نجاة الذهبي: أرى نفسي أكثر تجليًّا على قماشات لوحاتي

أشرف الحساني 2 ديسمبر 2021

 

 

في تجربتها الفنّية تُوازي الفنانّة التونسيّة نجاة الذهبي بين لحظات اللوحة المسندية وتعرّجاتها وبين الكتابة النقدية وحميميتها في علاقتها بالعمل الفنّي الأصل. وهي تجربة بقدر ما تكون غنية على مستوى تواشجات المادة بالكلمة، فإنّها تفرض على الفنانّة طاقة كبيرة من أجل استيعاب هذا الانتقال بين اللوحة والكتابة. وليست نجاة الذهبي أوّل فنانّة اشتغلت على تكثيف علاقتها بالفنّ تأليفًا وصباغة، ولكنّها من الأسماء القليلة داخل العالم العربي، التي تحرص على تثمين هذا الموروث السيّري بين الكتابة والصورة. والكتابة عند الذهبي كتابة حميمية عاشقة تغوص في سراديب العمل لا لتُعرّف به فقط، بل لتُفكّك معالمه وتبسط مفاهيمه التقنية ومواده وألوانه بطريقة ثرّة وذكية. تتجنب الذهبي في كتابتها تاريخ الفنّ بعض المفاهيم الفلسفية الفضفاضة داخل التشكيل التونسيّ، لتُقدّم نموذجًا لكتابة نقدية تُرافق العمل الفنّي في قلقه ومساراته وألمه، دون أنْ تحرم نفسها من لذة التأويل والإقامة في تخوم اللوحة ومُتخيّلها.

بمناسبة صدور كتابها الجديد "في امتداح العين" (دار خطوط، 2021) كان لنا معها هذا الحوار:

 

(*) بين التشكيل والكتابة النقدية، أين تجدين ذاتك بشكل أقوى وأكثر حميمية؟

بين النقد والتصوير أعتقد أنّني أرى نفسي أكثر تجليًّا على قماشات لوحاتي، ففي الغالب تتمحور الكتابة النقديّة حول عوالم الآخرين تشكيليًّا. ولكن بين الكتابة والتشكيل فإنّ الكتابة هي المرآة الحقيقيّة لذاتي لأنّها تستعرض مباشرة كلّ أفكاري وآرائي. أكتب العديد من الأشياء الحميميّة التي لم تر النور إلى حدّ الآن. وإذا سألتني أيّهما أُفضّل، فالإجابة صعبة لأنّني لا أستطيع التفريط في كليهما. في كثير من الأحيان تتغلب كفّة أحدهما على حساب الأخرى ولكن أعتقد فعلًا أنّهما مترابطان بشدّة.

(*) على مستوى الجيل، تنتمي نجاة الذهبي إلى الجيل الجديد داخل التشكيل التونسي المعاصر، وهذا الأمر لا يرتبط فقط بعامل السن، وإنّما على مستوى التجربة وقدرتك على تخييل الجسد بكافة تمثلاته وحمولاته. ما الذي يعنيه لك الجسد داخل اللوحة المسندية؟

"هو كلّ شيء، وهو لا شيء"، هو كلّ تلك الأفكار العظيمة أو السخيفة في الآن ذاته. إنّه ذلك "المسخ" الذي تحدّث عنه إبراهيم محمود في كتابه "رهانات التهجين، الجسد والثقافة". وهو مصدر الحياة والقوة والطاقة، تمامًا كما أعلن جاك دريدا وغيره من الفلاسفة. هو أيضًا مصدر الانتشاء، كما يعرّفه جورج باتاي.. أين يجب علينا أن نَمنَحَ أَنفُسَنَا كليًا لحاجاتنا، وأن نتجرد مما يقلقنا أو ما يربكنا. الجسد هو الفكرة التي تتحرّك بها سرديّات قماشاتي، وهو يقوم مقام الفلسفة أحيانًا كثيرة حين يصبح ذلك المحظور معارضًا ومخالفًا للبنية الذكورية/ الأبوية.  الجسد هو وجهة نظري إزاء سير العالم، فأنا أرسم أجسادًا أنثويّة مُحرّفة ومفكّكة باستمرار، لذلك أستند غالبًا على مرجعيّات فكريّة تحطّ من شأن المتضادّات الذهنيّة بين "أنوثة- ذكورة". يمسّ التصوير كلّ الدلالات الإيحائيّة حول المجتمع والفكر والذكورة والمقدّسات.





(*) ما مدى وجود وتموقع دفاتر الفنّ في حياتك اليوميّة كفنانة، أو بتعبير 
آخر هل ثمّة أيّ ملاحظات أو رسوم مسبقة على الورق قبل البدء في عملية التخييل الفنّي؟

لطالما كانت دفاتر الرسم والكتابة جزءًا مهمًا من عملي ولذلك لا أعتبر أنّ العمل التشكيليّ يُبنى على مراحل منفصلة. لقد سبق وقدّمت دفاتري الحميمة بوصفها عملًا فنيًّا قائمًا بذاته وهي تنصيبة تتكوّن من 40 دفترًا وكتابًا تحت عنوان "كُتب سريّة بطعم السكّر". ربّما يعود هذا التماهي بين العالمين إلى ارتباط ممارستي التشكيليّة بكلّ ما أدوّنه على محامل مختلفة. هذا بالإضافة إلى أنّ تجربتي الفنيّة تقوم على جانب نظريّ مهم توّجته مؤخّرًا بمناقشة رسالة بحث دكتوراه تحت عنوان "الإيروس في ممارستي في تصوير الجسد الأنثوي"، الأمر الذي مكّنني من التفكير والكتابة باستمرار حول الصور التي أُنتجها. كلّ ذلك أكسبني آليات مختلفة في رسم وكتابة الذات ثم القدرة على عرضها في صور مختلفة.

 

(*) في سير الفنانين ما يثير فتنة الذهول وشغف المتابعة والاستقصاء بالنسبة للفنّان المعاصر. هل سبق أن عشت حالة من التماهي بينك كفنانة وبين نص أدبي أو سيرة فنية جعلتك تُحاولين خلق تطابق وجودي معها؟

آه، كثيرًا ما تأسرني النصوص التي أقرأها وهذا جليّ في الكثير من عناوين لوحاتي وأعمالي الفنيّة. أستعين بشغفي المتزايد بالشعر والسير الذاتيّة للفنانين والكتابات الشذريّة والأدب العالمي لتحويل كلّ ما أنتجه ذا معنى. أشعر في كثير من الأحيان أنّني "حمقاء" فأنا أبالغ في تحميل الصباغة معاني وجوديّة. ولكن أليس الفنّ هو تلك الحماقة الأكثر لذاذة؟

"ذكريات- نفايات"، "إ-ثعالب"، "مسطرة" و"على اليسار"، كلها عناوين أعمال لمحطّات زمنيّة أعتبرها مهمّة حول ما قرأته وما دوّنته حينها. ترتبط مثل هذه اللوحات بكتب مثل "لست ذا شأن" لفيرناندو بيسوا، و"المياه كلّها بلون الغرق" لسيوران، و"الأعمال الأدبية" لليوناردو دافينشي، و"اليد اليسرى للظلام" لكاتبتها لي جوين.. "اقتباس كافكاوي" هي لوحة أخرى تسرد حكاية مسوخي الأنثويّة الذاتيّة في صورة متعدّدة عارية وعنيفة. تترصّد الأجساد العموديّة عينيّا كلّ الوجوه التي تتجاور مع البصر والرؤية، وفي عددها السبعة. أحاول ليس فحسب تقديم صورة مقتبسة عن الرواية الشهيرة لكافكا "المسخ" ولكن أسعى إلى تحيين قصص كافكاويّة حول الكوابيس ومرارة العيش وبؤس الحياة والتحوّل البشريّ غير المبرّر.  لذلك تبدو صور الأجساد التي أرسمها "ذكوريّة" أكثر منها أنثويّة.

(*) هل تعتقدين أنّ الجسد بكافة أنواعه أخذ مكانته اليوم داخل التشكيل العربي المعاصر، رغم الاحتجاجات التي نُعاينها هنا وهناك، لا من لدن لأنظمة السياسية أو الجماعات الدينية فقط، بل من داخل أهل الفنّ نفسه؟

في الحقيقة السؤال مفخّخ وصعب وعام أيضًا لأنّني أعجز عن تحديد صورة شاملة للتشكيل العربي المعاصر وخاصة فيما يتعلّق بالجسد، ذلك المحظور على الدوام. ولكن أستطيع الإجابة بوصفي فنانة تشكيليّة تونسيّة تعيش ضغوطات تناول رسم وتمثيل الجسد الأنثوي بكلّ جراءة. أعتقد أنّ المشهد التشكيليّ التونسيّ لا يمكن فصله عن حالة المجتمع الهستيريّة، لذلك يبدو الجسد الذي يصوّره ويرسمه الكثيرون متشظيًا قلقًا ومفكّكًا مثل تجربتي كلّ من ثامر الماجري وسليمان الكامل. وحتى في التصوير الرقمي والتكنولوجيات الحديثة يحضر الجسد في كتل وصور ساخرة ومحبطة وغامقة.

وإذا كان السؤال يتعلّق بالكميّة التعبيريّة في تصوير الجسد، سأجيب لأقول: نعم الجسد محظوظ جيدًا في التصوير، ولكن إذا كان السؤال "هل تحرّر الجسد" من كلّ التابوهات التي تكبّله، فالأمر مختلف. أعتقد أنّ "أهل الفنّ"، كما أَطْلَقْتَ عليهم حضرتك، لم يتعوّدوا بعد على فكرة الحريّة وممارستها. ولهذا يصعب إلى حدّ الآن التعامل مع الجسد في تمثلاته العارية والإيروسيّة.

(*) في تجربتك يحضر الجسد لا باعتباره شهوانيًا أو جنسيًا، ولكن باعتباره قدرًا مُؤلمًا يُرافق الفنّان في سيرته اليومية المفتوحة على التشظي والانشطار. كيف جاءت فكرة الجسد إلى لوحاتك؟

إنّ رسم الجسد الذي طالما مارسته إنّما هو تجسيد الرغبة الملحّة في التحرّر من الذكوري فينا، ومن المجتمعيّ والأبويّ والجسديّ. لقد سُلِّط الأنثويّ عليّ حتى لا يبقى في الأنثى سوى إنسانيتها وحتى لا أُسَمى بالمطيعة الجبانة. أرسم قيودي حتى يراها الآخرون بدون انتماء جنسيّ مُفرغ وحتى أتباهى بأنثويّتي المغرية بدون تجريح أو ذنوب أو جرم.

 

من أعمال نجاة الذهبي 



(*) صدر قبل أسابيع كتابك النقدي الأوّل "في امتداح العين" (2021) عن دار خطوط بالأردن. لماذا الكتابة النقدية هذه المرّة، بدل الاكتفاء بعوالم اللوحة ومتخيّلها؟

الكتابة النقديّة هي موقف بالأساس، والكتابة باللّغة العربيّة هي وجهة نظر أنتهجها منذ سنوات عديدة باعتبار أنّنا بلد غلب عليه المرجع الفرنسيّ كتابة ولغة. يفتقر مجال الفنون التشكيليّة إلى مراجع توثيقيّة عن مراحل مهمّة في تونس. لا توجد كتب مرجعيّة عن تجارب تونسيّة رائدة في التشكيل باستثناء بعض البحوث والكتب وبعض كاتالوغات المعارض الصغيرة ذات التمويل الذاتيّ أو الجامعيّ. وحتى الكتب الجادة التي استحضرها فقد كُتبت باللّغة الفرنسيّة - وهذا أمر لا يعيبها- غير أنّه أمر آخر محزن على اعتبار أنّنا ننتمي إلى وطن لغته الأم هي العربيّة. لا يكفي أن نرسم ونمضي يجب على أحد أن يكتب كلّ ذلك، أتمنى أن أكون أحد أولئك الذي يرسمون مرحلة من تاريخ تونس نقدًا وتشكيلًا.

 
(*) يحيل النقد الفنّي التونسي في كثير من المسّارات على مستوى التعامل مع اللوحة، لكن في نفس الوقت يبدو لي وكأنّه يعيش فوضى كبيرة على مستوى استخدام بعض المصطلحات والمفاهيم داخل الخطاب النقدي. هل شعرت يومًا بهذا اللاتطابق بين بعض نماذج هذا النقد على جديته وأهميته مقارنة بما موجود داخل اللوحة؟

أوافقك الرأي، هنالك فوضى كبيرة داخل الخطاب النقدي للفنّ التشكيلي التونسي. وأشار إلى ذلك الأستاذ الحبيب بيدة في عديد المنابر والمقالات النقديّة آخرها مقاله "نقد النقد". أعتقد أن السبب يعود إلى عدم جدّية من يكتبون وعدم إلمامهم بالمفاهيم، فبعضهم قادم من مجال الفلسفة ويتعسّف على المصطلحات التشكيليّة المعاصرة، والبعض الآخر لا يمتلك الآليّات البسيطة للكتابة عبر لغة ممجوجة وفضفاضة تميل إلى اللّغو والثرثرة، وآخرون متطفّلون على الميدان الفنيّ. أضيف إلى ذلك، غياب اختصاص النقد التشكيلي عن مناهج التعليم الجامعي في مدارس الفنون الأمر الذي جعلنا نعيش تصحّرًا نقديًّا في مجال الفنّ التشكيلي التونسي، خاصّة باللّغة العربيّة. ومع هذا أعتبر أنّ هناك نماذج في الكتابة النقديّة التونسيّة هامّة جدًّا مثل كتابات الأستاذ محمد بن حمّودة والأستاذ فاتح بن عامر والأستاذ سامي بن عامر. ومع أنّ هذا جيّد فإنّه من ناحية أخرى أمر مخيف لأنّ من ذكرتهم هم من الجيل السابق الأمر الذي يطرح استفهامًا كبيرًا حول مصير النقد المعاصر.

 

(*) كتاباتك يغلب عليها البُعد الحميميّ (وهذا جيّد) الذي يجعل منها تُشرّح العمل الفنّي من الداخل، بحكم أنّك فنانة وعارفة بتقنيات إعداد اللوحة وما يُرافقها من ألم. كيف تشرعين في اختيار تجربة فنيّة للكتابة عنها؟

أغلب التجارب التي أكتب حولها هي التي تجد طريقها نحوي. والأكيد أنّ عالم الصورة هو العامل الأوّل الذي يجذبني نحو الانتقال إلى مرحلة البحث أكثر عن سيرورة كلّ تجربة. أقوم بزيارات إلى ورشات الفنانين ومحاورتهم. أحاول الدخول إلى عوالمهم الحميمة حتى أتمكّن من فهم آليات ممارساتهم التشكيليّة. يصادف أحيانًا كثيرة أن أتراجع عن الكتابة حول فنّان ما لأنّ خطابه لا يوافق الصورة التي أَنْتجها، لأنّه يفتقد إلى "الصدق". أؤمن أنّ الفنّان هو كليّة تجمع بين صدق الممارسة وجمال الأخلاق.

 

(*) هل من الضروري أنْ تكون التجربة الفنّية مطابقة لما تعملين عليه أو تتماشى مع قناعاتك وأفكارك حول مفهوم اللوحة والفنّ عمومًا؟

بالطبع لا، وإلاّ لن أكتب عن أحد غير نفسي!