الموسيقيّة الفلسطينيّة هدى عصفور: البحث عن وطن عمليّة معقّدة

رشا حلوة 10 سبتمبر 2018

أصدرت الموسيقيّة الفلسطينيّة هدى عصفور مؤخرًا ألبومها الثاني بعنوان "كوني"، ويضمّ 9 أغنيات أهدتها إلى "كل اللاتي شكلنَ حياتها بطرق مباشرة أو غير مباشرة"، وصدر الألبوم بدعم من "الصندوق العربي للثقافة والفنون - آفاق".

بدأت فكرة الألبوم عندما قرأت هدى قصيدة "صدفة" للشاعرة الفلسطينيّة فدوى طوقان، وتأثرت بالقصيدة وجرأتها. وعن هذا تقول في بيانٍ صحافيّ: "وجدت في القصيدة جرأة كبيرة في التعبير عن مشاهد تلتقي فيها امرأة برجل، والمشاعر التي يحملها هذا اللقاء، بما في ذلك إهداء القصيدة له بكل وضوح وبلا خجل ومع شفافية بالمشاعر. بالإضافة إلى أن السياق الزمني والسياسي آنذاك، الذي كان يفرض خطابًا ما على القصائد، أعطى بعدًا إضافيًا لأن تكون قصيدة من شاعرة عربية بمثل جرأة الحبّ هذه، وهذا قمة في الجمال".

وُلدت هُدى عصفور في لبنان عام 1982، وبعد ولادتها ذهب والدها إلى سورية ومن ثم لحقت به والدتها. عاشت العائلة عامين هناك إلى أن انتقلت إلى تونس. حضرت الأغنية والثقافة في أجواء العائلة بشكل طبيعي لأسباب عديدة، أوّلها أن جدّها، ابن مدينة عكّا، هو الكاتب ذو النون جرّاح، كما أن خالتها هي الشاعرة والكاتبة سلوى جرّاح، فترعرعت هدى في بيت يغني أغاني من كلمات سلوى خاصّة في بغداد، حيث حضرت الموسيقى فيه دائمًا.

روت لها والدتها، لينا جرّاح، عن جلسات الموسيقى في بيتهم في بغداد. وعن هذا تقول هدى "أمّي كانت تغني دائمًا، صوتها جميل جدًا. كانت لديهم فرقة للعائلة، تضم أمي وخالاتي في شبابهن، 4 أصوات نسائيّة مدرّبة كأنها كورال.. في تونس عشنا في جوّ سياسيّ، لكنه كان داعمًا للفنّ. بإمكاننا أن نختلف مع منظمة التحرير الفلسطينيّة بكل شيء، لكن ذكرياتي في تونس مليئة بالفنّ، الموسيقى، والسينما.. محمود درويش كان جزءًا من حياتنا، والأدب كذلك، وعشتُ في بيت شيوعي، كان تركيزه على الثقافة بديهيًا، وعلى الأغنية تحديدًا. أمّي تسمع الموسيقى من كل مكان.. لديها شغف بفرقة صابرين، ومحمد منير، والأغاني الوطنيّة، وأم كلثوم، وباخ، وموتسارت، وفيروز، ونجاة الصّغيرة.. هناك أغان لنجاة الصغيرة عندما أسمعها اليوم، أشمّ رائحة القهوة. كان هناك تركيز على النوعية، كما أن أمي ناقدة للموسيقى، وبالنسبة لها الموسيقى الملتزمة يجب أن تكون مستوى معينا. والأغاني كانت دائمًا حاضرة في البيت".

عندما كانت هدى عصفور في السابعة من عمرها، اعتادت أن تغني أغاني فرقة "صابرين" المقدسيّة في قرطاج، وكان ذلك ربما عقب أوّل عرض للفرقة في تونس عام 1989، وتقول: "هذه الأغاني جزء من هويّتنا كفلسطينيّين في تونس، وكان لأهلي اهتمام كبير بأن نكون جزءًا من المجتمع التونسيّ، وبالمقابل ترسيخ هويّتنا الفلسطينيّة، حيث أن إقامتنا هناك هي مؤقتة وسنعود إلى الوطن".

الحياة في غزّة

والتعرّف على الوطن

كان اللجوء جزءًا مركزيًا من حياة هدى عصفور، وشمل الانتقال من مكان لمكان، وكذلك موروث عائلتها، وتفاصيل البيت السياسيّة والثقافيّة، وبالنسبة لها كانت الموسيقى انعكاسًا للبحث المتواصل عن مفهوم الوطن، حسب تعبيرها. وتضيف: "ترعرعت في تونس كفلسطينيّة، وأصبحت تونس وطني بلا خيار، لأني تربيت فيها. عندما انخلعنا من تونس، ومن تجربتي كمراهقة ابنة 14 عامًا كانت التجربة بمثابة خلع، ذهبنا إلى غزّة، وشعرت فيها لأول مرة بإحساس أن أكون غريبة في وطني. كان لي شوق كبير لفلسطين، لكني عشت أشياء غريبة كثيرة، حتى على صعيد اللغة. فلغتي الثانيّة كانت الفرنسيّة وليست الإنكليزيّة. ولغتي العربيّة كانت قويّة دائمًا، فقد كان هناك إصرار بالبيت على اللغة والقراءة، وهذا ساعد كثيرًا. لكن كان ثمة انفصال اجتماعي بالنسبة لي، تجسّد في مواجهة تفاصيل لم أكن واعيّة لها من مكاني كامرأة. بنهاية المطاف تجربتي في غزّة لفتاة عمرها 14 عامًا، ليست مشابهة لتجربة فتى في نفس الجيل. فما من أخوة رجال لي، ولدي أخت وحيدة، والتجربة كانت قاسيّة. جئنا من مجتمع علمانيّ إلى حد ما إلى مجتمع فيه وجود قويّ للدين، والهويّة الإسلاميّة حاضرة بوضوح. تربيت ببيت شيوعي، لكني اخترت أن أكون مسلمة وأنا بسنّ 11 عامًا، وأهلي شجعوني وأعطوني أدوات للتعمق بفلسفة الدين، وتعاملت مع الإسلام كفلسفة طوال الوقت، ومن هذا المنطلق كانت الحياة في غزّة صعبة، رافقتها تخبطات لهويّتي الدينيّة أيضًا، وبالمقابل كان فيها من الجمال الذي يكمن بتعرفي على عائلة أبي. كانت التجربة مليئة بالتخبط، حملت لي سؤال ماذا يعني وطني فلسطين؟ بنفس الوقت تعرّفت على باقي الوطن، من عكّا والقدس وغيرهما".

ماذا يعني الوطن؟

مع ذلك ترى هدى أن هناك ما هو ناقص دومًا، وتتابع: "بكل الحالات هناك ما هو ناقص، وأنا في الخارج هناك نقص، وأنت في الداخل (أي بالوطن) هناك نقص، وهذا الاستيعاب مؤثر وينعكس على عملي. ضمن أوّل ألبوم "جاية ورايحة"، كان بحثي في هذا المجال عن الذات بعد تجربة الانتفاضة الثانيّة. تجربتي في غزّة كانت غنيّة من نواح كثيرة، في المعهد الوطني للموسيقى وعملي مع مسرح الأطفال، لكن التخبط كان حاضرًا دومًا. بعد الانتفاضة الثانيّة، أصبحت عندي نظرة سلبيّة قليلًا، كأنها بلا أمل، كما أداء ساخر لكل المفاهيم، وبدأت أدرك أني لن أفهم أبدًا ماذا يعني الوطن، كما يفهمه آخرون. حتّى والدتي عاشت ببيت جدي الذي بلا وطن، وكان العراق وطنًا بالنسبة لها، وفلسطين كانت وطنًا بمفهوم آخر. والدي ترك غزّة وهو ابن 17 عامًا، وبالنسبة له بنهاية المطاف يريد أن يعود للوطن. لكن المكان الذي تربيت فيه قال لي بأنه ليس وطني، وبالتالي فإن البحث عن الوطن عمليّة معقّدة جدًا".

تعيش هدى في واشنطن منذ عام 2005، حيث تعتبر أنه المكان الأخير الذي تخيّلت نفسها فيه. وتقول: "وصلت إليه مليئة بالغضب على أميركا والمنظومة الرأسماليّة التي تستعمرنا، إنه بلد مرتبط عندي بالحنق خاصّة بعد الانتفاضة التي خرجت منها حانقة جدًا على أشياء كثيرة في الحياة، وروحي متعبة، ووصلت إلى هذه المنظومة التي عندي ضدها مسلمات عديدة، لكن مع الوقت أصبح المكان بناسه يعطيني شعورًا أشبه بالوطن الذي يحكون عنه، برغم كل اعتراضي على سياسته الخارجية ورفضي لأني أكون جزءًا من المنظومة، وبدا أن العلاقات مع الناس تعطي شعورًا بالوطن. الوطن اليوم بالنسبة لي هو ليس شيئًا ملموسًا، إنما هو الناس والعلاقات الاجتماعيّة، خاصّة وأني لا أؤمن بالحدود الجغرافيّة، وكل مفهوم الوطن التقليدي. علّنا نبدأ الحديث عن عالم بلا حدود جغرافيّة، خاصّة في جيل مثل جيلنا يعرف إحساس أن تكون مواطنًا كونيًا، وأينما ذهبنا سنجد أناسًا يفكرون مثلنا، ونستطيع أن نتحدث معهم ونكون قريبين منهم".

بعيدة عن الأغنية التراثيّة

بالإضافة إلى مفهوم الوطن، يشغل تفكير هدى كثيرًا مفهوم التراث والأغنية التراثيّة على وجه الخصوص. "ما من إشكالية لدي مع الموسيقى التراثية، وأحترمها جدًا، كما أني ممنونة لمن يشتغل عليها"، تقول هدى. وتضيف: "لكن اليوم ما يعكسني كهويّة موسيقيّة لا يمكن أن يأتي من التراث فقط، والموسيقى تعكس ما أشعر به وإحساسي ليس قوميًا، حتى بفلسطينيّتي. هي قصّة ترحال، أن تكوني بلا قوميّة، أن تكوني جزءًا من كل شيء عشته بالعالم، وهذا هو انعكاسك الطبيعيّ. حتى باختياري للآلات الموسيقيّة، أنا اليوم بعيدة عن أن أعزف موسيقى شرقيّة بالمفهوم التقليديّ".

درست هدى عصفور مع الموسيقيّ الفلسطينيّ خالد جبران، وتربت على سماع محمد القصبجي وزكريا أحمد وسيد درويش ورياض السنباطي، وهي تحبّهم وما زالت تسمعهم، وجميعهم حاضرون في حياتها، كما تجويد القرآن، بالإضافة إلى سيزاريا إيفورا وبياتسولا وموسيقى الباروك وميليس ديفيس والجاز، وكلها تعبّر عن مشاعرها. وتعتبر هدى كلّ هذا بمثابة ترحال، وتضيف: "لكن ليس بالضرورة أن تكون لكل هذه الموسيقى علاقة مباشرة بالترحال الجسدي، هناك أناس لديهم هذا الوعي بدون أن يعيشوا ترحالًا فعليًا، بل لديهم فضول لمعرفة ثقافات أخرى. لكن الترحال الجسدي في حالتي ساعد على حدوث هذه العلاقة مع الموسيقى. وجودي في أميركا عرّفني على أنماط موسيقى أخرى أسمعها اليوم، ولم أكن أتخيّل أن أسمعها لو كنت في العالم العربي. في ألبومي الجديد "كوني"، هناك انعكاس واضح لهذا الشيء، من ناحية الدمج بين أنماط وتوجهات موسيقيّة مختلفة. وبالمقابل في العالم العربي اليوم نجد تنوعًا بالموسيقى المستقلّة والبديلة بشكل مذهل من ناحية النوعيّة، لا من نمط واحد، كما السؤال الذي يُطرح: كيف يمكن لجانر موسيقيّ مثل الروك أن يصبح جزءًا من الثقافة العربيّة؟ هل هذا بسبب الترحال؟ أو الاستماع إلى ثقافات أخرى؟ أو أن لثقافة الغرب ثقلًا حاضرًا يجعلها دارجة في كل مكان؟ في نهاية المطاف، كل هذا هو جزء من واقعي".

كسر الحدود الجغرافيّة والذاتيّة

في ألبومها الجديد "كوني"، الذي صدر في أيّار/ مايو الماضي، ترتبط سيرورة العمل عليه بمسارها الذاتي، كما عبّرت، حيث تُشغلها الهويّة، بكل ما تعنيه من معنى. وعن هذا تقول: "اكتشفت أن البحث عن الهويّة كان حاضرًا في حياتي بأشكال كثيرة، ومع مسار البحث كانت الإجابة أن الهويّة هي الحبّ. وهذا لم أكن أتوقعه، لربما من الغريب أن الهويّة والحبّ مرتبطان، لكنهما القوة التي تشغلنا بكل شيء؛ حبّك لمبادئك، للقضايا، للوطن، للمكان، للناس، للشجر.. وعندما بدأت أفكر بمفهوم الحبّ، وجدت كمّ الحدود المفروضة على هذه القوة، والتي تحدّها من التبلور والتوسّع كي تصبح قوة تدفعنا للتغيّير. كيف يحدث التغيّير بلا شغف والشغف مربوط بالحبّ بكل أشكاله؟ وهنا أصبح هناك تحد أكبر لهذه الحدود. أحيانًا أقول بأني من خلال ألبوم "جاية ورايحة" كنت أبحث عن كسر الحدود الجغرافيّة، أردت كوكبًا بلا مساحات محددة، لكن من خلال ألبوم "كوني" أنا أكسر الحدود المفروضة على الحبّ بالنسبة لي. وحتى أكسرها، اضطررت لأن أكسر حدودًا وضعتها داخلي، بلا إدراك، خاصة في سياق المجتمعات والثقافة التي نُربّى فيها، وفيها من المسلمات التي لا نفكر بها أحيانًا، فأصبحت سيرورة العمل على الألبوم بمثابة إعادة صياغة لنفسي".

"الموسيقى ليست

كل حياتي"

تأتي إيحاءات كتابة وتأليف الأغاني والموسيقى بالنسبة لهدى عصفور من تجاربها الحياتيّة الصّغيرة، حسب تعبيرها، فعندما تكون التجربة لها علاقة بالسياسة أو بكونها فلسطينيّة تكتب أغنية استنادًا إلى ذلك. وتضيف: "التجارب الشخصيّة أيضًا حاضرة، وهنا يأتي الصّدق. أستطيع أن أكتب ما أريد، يمكنني أن أُلحن جريدة، لكن بالنسبة لي هناك مبادئ أعيش فيها ومن أجلها، كوني فلسطينيّة أسعى للعدالة الاجتماعيّة بالعالم، والنابعة من هويّتي. لكن جزءًا مني يعيش تجارب، فأنا أكبر وأتعرّف على ناس، والموسيقى هي جزء من حياتي وليست كل حياتي، هناك الجانب الأكاديميّ وعملي بمجال البحث العلميّ، كما مشاريع أخرى على الصّعيد الاجتماعيّ، وكلها تجارب هي جزء من مشروعي الفنّي في نهاية المطاف".

في حديثنا عن الإيحاءات تعود هدى للحديث عن تجربة الحياة في أميركا، وواشنطن تحديدًا، فتقول: "أميركا هي نصف قارة، وواشنطن هي مدينة ذات خصوصيّة، هي في قلب الحوت، كل ما أكرهه في العالم موجود بالمدينة التي أعيش فيها، لكن فيها أيضًا أناس يحاربون هذه التفاصيل، ومن الطبيعي أن يكون لي انتماء لهؤلاء الناس الذين يحاربون هذه المنظومة، كما أن هنالك حالة من التضامن الإنساني الحاضن لمزيج من البشر القادمين من كل مكان في العالم، وهذا أيضًا يخلق حالة موسيقيّة عالميّة، فيها معالم من كل مكان.. أتحرك وأسمع وأرى وآكل من كل بقعة، وأنا في مكان واحد، وبنفس الوقت علاقتي بالمدينة ليست حميميّة دومًا، فيها الكثير من الألم. ومع وجود دونالد ترامب في الحكم، هناك حالة سياسيّة في أميركا لم أعشها من قبل، فجأة هناك جيل واعٍ يعرف أن هذا ليس ما يريده، ما خلق وعيًا سياسيًا جعل المدينة أكثر حميميّة، حيث أن كلنا نعمل لنفس الهدف، وهو العدالة الاجتماعيّة في هذا العالم. وهذا هو ما وحدّني مع الناس في واشنطن، وما ينعكس في المنتج الفنّي، كما اللقاء بموسيقيّين يعيشون نفس التجربة بشكل آخر، خاصّة تجربة الهجرة والترحال".

كلمات مفتاحية

أدب فلسطيني الاحتلال الإسرائيلي التغيرات الهوياتية التهجير الفلسطيني الموسيقى العربية