خلدون النبواني: نحن محكومون بالغربة والاغتراب (2/2)

عارف حمزة 8 ديسمبر 2019
حوارات
"ماضٍ بالدفاع عن سورية وهذا واجب أخلاقيّ وحس إنسانيّ"
عادة ما يكون الحوار شيقاً مع الدكتور خلدون النبواني (1975)، العضو المنتخب في معهد العلوم التشريعية والفلسفية في جامعة السوربون منذ عام 2017، والذي يجعل كلّ إجابة منه مفتتحاً لسؤال آخر. وآثرنا أن نجري هذا الحوار مع صاحب "في بعض مفارقات الحداثة وما بعدها"، ونسمع رأيه من وجهة نظر الفلسفة حول الكثير من القضايا، خاصة وأنّه بالإضافة إلى كتبه الشخصيّة ومقالاته التي تُترجم إلى لغات أخرى، ترجم عن الإنكليزيّة والفرنسيّة كتباً لاقت رواجاً لدى القارئ العربي.

في هذا الحوار نحاول معرفة الآراء ووجهات النظر المعاصرة بعد اندلاع ثورات الربيع العربي، وعودة البشريّة إلى أحضان التوحش واليمين المتطرف والاسترقاق الحديث، وكذلك عن المنفى والوطن، وعلاقة الشعر بالفلسفة وغيرها من القضايا. هنا الجزء الثاني والأخير منه:


سطح الأرض المشاع والمنافي
(*) كيف تنظر الفلسفة إلى مسألتي المنفى والوطن؟ خاصة وأن أبناء بلدك غادروا بلدهم، طواعية أو بالإكراه، إلى منافٍ كثيرة؟
- لا شك أني لستُ الناطق الرسمي باسم الفلسفة ولا الوحيد، ولا يستطيع أي فيلسوف الادعاء باحتكار مواقفها، لكن وجهة نظري الفلسفية الشخصية من مسألة المنفى تنطلق من الإتيمولوجيا لكلمة exsĭlĭo   اللاتينية والتي تحيل معانيها الكثيرة إلى حركة قذف واقتلاع من الداخل إلى الخارج، أي رمي شخص ما خارج أرضه ومكانه بقوة طردية. وبهذا المعنى لا يمكن أن يكون المنفى إلا إجبارياً لا طوعياً.

على عكس حركة القذف هذه واللفظ نحو الخارج، هناك اللجوء والذي هو حركة جذب نحو داخل آخر، أي وطن جديد. فإذا كان النفي بالإكراه فإن البحث عن ملجأ هو سعي شخصي ونداء غريزي للنجاة والاستقرار في وطن جديد، قد يصبح وطناً جديداً أكثر حميمية وألفة من وطنٍ طُردنا منه.
هذه القصة تتكرر رمزياً منذ طرد الله لآدم من الجنة وبحث هذا الأخير عن وطن، لم يجده فقط على الأرض (التي ليست أسفل أو أدنى من السماء حيث الجنة، كما تؤكد لنا قراءة سفر التكوين) وإنما أيضاً في حواء، الأنثى.
لا شك في أن "امتلاك الأرض" هو من فتح باب المنفى وضرورة الاعتراف – دون إلغاء الملكية الخاصة – بأن "الأرض ليست ملكاً لأحد" كما أكد روسو، وبالتالي للناس جميعاً "الحق في الملكية المشتركة لسطح الكرة الأرضية".


(*) كيف يمكن إشاعة سطح الكرة الأرضية من دون التخلي عن الملكية الخاصة، والتي هي أصل نشوء الدولة وتنظيم حياة البشر إذاً؟
- إن ما يبدو متناقضاً هو ما سعت الفلسفة لجعله قانونياً وأخلاقياً؛ فالدولة التي هي صاحبة الملكية الخاصة بشكل ما على أراضيها، تكون مجبرة، أخلاقياً وقانونياً، على فتح أبواب ملكيتها الخاصة أمام الغريب ليجد فيها الملتجأ، بما أن سطح الأرض لا يجب أن يكون ملكاً لأحد بشكل حصري.


من روسو إلى كانط خطت الفلسفة من الأخلاق إلى المعيارية القانونية خطوات هائلة، لكن كانط ربط حق اللجوء، أو ما يسميه بحق الزيارة وواجب الضيافة، بصلاحيات فضفاضة لصاحب الأرض، وحقه في رفض استقبال القادم؛ لأن الأمر هنا هو من باب الواجب (وهو إلزامي أخلاقياً) عند كانط، لكن ليس من باب التشريع والحق القانونيّ.
والحق يقال إن رؤية كانط هي السائدة والمسيطرة اليوم، بخاصة في أوروبا، من خلال قوانين اللجوء والحماية، لكن مع نزوع مضطرد، بكل أسف، نحو رفض حق الزيارة وواجب الضيافة؛ نتيجة صعود اليمين المتطرف، الذي يلهج بمعاداة الآخر والملكية القومية لمن يرى أنهم أًصحاب الأرض، وهم من يحددون شروط قبول الآخر، وكيف له أن يفعل ليندمج، أي ليكون مثلهم. ورغم أن القانون الدوليّ، بترسانته التشريعية المعيارية المؤسَّسة على الأخلاق، يظل بكل أسف دمية في يد القوى الكبرى، ولا يُطبق إلا وفقاً لمصالحها. فالمسألة ليست فقط في إيجاد شروط وتهيئة ظروف اللجوء الإنسانية الكريمة، وإنما، قبل ذلك، في معالجة أسباب النزوح. وهنا لا بد أولاً من تفعيل قوانين القانون الدولي في كل مرة تكون هناك دكتاتورية تقمع شعبها وتهجره، كما هي الحال في سورية مثلاً.
لا بد من إعادة إصلاح القانون الدوليّ نفسه، ليس فقط من خلال تحريره من أيدي القوى العظمى، بل إصلاحه بنيوياً ومراجعة قوانينه. إن حق استخدام حق النقض الفيتو، على سبيل المثال، يبرز مدى تلاعب القوى الكبرى بالقانون الدوليّ وتوظيفه أو تعطيله بحسب مصالحها.


(*) وما دور الفلسفة في هذا؟
- الفلسفة في حقيقة الأمر لم تترك الساحة نهائياً للتشريع وللقانون الوضعي لتحديد وصياغة القانون الدولي باسم التخصص والوصاية، فنقد معيارية القوانين الدولية جزء من انشغالات الفلسفة المعاصرة المكثّفة. فالفلسفة هي من تحاول تذكير القانون الوضعي الذي يريد القطيعة مع الأخلاق، التي نشأ عنها بالأساس، بجذوره وانحرافاته عنها.


تنتقد الفلسفة مثلاً ذلك التناقض المعياري بين الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة الذي يخوِّل مجلس الأمن في حالة ارتكاب جرائم حرب مثلاً التدخل العسكري ضد الجهة التي ترتكب مثل هذه الجرائم، وبين حق السيادة للدولة على أرضها وتحديد سياستها وقوانينها بشكل مستقل، مما يجعل مثل هذا التدخل انتهاكاً لمبدأ السيادة الذي تدافع عنه نفس المنظومة القانونية الدولية!. لنتذكر أن هذا التناقض يلعب عليه بشار الأسد وسفيره في الأمم المتحدة بشكل دائم بالتذكير بحق السيادة الوطنية في مقابل التدخلات الخارجية.
لا بد إذاً من تشريع حق التدخل الدوليّ في أي بلد، أو أي جهة، تقوم بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية (وهذان المصطلحان يحتاجان إلى تحديد معياري أوضح من ميوعة هذه المصطلحات الحالية؛ كالقول بجرائم ترقى إلى جرائم حرب إلخ)، لكن مثل هذا التدخل يجب تحريره قبل ذلك من مصالح الدول العظمي المهيمنة على قرارات الأمم المتحدة...  الطريق طويل إذاً، لكن الفلسفة مؤمنة بأن ما تحقق إلى الآن شيء كثير، وأنه لا بد من المضي قدماً لتحقيق المزيد وتحرير القانون من سطوة السياسة وجعله فوقها.

شبح الشاعر يسكن حوارات الفيلسوف
(*) يُقال إن الفيلسوف هو شاعر من الباطن. كيف ترى علاقة الفلسفة بالشعر؟.
- الفلسفة هي وطن الشعر، لا شك عندي في ذلك، لكن حكم العقل لإمبراطورية الفلسفة قد دفع الشعر والبلاغة للنزوح عنها.
علاقة الشعر بالفلسفة هي تماماً علاقة المنفى واللجوء. فبعد المنفى لا بد للشعر أن يعود للجوء في أرضه. لا شك أن كلامي هنا سيبدو للمدرسين وحراس تاريخ الفلسفة الرسمي كلاماً بلاغياً، أي غير فلسفي في نظرهم وهو لا يليق بفيلسوف، لكن تاريخ الفلسفة نفسه، الذي يتمسك به تلامذة الفلسفة، يخبرنا حقيقة أخرى.
المشكلة بدأت فعلاً مع سقراط، وتكرست مع أفلاطون ثم أرسطو، لكنها لم تصل إلى درجة العداء المطلق للشعر كما حصل في العصر الحديث، عصر العقلانية العلمية والنزعات الوضعية.

قبل سقراط كان الفلسفة والشعر يعيشان معاً، لنتذكر مثلاً أن هرقليطس كان شاعراً، وأن فلسفة الوجود عند بارمنيدس منظومة في قصيدة شعرية، كما هي الألياذة والأوذيسة. نفس الشيء يمكن أن يقال عن السفسطائية التي منحها أفلاطون أسوأ سمعة وأخرجها بمعية الشعر من جمهوريته ومن حدود الفلسفة. لكن قراءة متأنية لأعمال أفلاطون نفسه تكشف لنا أنه كان مسكوناً بالشعر وبالسفسطائية. ويكاد لا يخلو حوار لأفلاطون من الاستشهاد بهوميروس لتدعيم مواقفه وحججه. شبح هوميروس الشاعر يسكن حوارات أفلاطون الفيلسوف، التي لا تخلو معظمها من بلاغة وجاذبية كما في محاورة فيدر أو المأدبة أو اعتذار من سقراط.
كانت بلاغة السفسطائيين تحرج سقراط وفلسفته التي يريد بناءها على العقل الحجاجي أو التوليدي إذا أردت، فكان له معهم صولات وجولات. لكن حوارات سقراط، التي دوَّنها أفلاطون، تشهد على عمق السفسطائيين فلسفياً. ولعل محاورة السفسطائي لأفلاطون هي أكثر كتبه جدية وعمقاً، والتي كرس لها هايدجر مجلداً ضخماً لمناقشتها. لكن أفلاطون نجح في كتابة تاريخ ستعتمده الفلسفة إلى اليوم، وهو تاريخ اللوغس اللابلاغي واللاشعري.
طبعاً لم يُطرد الشعر أبداً بعد سقراط من تاريخ الفلسفة اليونانية، ولا مع أفلاطون المسكون بهوميروس، ولا مع أرسطو الذي كرّس مؤلفاً حول الشعر أو الشعرية بالأحرى، إلا أنه معهما تراجع وفقد مكانته، وصار يدور في فلك العقل الحاكم المطلق. ثم مع محاولة الفلسفة التأقلم مع المسيحية، التي اجتاحت العالم الغربي في القرون الوسطى، كان الاهتمام بالوحي (الذي هو شعر ومجاز وبلاغة في نهاية الأمر) نوعاً من الاستعادة الحذرة لدور الشعر في الفلسفة. لكن مرة أخرى، وبعد عصر نهضة شهد عودة للوثنية بما فيها الشعر، جاءت الحداثة بماكينتها العقلانية لتروّض الشعر وتطرده هذه المرة نهائياً خارج حدود الفلسفة.

لكن اختراقاً لهذا الحظر سنشهده بقوة في ألمانيا أولاً مع حركة "العاصفة والاندفاع" القادمة من الأدب مع هردر وغوته. وثانياً، وبخاصة، مع رومانسية بيّنة حيث سيُبشِّر الفيلسوف شلينغ بعودة المثيولوجيا الشعرية على يد جيلٍ جديد. وسيعيد شيلر محاولة وضع أسس التربية وخلق الوحدة الضائعة في الحداثة عبر تربية جمالية يتسيدها الشعر. وسيكون شليغل شاعراً وفيلسوفاً معاً، كذلك داعياً الفيلسوف لإسقاط قناع المحارب ومشاركة هوميروس عرينه في معبد الشعر. وستمنح أشعار نوفاليس أجنحة رومانسية للفكر المنطقي.
لا شك في أن نزعة التبشير تلك هي حلقة تمهيدية لتبشيرية نيتشه الشاعر الفيلسوف لعودة ديونيزوس، وقلب الطاولة على العقل مطالباً بإعادة تأسيس الفلسفة على الشعر وإخراج العقل الذي شوه الفلسفة الحقيقية في نظره. لكن قبل نيتشه كان كانط العقلاني البارد، وفي محاولة أفلاطونية جديدة بإخراج الشعراء من جمهورية الفلاسفة، قد حمل عليهم في نص شديد اللهجة ضدهم حمل عنواناً بنغمة سيد عظيم اعتمدتها الفلسفة مؤخراً.
بين عقلانية كانط، الصارمة والصوريّة، وشعرية نيتشه، الفرحة والمتمردة، ستتراوح مواقف الفلاسفة المعاصرين. فعلى العموم لا يزال الخطاب العقلاني المقصي للشعر من الفلسفة حاضراً وبقوة في المشهد الفلسفي المعاصر، وتعريف الفلسفة والفلاسفة وتدريسها في الجامعات. لكن مدرسة نيتشه، التي ستتأصل مع هايدجر ودريدا (لكنها ستأخذ معهما طابعاً تراجيدياً على خلاف الطابع المرح عند نيتشه) تحديداً في إعادة الحق لمكانة الشعر فلسفياً، تحقق اختراقاً مهماً في تاريخ الفلسفة الرسمي.
شخصياً أجد نفسي من هذه المدرسة أو قريباً منها مؤمناً فعلاً بضرورة فتح الفلسفة على كل ما أقصته في تاريخها الذي صار بحاجة إلى ثورة عليه، لا من أجل موت الفلسفة أو إنهائها، بل على العكس تماماً؛ في منحها فرصة جديدة لتحيا وتجعل العالم أجمل بعد أن اجتهدت عبر عصورها السابقة بجعله حقيقياً وجيداً. وبمعنى آخر، آن الأوان للتأكيد على قيمة الجمال في مقابل قيمتي الحق والخير وهي المثل التي ذكرتَها في سؤالك الأول.


لغة متقادمة عصيّة على الإصلاح
(*) تعيش في فرنسا منذ عام 2004، وكتبت وترجمت الكثير من الحوارات والمواقف بين الفلاسفة، وكذلك بعض كتبهم. لماذ تفضل الكتابة باللغة الفرنسية على الكتابة باللغة العربية؟
- دعني أكون صريحاً معك. أعرف بشكل متفاوت ثلاث لغات هي العربية والفرنسية والإنكليزية، ولي فيها ثلاثتها كتب ومحاضرات وحوارات، ولا أظن أني أُفضِّل الكتابة بالفرنسية أو بالإنكليزية على العربية، ربما العكس هو الصحيح، ومنشوراتي بالعربية أكثر منها بالفرنسية وأقل منها بالإنكليزية. لا يمكن لإنسان كبر وعاش وتعلم على لغةٍ معينة حتى أصبح شاباً أن يتقن لغة أخرى كلغته الأم أو اللغة الأولى. فقط مع اللغة العربية أشعر أنني حر وأستطيع التعبير عن نفسي بحرية دون وجل، وهذه الثقة بالنفس لا تسيطر عليّ حين أكتب أو أتكلم بالفرنسية أو الإنكليزية. لا يتعلق الأمر بقوة وإعجاز اللغة العربية، كما يذهب إلى ذلك الواهمين بهذا الإعجاز، وإنما وبكل بساطة لأنها لغتي الأم. فيها قرأت وتعلمت منذ صغري.
لقد درّس دريدا لسنوات طويلة في الجامعة الأميركية، وكان يعترف بأنه كلما أراد التحدث بالإنكليزية (التي أجادها في مراحله المتقدمة) كان يجد نفسه في ورطة وامتحان قاسٍ. وقد عاش آينشتاين معظم حياته في أميركا، ومع ذلك ظل يكتب ويحاور بالألمانية، وظل مستواه بالإنكليزية أقل من متوسط. فتجنشتاين وفرويد اللذان عاشا طويلاً في بريطانيا ظلا يكتبان بالألمانية، لغتهما الأم، والأمثلة لا حصر لها.

طبعاً ستجد على المقلب الآخر من انفتح على لغة الآخر وأنتج فيها، كأمين معلوف والطاهر بنجلون ومحمد أركون وغيرهم كثير، لكن ما يزعج عند هؤلاء جميعاً هو تنكرهم للغتهم الأم وترفعهم عليها حد القطيعة معها. يتحدث أمين معلوف بالفرنسية بحذر كمن يسير في حقل ألغام وكتبه مكتوبة بقلم فرنسي وراءه يد عربية، بل ولبنانية، ولا أقصد المضمون فقط بل والشكل والأسلوب.
لا أدعي إذاً إتقان العربية بل إنني لا أتقنها في الحقيقة (ومن يتقنها؟!) فهي لغة تظل عصية على الضبط، رغم كل تلك الفصاحة والبلاغة وقوة الإقناع التي يتوهم عربي فصيح أنه يضبطها.

الارتجال في العربية أمر مفتوح على الخطأ لتعقيدات العربية، بينما الأمر في اللغات الأوروبية والأنجلوساكسونية الحديثة أكثر ضبطاً وسلاسة وأقل تعقيداً من عربية متقادمة عصية على الإصلاح مع كل حراسها ومقدسيها.
أخطئ بالعربية كالجميع إذاً على اختلاف درجات وفداحة وقبح الأخطاء، ولكني لا أشعر بالخجل من خطأي بالعربية كما أشعر به حين أخطئ بالفرنسية مثلاً أو الإنكليزية. قرأت مرةً نقداً ذاتياً لعالم الاجتماع والروائي حليم بركات، ربما في روايته "طائر الحوم"، حول نفس الفكرة، لكني أختلف معه بالتأويل.
مع لغتك الأم تشعر وكأنك في بيتك وبين أهلك، والخطأ بين الأهل أمر مفهوم وعادي ويتم غفرانه، بينما الخطأ أمام الآخرين أو الغرباء أمر تعيشه كفضيحة. وهذا لا يعني أنني أتقن الفرنسية أكثر من العربية، فالفرنسية نفسها لغة معقدة وإن كانت قد تعقلنت وتم ضبط الكثير منها، بينما بقيت العربية، وبخاصة عربية اليوم، كحديقة دون عناية فصارت غابة.

(*) هل هذه دعوة لإعادة إحياء اللغة العربيّة؟
- لا يتوقف الأمر على إعادة بناء اللغة وتشذيبها، لتصبح قابلة للحياة والاستعمال اليومي المتجدد، للمفاضلة بين الفرنسية والإنكليزية والعربية (وهي اللغات الثلاث الوحيدة التي لي حظ من معرفتها نسبياً)، وإنما واقع الحضارة يجعل من لغة العلم غربيّة حقيقةً، ومن لغة الفلسفة الحديثة ألمانية، ومن الفرنسية لغة للفلسفة المعاصرة على نحو خاص.

في سبيل الاطلاع مثلاً، ستجد أبحاثاً لا نهاية لها باللغات الأجنبية في البلدان الغربية، لكن ترجمات ومراجع قليلة لأهم النصوص العلمية أو الفلسفية أو الوثائق التاريخية والسياسية باللغة العربية، وما وجد منها يظل موضع شك في جودة الترجمة. وهذا ليس فقط نتيجة ضعف في المترجمين، وإنما في قدرة العربية الحالية على إعطاء المقابلات والمرادفات والمعاني المناسبة.
في تجربتي المتواضعة مع الترجمة اكتشفت مدى فداحة إهمالنا للغة العربية، وكيف أن اللغة كالحضارة تنهض معها وتسقط بسقوطها. تنوع دلالات وإحالات المصطلحات الفلسفية، مثلاً، في اللغات الأجنبية يقابلها (في العربية)، غالباً وببلادة، مفردة واحدة تضيع دقائق واختلافات الحالة. وكنتُ كثيراً ما أضطر لشرح المفردة بجملة، وأستفيض بالهوامش لشرح الفوارق في كلمات مختلفة ليس لها في عربية اليوم سوى مفردة واحدة، إن وجدت، والأمثلة أصعب من أن تُحصر. ولا شك في أن الوضع في ترجمة العلوم الدقيقة أكثر بؤساً.
الكتابة هي أيضاً كالترجمة، استقاء من جعبة اللغة المتاحة، وإبداع الجديد من الكلمات والمصطلحات والتركيبات، وهذا حق مشروع ومطلوب. ولهذا أجد، مع فقر العربية الحالي، أنّ الفرنسية أقدر في التعبير الفلسفي. ولهذا أميل للكتابة والتفكير فيها. واسمح لي بجملة نرجسية قصيرة فأنا فخور- رغم كل القصور الذي أعانيه بالفرنسية - من تمكني من الكتابة والمحاضرة بلغة تعلمتها وحدي دون دورات لغة ولا أستاذ، فلم يكن عندي المال لتمويل ذلك.



زوبعة فرح في دير مهجور
(*) ماذا تشكل لك طفلتك "صوفي" (ويعني اسمها الحكمة) وأنت تعيش عالمك المنظم والدقيق خلال عالمها الفضفاض والطفولي؟  
- أصدقك القول إنني لم أكن أُفكر، قبيل ولادة طفلتي، باسم صوفي بوصفه الحكمة إلا على نحو ثانويّ. كنتُ أود تسمية ابنتنا سلمى؛ فهو اسم عربي شاعريّ أنثوي جذاب، ولا يثير نطق حروفه مشكلة في اللغات الأجنبية. لكن زوجتي، الجميلة، الراقية، بعيدة النظر، والأكثر واقعية منيّ، أرادت اسماً فرنسياً يعفي، ولو جزئياً، طفلتنا من عبء حمل صليب العرب في بلادٍ راح يستشري فيها اليمين المتطرف والشعبوية ومعاداة الأجنبي.
كنا قد اقترحنا كلانا بضعة أسماء وقد اقترحتُ أنا اسم صوفي وأعجبها فاتفقنا عليه. صوفي يلفظ بالفرنسية سُوفيّ بنغمة محببة وقد لعبت على معناه- الحكمة Sophie المتضمن في الفلسفةPhiloSophie - في إهدائي لكتابي الثاني بالفرنسية بدمج محبتي لصوفي ابنتي باهتمامي بالفلسفة.
نعم أنا مُنظّم جداً، لكن دون برامج وجداول، فكل شيء مرتب في يومياتي الروتينية ولدي دائماً قائمة يومية بما يترتب عليّ القيام به.


لا شك في أن الزواج والإنجاب يكسر ترتيب حياة من احترف الوحدة وتفرغ للثقافة، لكن الحياة في أوروبا تساعد على حفظ شيء من التنظيم؛ فالطفل حتى بعمر شهور قليلة يمكن إرساله يومياً إلى الروضة من الصباح إلى المساء، وبعد ذلك هناك المدارس ومراكز الترفيه. لكن مع ذلك أخذ الزواج من تنظيمي الشيء الكثير. فأنا حقيقة شخص "بيتوتي" لا أخرج إلا للعمل مكرهاً، ولا أحب الضجيج والصخب أبداً. الزواج فرض عليّ أن نخرج كعائلة يوماً في الأسبوع على الأقل، وتقاسم مهام الاعتناء بصوفي مع والدتها، التي لا شك أنها تتحمل الكثير من الأعباء مع زوج كثير القراءة والانعزال و"النق".
حين انتقلنا إلى بيت جديد استصلحتُ مكتباً صغيراً لي ووضعت له قفلاً كي لا تستطيع صوفي الدخول إليه كما يحلو لها، وبخاصة في غيابي والاستفراد بالكتب، لكن ذلك كان جهداً ضائعاً؛ إذ يكفي أن تقول لي "بابا"، وأنا في المكتب، وتفتح الباب دون انتظار جوابي، وتدخل ثم تصعد وتستقر على ركبتي، كزوبعة فرح راحت ترقص في ديرٍ مهجور.


الصراع مع الهويات
(*) ماذا يعني لك مسقط الرأس بعد كل هذه السنوات من الاغتراب، وكل هذه السنوات من المأساة السورية؟
- أعرف أن جوابي قد يكون صادماً، لكنه لا يعني لي شيئاً تقريباً على الصعيد الشخصيّ. بينما يعني لي كل شيء على الصعيد الإنساني والنضالي. ليس تنكراً لمسقط الرأس أو للوطن أو تعالياً عليه، أو احتفالاً مرضياً عُقدياً بهوية غربية حضارية مقابل هوية عربية بدوية. لا أبداً لا. كما أني لستُ أوروبياً ولا عربياً إلا بحدود ما تأصل مني في هذه الهويات رغماً عني، أي رغم مقاومتي لها، وبالأحرى رغم مقاومتي لكل أشكال الهويات والتحدد.
يرعبني الانتماء ويخنقني بكل صدق، ولا أستطيع أن أنتمي لأية أيديولوجيا أو جماعة أو قومية أو طائفة أو دين، وهذا قد يفسر هوسي الفلسفي والأدبي بتفكيك كل مفاهيم الهوية بما فيها مفهوم الأنا.
نشرتُ منذ حوالي السنتين مقالاً في مجلة Esprit الفرنسية عن الاغتراب سميته l’êtrenger وهذا العنوان هو لعب ودمج على كلمتي étranger (الأجنبي أو الغريب) و être (الوجود) بدمجهما معاً لأقول إن الاغتراب مفهوم أنطولوجي أيضاً، وبمعنى آخر نحن محكومون بالغربة والاغتراب.
خرجتُ من سورية قبل الحرب بسنوات طويلة لأني كنتُ أختنق هناك، وحين وصلتُ فرنسا أكتشفتُ أنني لم أصل إلى محطة النزول. لستُ بين بين؛ أي بين الشرقيّ الحالم وأستاذ العقلانية الغربية الباردة، بل كليهما معاً ولا هذا ولا ذاك في نفس الوقت.


ليس هذا نحيباً فجائعياً محتفلاً بالاغتراب ومستعرضاً لمأساته بأصوات جنائزية، ولا محاولة للتميز أو التفرد، وإنما مسار انعتاق أنتصر عليه حيناً ويضعني أرضاً أحايين أخرى. انتصرتُ عليه بالرحيل، وبسيكيزوفرينيا الأدبفلسفة، وانتصر عليّ بالزواج والإنجاب والعائلة والحنين والارتباط بالآخرين وبقضايا العدالة والتحرر.
لا شك أنني ماضٍ في الدفاع عن سورية، عادلة وديمقراطية ومدنية تتسع للجميع، وهذا واجب أخلاقيّ وحس إنسانيّ لا شخصيّ. فأنا لا أنوي العودة إليها لأستقر فيها أو لأدفن فيها يوماً. لا أريد "العودة" إلى التراب، لا ضريح ولا عظام ولا رميم، لا في سورية ولا في غيرها. ما قد يبقى منيّ فقط، هو صوفي ابنتي، وكلمات هاربة، مكسورة، وروح شبحية عصية على التحلل العضوي، تضمن لي إقامة قد تطول أو تقصر بين الأحياء، هنا، بعد رحيلي...     

كلمات مفتاحية

فلسفة عربية الشعر سورية المنفى والوطن ثورات الربيع العربي الفلسفة الغربية