزما ، ليس قولا مأثورا، ليس قاعدة ولا حكمة. ليس نصيحة أو استغراقا فكريا عميقا حول الحياة. ولكنه هنيهة، لحظة دوخة ونشوة عالقة في الخلود.

عليه إذا ألا يكتفي بأن يمثّل قاعدة أو نظرية. الهايكو الناجح يولِّد أسئلة أكثر مما يمنح أجوبة!

ما الذي يضيفه الهايكو للشاعر؟

■ كتابة الهايكو قد تساعد الشعراء على إصلاح ذات البين مع العالم المحسوس، الحقيقة المبتذلة، رغم نقائصها ومحدوديتها. الجمال لا يسكن فقط هناك في الماوراء، في موضع آخر، في الأعلى، في عوالم الخيال، في أسراب "الفراديس الاصطناعية" (إن استشهدنا ببودلير). الجمال يختبيء أيضا في الأشياء الأكثر بساطة وتواضعا، المزدراة، العادية أكثر. ليس الموضوع المنتقى هو ما يصنع جمال الهايكو، ولكن كثافة واتساع النَّظرة:

ما زالت تقول "مرحبا بكم"

ممسحة الأرجل

المرمية في المهملات

كتبتَ رواية جميلة مطرّزة بقصائد هايكو. هل يفتح الهايكو إمكانية لكتابة [رواية – هايكو]؟ 

■ كتابي الأول "ضحكة اليراعات" جمع بين حكايات مستقلة وقصائد هايكو. مع كتابي الثاني "ما الجديد اليوم؟" حاولت أن أذهب أبعد من ذلك وزاوجت بين السرد وبريق الهايكو. ولكنني لست لا الوحيد ولا الأول الذي جرّب هذه المصاهرة. أفكر في يوميات السفر [الهايبون] التي كتبها (باشو)، في مذكرات كل من (إيسا) و(شيكي). وأيضا "وسادة العشب" لسوسيكي، وهو عمل "روائي ـــ هايكوي" (زد على أن هذا التعريف له منذ 1906).

اليوم، ثمة كُتَّاب أكثر فأكثر من خارج اليابان، يحاولون هذا الشكل من الكتابة. أفكر مثلا في أوبير حدّاد وعمله "ما". ولكن الخلطات المقترحة ليست دائما مُقنعة. لدي انطباع أنه أحيانا، النص السرديّ يسحق الهايكو، وأن هذا الأخير لا يتمتَّع بكامل وهجه الذي يستحقه.

على نصوص الهايكو التي تؤثث رواية أو نصا نثريا ألَّا يكون لها دور زُخرفيّ فقط أو تعبيري: (الإسهاب في انفعالات النص السردي). بل عليه أن يكون البوابة السرية لولوج السر الخفي للعمل الأدبي.

الأطفال إسفنج حقيقي

كتبت أيضا كتبا للأطفال، لماذا أغوتك عوالم الطفولة؟

■ كتبت كتابي الأول الخاص بالطفل "الخصر الناصع البياض للأرنب البري" حينما صرتُ أبا في 2003. قبل ذلك لم أفكر قط في التأليف للأطفال. بعد أن استقبلت طفلي الأول، ثم الثاني بعد ثلاث سنوات، وأنا أتأملهما وهما يكبران ببطء ويخطوان خطواتهما الأولى في مملكة الكلمات، رغبتُ في أن أتحدث إليهما بصمت من خلال الكُتب، أن أصيخ لأحلامهم، لأسئلتهم، لمخاوفهم وهواجسهم. رغبت أيضا في أن أقول لهم أيّ طِفلٍ كُنتُه (ومازلتُه حتى الآن، في أعماق قلبي). في حكاياتي وقصائدي للشبيبة، أستعمل كلمات بسيطة وليست تبسيطية. الأطفال يستطيعون إدراك وفهم أكثر مما نظن. علينا ألا نربيهم في مزهرية مغلقة.

وهكذا، في كتاب "غدا الأحلام" طرقت مأساة العطالة، الأزمة، وفضحت فيه ضياع التكافل الإنساني الذي صنع الخراب في مجتمعاتنا الحديثة. ولكنني أقترح فيه أيضا الحُلم، الأمل، ميول القلب، المشاطرة، والإصغاء للآخر…

الآن وبعد أن صار ولداي على أبواب المراهقة، لدي رغبة في الكتابة "للكبار". أرى أنه من الجميل مرافقتهم هكذا، على مدى نموهم، ليس فقط بأوامر ونصائح الراشدين، ولكن بثمرة خيالي وحساسيتي.

في تجربتك الجميلة المتعلقة بورشات الكتابة الخاصة بالهايكو والتي شرعت بتنظيمها لصالح تلامذة المدارس منذ عام 1999، ما الذي تسعى لتعليمه للأطفال والمراهقين بصدد الهايكو؟

■ منذ الحضانة، يطرح الأطفال أسئلة وجودية كبيرة؛ "ما الذي نفعله على الأرض؟"، "ماذا سيحدث حينما تنتهي الحياة...؟"

هم يستطيعون التماهي مع أوجاع حيوان أو شجرة، لنستمع للطفل (جمال) في هذا النّص:

تكبُر وحيدة

حَدّ أن ظهرها ينحني

شجرة القيقب 

الأطفال إسفنج حقيقي، مُخْتَرَقُون بغرائب الكون كما بعنف المجتمع. الشِّعر حتما لا يستطيع تَسْوِيَة كُلّ المشكلات، ولكنه يساعد الأطفال على ارتياد وسبر مشاعرهم، على التعبير عن حقائقهم الداخلية، حتى وإن كانت مؤلمة. لنستمع إلى الطفلة (لِيَّا): 

في ليلة جُمعة

شديدة العتمة

لم أَجِدْني

رَشْقُ الكلمات عَلَى كَربِنا يسمح لنا بأن نتلافى الانسداد الفظّ للقلوب. فتستعيد الحياة خفقانها...

الكتابة لا تقتصر على تحبير الورق. علينا أن نعثر على الموسيقى الصغيرة التي تربط الكلمات ببعضها. أطرح دائما هذا السؤال على الأطفال: "بأي شيء يَكْتُب الشُّعراء؟". فيُفاجؤون عندما أُجيبهم: "بآذانهم".

كل فن الهايكو يكمن هنا: أن تدع الصمت يتنفَّس، أن تمنح صدًى لِأَشياء الوجود، استراق السمع لأضأل خشخشة للحياة. كيفية التواصل مع عواطفنا العميقة بغض النظر عن الجَلَبَة الأبدية لمجتمعاتنا الاستهلاكية. أطفال كثر يشاهدون التلفاز إلى وقت متأخر ويصلون إلى المدرسة في الغد، بعيون تحوطها الزرقة وبذهن مطفأ. الشِّعر يعترض على هكذا تطعيم عليل. يحفر فينا سماوات حُلْمِيَّة وانذهالات. لنستمع لأودري:

في كيس

قرب سريري

أصداف البحر تُقرقع

الأطفال بطبعهم حساسون للغبطات الضئيلة والعابرة؛ [المشي على الأوراق الميتة. الشعور بالقرقعة المتلألئة لندف الثلج على وجوههم. تأمّل انعكاس شمس الغروب على ظهر نملة...]

كُلُّ جَمالٍ عابر. الأمر يتعلق بانبجاس غير مُتَوقَّع. قد نكون هنا شاهدين عليه وهو يحدث وقد نعبر بجانبه دون أن نلحظ شيئا. هذا - أعتقد - هو الأكثر أهمية واستعجالا لإبلاغه: "استدعاء الأطفال ليكونوا أكثر حضورا في الحضور". لننصت لأولفا:

قوس قزح

يُؤثر في ملامحي

ولكنكَ لم تلحظ شيئا

مثل قوس قزح، الغبطة هشَّة ومُتعذِّرٌ إِمْسَاكُها ، لا يمكننا احتجازها في خَزنة. كلّ حياة تنتهي بالتلاشي. الشِّعر يُتيح للأطفال اكتشاف هذه الأحاسيس. لنستمع للطفل فورون:

تنفق القطّة

ولكن سحرها

يبقى فيها

هدف ورشات الهايكو هو الغوص تحت المظاهر (كل طفل، في الصف، يلعب دورا، المجتهد والأقل منه) والاقتراب من الحقيقة العاطفية لكل واحد. حينما يحدث هذا، يكون الأمر بمثابة هدية للجميع. ما زلت أرى ذاك الصبي المرتبك قليلا من ضواحي (أبفيل) يسرد علي بسرعة هذا النص الجميل: 

وأنا أمنحها خبزا

يسافر قلبي في قلوبها

هذه النوارس

من الذي يُعلِّم الآخر؟ ومن الذي يُعطي للآخر؟ إنه السؤال الكبير الذي ما أزال أطرحه على نفسي بعد 17 عاما من الورشات مع أطفال المدارس؟

الحكمة رؤية الجديد في المألوف

من هم شعراؤك الأثيرون من شعراء الهايكو؟

■ من بين الشعراء اليابانيين القدماء، أنا معجب بالسُّخرية غير الموفِّرة والحُنُوّ اللانهائي لإيسّا. أكنّ أيضا محبة كبيرة لسانتوكا وهوساي، لأصالتهما وأسلوبهما الحرّ. فيما بعد، أثرت بي كتابات نيجي فويونو، الشاعرة الشديدة الرهافة التي كنت محظوظا بلقائها في باريس. كتاب "الأعشاب تستدعيني" هو ترحال عبر قصائدها هي وزوجها (ريو يوتسويا)، الذي يُعَدّ بدوره شاعر هايكو لافِتاً.

□ ومَن مِنَ الشعراء الذين بصموا أكثر تجربة تيري كازال؟ 

■ في مراهقتي كنت ممغنطا تماما بأشعار أرتور رامبو وبوجه خاص بعمله: "إشراقات". ثم جاء بعده ريني شار، غيوفيك، روبيرطو خواروث، هنري ميشو... كتابات كثيفة ووعرة مثل جروف... الالتقاء بالشعراء اليابانيين غيَّر جذريا طريقتي في القراءة والكتابة. كانت لي الرغبة في الذهاب نحو مزيد من الزُّهد والبساطة. أجمل نصوص الهايكو تمزج الشَّفافية بالعمق، الرشاقة بالنّضارة، كما شلَّالات جَبَلِيَّة.

ما هي الكتب التي أثرت تأثيرا لافتا بتيري كازال؟

■ من العسير حصر لائحة كل الكتب التي أثّرت بي. الأمر شبيه بالغابة. قد يستحيل القول إن هذه الشجرة أو تلك هي التي تُكَثِّفُ كُلّ الغِنى الجمالي للغابة. ولكن حسنًا، لأحاول أن ألعب اللعبة؛ في المقام الأول، أضع حكايات وأساطير الأمم. الأساطير الإغريقية وألف ليلة وليلة تعد قوتًا لا ينضب للروح. في نفس المستوى سأضع "الأمير الصغير" لسانت إكزوبيري، الذي أعيد قراءته كل عشر سنوات، وأعثر فيه كل مرة على كنوز جديدة. في المراهقة أيضا أغوتني روايات كافكا "المحاكمة، القصر..."، جورج أورويل في عمله "1984"، دوستويفسكي في "الأبله والشياطين"... أحب الأدب الذي يطرق الأسئلة الكبرى للوجود والميتافيزيقا...

اكتشاف الهايكو جعلني أدرك أن البحث عن الجوهري لا ينحصر فقط في "الأفلاك العليا للتفكير"، ولكنه أيضا يتأصَّل على مستوى اليوميّ، في التفاصيل الصغيرة للحياة المحسوسة. كل شيء يمكن أن يكون منبعا للدهشة والاستنارة: [ظِلّ يَد، البخار الهارب من كوب شاي، نملة تجري على مائدة فارغة...]. "الحكمة هي رؤية الجديد في المألوف بالتصالح مع العالم كما هو، ثمة كنوز مخفية في اللحظة"، كما ينصحنا الشاعر الياباني سانتوكا.

ومع ذلك ، فضولي الأدبي لا ينحصر في الهايكو فحسب، الأمر أبعد من ذلك. آخر ما سحرني شعريا: "قصائد من الهملايا" لكو آن والعمل الشعري الأخير لفرونسوا دافيد.

ما الذي تعنيه لك هذه الكلمات:

 الشِّعر؟

■ حينما نجرؤ على الكتابة ليس ضد الصمت ولكن بِمَعِيته.

الأزهار؟

■ منذ رونزار وحتى شعراء الفرس، الزهرة كانت رمزا كليّ الحضور في الأدب. أُفَضِّل البنفسج وزهرة أذن الفأر.

الحُبّ؟

■ الخروج من الحَصِينة الضيِّقة لـ"أنا-أنا" واكتشاف أن الحياة مُجَاوَزَة أبدية...

المرأة؟

■ لا أعرف ما هي "ال" مرأة. في نظري ثمة نساء، كلهن مختلفات، متفرّدات، غير قابلات للحجز. هذا ما يلفتني لدى الكائن البشري: "الفرادة". وليس تشابهه مع أنموذج معد سلفا أو انتماؤه إلى مجموعة نمطية.

الطفولة؟

■ "الطفولة هي بئر الكائن" كما يقول غاستون باشلار. إنها النبع الأصلي الذي يمكننا الرجوع إليه طوال حياتنا لإعادة إحياء وإنعاش أفكارنا، رغباتنا، وأحلامنا. على "الراشدين" أن يصغوا جيدا للأطفال، خصوصا في لحظات اتخاذ قرارات جوهرية تتعلق بمستقبل البشرية.

الصداقة؟

 الكثير من الناس يسعون للحصول على أكبر عدد من الأصدقاء حتى يتلهّوا عن وحدتهم. ولكنهم نادرون هم أولئك الذين يسعون ليصبحوا أصدقاء لأنفسهم. لأنه، لأجل هذا، سيحتاجون لكثير من الصبر وكثير من الصَّمت.

الفصول؟ 

■ الفصول استعارة للخلود. كل شيء يتبدل باستمرار، كل شيء يتحول، ولكن كل شيء يعود بلا انقطاع إلى نقطة البدء. فصلي المفضل هو الخريف، مراعاة للفقد، للعوز، تسهيل لما قبل العبور الشتائي الأعظم... "الخريف مِنخَل. الشتاء مرايا." كما يُذَكِّرنا تشاو ـــ تشان.

الحياة؟

■ هِبَةُ الهِبَات. كثيرون يتقاتلون لمعرفة من يَحُوز العلبة الأكبر أو ورق التلفيف الأكثر لمعانًا، ناسين، بالنهاية، أن الحياة ليست مباراة وإنما عُرس.

الشعراء؟

■ حدائق صمت تحفر تحت سطح الكلمات لتفجير نبع الأنساغ المغذية.

الموت؟ 

■ إنه الغربال العظيم. ما الذي سيعبر خلال ثقوب هذه المصفاة المهولة؟ بداهة: ليس المال، ولا الانتصارات، لا الممتلكات، ولا حتى الإيديولوجيات، والمعتقدات. ما سيعبر، ربما هي موسيقى قلوبنا كي تَتَّحِد بموسيقى قلوب الآخرين.

الجمال؟

■ ثمة جَمال سَطْحِيّ محض: مجلّات الموضة، الأجساد الرياضية، الأشياء المزخرفة ببريق خدّاع...

 وثمة الجمال الأعمق، الجمال الأكثر سريّة، الذي يتجاوز المظاهر ويسقي العوالم الجوانية. جمال طفل وهو يلعب مع قطعة خشب. جمال عصفور عابر. جمال وَجْهٍ عجوز  يُسائل شمس الغروب..

الليل؟

■ المرآة الأرحب. كل إنسان، حتى الأكثر فقرا، الأكثر إفلاسا، يستطيع أن يرفع رأسه لسماء الليل ويرى صورته كما هي عليه تماما، أي، نجما بين الأنجم.

النهار؟

■ "يوم الحساب يحدث في كل يوم"، كان يقول ألبير كامو. كل يوم يتيح ألف إمكانية وإمكانية لإنقاذ العالم أو لتدميره.

الفراشات؟

■ لو نستطيع العيش كما الفراشات، متطايرين بحرية من حديقة إلى أخرى، باسطين قرون استشعارنا لنشيد الريح، لن تكون هناك حروب على الأرض. ربما في يوم ما ستتوقف أفكار البَشَر عن الزحف وستصير لديها أجنحة، كالفراشات...

الفَنّ؟

■ إِنَّه نضال ضِدّ اللامبالاة، ضِد جمود العاطفة وتَبَلُّد الحِسّ، ضد عجرفة من يَدَّعي معرفة كل شيء. الفن هو علامة الاستفهام العظمى التي تحوم فوق العالم.

الموسيقى؟

■ في نظري (أو الأحرى في سَمْعي)، الموسيقى هي الفنّ المطلق. ما يؤثر بي في أشكال التعبير الفنية الأخرى، هو أولا الموسيقى. موسيقى الكلمات والجمل في الكتابة. موسيقية الألوان في الفن التشكيلي. موسيقى الجسد في الرقص. نعم، الموسيقى ليست مجرد شكل فنِّي ضمن الأشكال الأخرى، إنها الفنّ الأوّل، الهيولى التي تسيل منها باقي الفنون.

تيري كازال؟

■ حينما سأنساني تماما، ولا أعود أعرف مطلقا من أنا، حينها فقط ربما سأقترب أكثر من تيري كازال على حقيقته...

منتخبات من هايكو تيري كازال  

بمخالب مُشرعة على السماء

الشحرور الميّت

ينتظر معي الباص.

***

على امتداد سكة الحديد

متجاهلة كل المواقيت

تزهر أشجار الكرز

***

أقدام عارية في الرمل

لا نعل بيني

وبيني

***

بيدين خاليتين جِئْتُ

شجرة الصنوبر وأنا

نصنع ظلا واحدا

***

أمنحه

كل الوقت الذي يحتاجه

ظِلِّي الذي يرشف الشاي

***

شتاء طويل

أبري قلمي لأستطيع بشكل جيّد

ألا أكتب شيئا.

 

***

يوم عيد الحَظّ

ابني يفجِّرني

بثمار تين صغيرة

 

***

رجل

يتلقفه الضباب

نادرا ما يحدث العكس

***

الشَّمعة جديدة تماما

ومع ذلك كأنّ الشُّعلة

تعرفني

***

بِذَيْلِ أجنحتها

تحاول الفراشة أن تطوي

الحديقة.

***

على راحة يدي

أقيس نور

شجرة الزيتون المزهرة

***

فقط قليل من الريح

يكفي ليُحيل رجل الثلج

إلى ساقية

***

حصاتان مكان العينين

رجل الثلج يتأملني

كما لو أنني غير موجود

***

كل شيء جديد

اليوم حتى

الكلب العجوز

منتخبات من شعر تيري كازال 

-1-

الأطفال

الذين بَتَرت القَنَابِل

أيديهم وأرجلهم

سننتظرهم على مدخل الجنّة،

علينا أن نعيد إليهم

كل أُصبع

كل أُذن

وأيضا 

كلّ الرَّغْوَة العَطِرَة للصَّابون

زَبَدُ نَبْتِ الحَرَاج 

لَثْمَات الرِّمَال النَّاعمة

اللَّسعات العذبة

لندف الثلج

وكل العالم اللانهائي

الذي لم يتمكنوا

من لمسه.

-2-

أتَسَلَّق قطرةَ مطر

ثم تلك التي جنبها 

ثم أخرى 

وأيضا أخرى، 

البعض يقول بأنني أطير 

بينما أنا

أحاول فقط 

أن أبقى

واقفا  في

سيلان العالم.

-3-

هل أنت ملاك الحياة 

الذي يجعل القلوب تخفق ويشرع الأجفان؟

- "نعم" 

هل أنت ملاك الموت 

الذي يمحي الوجوه ويقضم العظام؟

- "نعم" 

مستحيل أن تكون الشيء وضده!  

- "نعم"  

وإذا من أنت؟ ما هو اسمك الحقيقي؟

- "نعم" 

-4-

 في إحدَى المساءات

سَأَقْطِفُ نجمةَ بَحْرٍ 

طائر أبو الحنّاء 

نَمِرَ ثُلُوج

ساق نبتة الخَلّنج

حوت بحدبة 

سأضعها جميعها

في قعر كفّي

ثم سأنفخ فيها

طوييييييلا  

بأناة 

بِحُبّ 

حتّى أُحْمَلَ معها

جميعا

إلى نقطة البداية. 

-5-

ربما كلّ الأشياء

حتما كل الأشياء

ليست سوى ملائكة 

البِزْرَاتُ العالقة بين أسناننا

الحَصَى تحت جواربنا 

حبَّات البَرَد التي تثقب أسطح المنازل

ربما القنابل النووية 

نفسها

ملائكة 

تنتظر

خلف أقنعتها الشنيعة

أن نتعانق 

من فوق الحدود.

-6- 

منذ الفجر  

بطاقيته المثقوبة 

يقلّب القمامة

في المدينة الشاسعة

 باحثا عن

نظرة 

عن ابتسامة 

عن وميض،

الملاك بطاقية مُثَقَّبة

يقلّب القمامات

في المدينة الكبيرة

باحثا عن مدخل ما

إلى

قلوبنا الجامدة.

-7- 

طائر قرقف

يزورني كل يوم 

لا يسألني شيئا 

لا أسأله شيئا

 أمر جيد

أن تكون اثنين 

وواحدا في العالم

-8-

في أي اتجاه توجد الجنة؟ 

عين الجَمَل 

لا تتوقف

عن علك

نور شمس المَغيب.

من مؤلفات تيري كازال

- ضحكة اليراعات (حكايات، أفوريزمات وقصائد هايكو)، 1997/ 2004.

- ما الجديد اليوم؟ (رواية مطرّزة بقصائد هايكو)، 1998.

- الخصر الناصع البياض للأرنب البري، 2003.

- غدًا الأحلام، 2015.

- الأعشاب تُناديني (هايكو)، 2012.

- وجه الثلج (شعر)، 2010.

- صديقي ميرلان (حكاية)، 2006.

كلمات مفتاحية

أدب مترجم آرثر رامبو الثقافة الفرنسية الشعر