محمد برادة: التجربة الأدبيّة لإدمون المليح ذات دلالات كثيرة

أسامـة الصغيـر 13 يونيو 2022
حوارات
محمد برادة وإدمون عمران المليح (أرشيف محمد برادة)

في صخبِ وديناميةِ المعرض الدولي للنشر والكتاب المُنظَّم خلال الأيام الأخيرة في العاصمة المغربية الرباط، كانت المُناسبةُ توقيعَ وتقديمَ كتابه الجديد، الصادر عن دار كُرّاس المتوحد/ Les Infréquentables، في طبعة أنيقة مُزَوَّدة بأُضمومةٍ من الصُّوَر الخاصة، "إدمون عمران المليح ثورة الذاكرة واستعادة الذات". عندما اقترحتُ عليه فكرة الحوار، آثر محمد برادة أن يكون حوارُنا حول إصداره الجديد. وعلى مدى لحظاتٍ مختلفة من مُرافَقتي إياه، ومُصاحَبَته في بعض أروِقة وقاعات وفضاءات المعرض خلال يومين، تناثرتِ الأسئلةُ والأجوبةُ في حوارٍ سَيّار حول هذا الإصدار الذي جاء في سياقٍ عربي ـ إسرائيلي خرج من الثابت إلى المتحول، لذلك فهو كتابٌ استعادي إشكالي.






(*) ما الذي يجعل الشاهد المُخضرَم محمد برادة يُفْرِدُ كتابًا للراحل إدمون عمران المليح؟
كان إدمون عمران المليح زعيمًا سياسيًا ضِمن الحزب الشيوعي المغربي، إلى جانب الراحل عليّ يعتة. وإذْ سافر ذات مرة في أواخر الخمسينيات للمُشارَكة في مؤتمرٍ في دولة بولونيا، تسرَّبتْ إلى عِلمه أنباء عن مجازر سياسية وفظاعات تُقترَف في المرحلة الستالينية. دفعَه هذا الأمرُ إلى التخلِّي التام عن التنظيم السياسي، بحيث تابع تدريسَ الفلسفة في مدينةِ الدار البيضاء، إلى أن اختار تجربة المنفى في فرنسا.


(*) هل يُمكن القول إن هنالك أسبابًا أخرى وراء خيار المنفى؟
نعم، بسبب تضييق مجال الحريات من طرف السلطات المغربية. لهذا وذاك، ذهب إدمون إلى فرنسا، حيث تَفرّغ للقراءة. ولمّا بَلَغ سَنَتَه الستّين، آنذاك، أصدرَ روايتَه الأولى "المجرى الثابت" سنة 1980. وأن يَتخلّى زعيمٌ سياسي مغربي عن الانتماء التنظيمي بسبب هذا الموقف، ويَتفرَّغ خلال باقي سنواته للعمل الأدبي، فهو منعطفٌ وحالةٌ فريدة في تاريخ الأدب المغربي. من هنا تأتي أهميةُ إفراد كتابٍ لتجربة عمران المليح.


(*) باعتبارك أحدَ مؤسِّسي الدرس النقدي المغربي والعربي الحديث، كيف تنظر إلى القيمة الأدبية لعمران المليح؟
ينبغي القول إنه كان مُطَّلِعًا على أهم الإبداعات الروائية. ومن ثم جاءت روايتُه الأولى لتكشف عن نُضْجٍ كبير في الكتابة، وفي التعرُّف على أحوال المجتمع المغربي. هذه التجربة الأدبية عبّرتْ عمّا يُمكن أن نجده في الخطابات السياسية المألوفة، وعبّرت عن الذاكرة المُتحَرِّرة من القيود. كما عبّرت أيضًا عن تجربة لغوية مُتميِّزة إلى جانب لغته الفرنسية الدقيقة والشعرية في الآن نفسه، استطاع عمران المليح أن يمزجَها بلُغةِ الكلام، أو الدارجة، وكان دائمًا يُلِحُّ في أحاديثه معنا على أن اللغة المُعتبَرة هي اللغةُ الدارجة، التي استطاع فعلًا أن يمزجها بلُغة فرنسية مُعبِّرة، واستطاع أن يُعبِّر بفرنسية مُتمَيِّزة. كان يقول: أنا لا أكتب بالفرنسية، بل أكتب بالعربية. استوقفَتْني كثيرًا هذه التجربة.


(*) إذا كانت تلك هي أسباب نصّ الكتاب، فما هو سبب نصّ الصداقة العريقة والذاكرة المشترَكة بينكُما؟
تعرّفتُ على عمران بعد أن ترَك السياسة، وكان مُتفرِّغًا للقراءة والكتابة في باريس. أذكر أننا في بدايةَ علاقتنا لم نكن نتحدثُ في السياسة، كنّا نتحدث حول اللغة الدارجة، كالأمثال، مُفرداتُها، ومعانيها، وتطوُّرها دلالاتها، ثم حول الأدب. لذلك كانت صداقةً إنسانية، وتفاهُمًا، قبل كل شيء. عندما تُوفِّيتْ زوجتُه أواخرَ سنة 1999، ظل وحيدًا. اقترحتُ عليه الاستقرارَ في المغرب، لأن هنالك شبابًا قرأوا له يُمكن أن يَستفيدوا من حضوره. وعندما لبَّى الدعوة وعاد للمغرب تَحلّق حولَه مجموعةٌ من الأدباء والكُتّاب والرسّامين الشباب. أبدى اهتمامًا ومُواكَبةً نقدية خاصة لحركةِ الفن التشكيلي، وكان له فضولٌ فريدٌ في مُتابعة هذه التجارب الجمالية. ولكَم كُنّا نقرأ عملَه، ونُقدّرُه. وهو أيضًا كان مُنْتَبِهًا إلى أن تجربَتَه الأدبية المُتأخِّرة لم تكن رائدة، فكان يتحدّثً عن كاتب مثل محمد خير الدين، والشاعر النيسابوري، وغيرهم، لكنه كان مُنْصِتًا لهذه التجارب. كان يَتميَّز وسط هذه التجديدات الأدبية والإبداعية بملامح خاصة به، ولذلك التفَّ حوله مجموعةٌ من الكُتّاب المغاربة.


(*) ما دُمْتَ عرّجتَ على جدلية الفُصحى ولغة الكلام أو الدارجة، كيف كان تفاعُلك مع وجهة نظر عمران المليح بهذا الشأن؟
كنّا نتجادل كثيرًا عندما نلتقي. لم أكن أوافِقُه الرأيَ. كنتُ أقول إن اللغة الدارجة وحدَها لا تكفي. كنتُ أقول يُمكن أن نَمزج بينهُما، لأن اللغةَ العربية الفصيحة قابلةٌ لأن تكون لغةً مَرِنة، وأن تُسْتَوْعَبَ وقابلة لأن تُقرَأ في فضاءٍ عربي يضمُّ أكثرَ من 400 مليون شخص، ربما من بينهم من يستطيعون فهمَ هذه اللغة المُتَمازِجة.




مهما يكن، على كل حال، التجربة الروائية لعمران المليح تكشف أيضًا عن شهادةٍ سياسية ضِمنية، لأنه في روايته الأولى، بدأها بآخر يهودي يُدفَن في مقبرةِ مدينة أصيلة، ومن ثم بدأ يتحدث عمّا يراه مثلَ جريمة، ذلك كونَ الأيديولوجيا الصهيونية عَمِلَتْ على اقتلاع آلاف المغاربة اليهود كي يَلتحقوا بإسرائيل. كانت هذه الشهادة الفَنّية الإبداعية تلتقي مع المقال الذي كتبَه في مجلة "الأزمنة الحديثة" لجان بول سارتر.
عمران كان مُتأثِّرًا كثيرًا بالفيلسوف والتر بنيامين، كما تعرف كان ماركسيًا، لكنه وَجد أن الماركسية لا تكفي، ولذلك انفتح على بعض الأبعاد الصوفية، سواء في اليهودية، أو المسيحية، أو الإسلام، وحاول أن يجد فيها ما يُكَمِّل المنهج الماركسي، أي أن التحليل المادي لا يكفي، وهنالك أبعادٌ روحية، أو نفسية، لا يمكن التعبيرُ عنها بالمقولات والمفاهيم المباشرة.

محمد برادة (يسار) وأسامة الصغير في جناح دار المتوسط في معرض الرباط للكتاب، 2022


(*) وكيف تَعرّف عمران على الفيلسوف والتر بنيامين؟
زوجة عمران المليح، ماري سيسيل، كتبتْ ثلاثةَ كُتب عن بنيامين، واستطاعت بالخصوص أن تُبلوِرَ مفهومًا مُعَيَّنا للأليغوريا، ليست فقط كقصة رمزية تُعبِّر عن موقف، لكنها من خلال تطبيقات بنيامين على قراءته لمارسيل بروست، وكافكا، وجدتْ أن الأليغوريا عنده يُمكن أن تأخذ بُعدًا ثانيًا، أي إنها تتسرّب إلى الفكرة، أو الموضوع، لتكشف كلَّ جوانبه، وتُصبح قادرة على التعبير عن شيء جديد، وقادرة على أن تربط الذاكرة بالحاضر، فالذاكرة عادة ترتبط بالماضي، ولكنها يمكن أن تُطِلَّ على الحاضر وتساهم في تأويله بأبعادٍ جديدة.



وسنجد الفكرة نفسها عند عمران كلَّما كَتَبَ نصًّا لتحليل ِكتابٍ، أو روايةٍ، مثلًا في قراءته لكتاب جان جينيه "أسيرٌ عاشق"، فنحن نجده يَعتمد على هذه الفكرة كثيرًا. وهو بالمناسبة لم يكن يتجاوَب مع المناهج النقدية الحديثة البنيوية السيميائية... إلى آخره، بل كان يَبتعد عنها. كان يقول إن في الكتابة الإبداعية شيئًا لا نُدركه بالعقل والمنطق، ولكننا نُدركه بالإحساس.


(*) كيف كانت المسألةُ الفلسطينية حاضرةً، أو كيف رافع عنها إدمون، باعتباره شخصيةً مُركَّبة هوياتيًا، مغربي يهودي، سياسي شيوعي سابق، مُناهِض للهيمنة الغربية، عاشقٌ للدارجة المغربية، يَكتُب بلُغةٍ فرنسية مُضَمَّخة بالدارجة، اختار فرنسا منفى له، قبل أن يعود ليستقرَّ ويموتَ في مسقط رأسه المغرب؟
كما تعلم، مواقفُ عمران مَعروفة من زمان. كان يَنتقد المشروعَ الصهيوني، ويَرى في ذلك خَلخَلَة وانتزاعًا لعشيرةٍ يهودية كبيرة من مجموع البلدان العربية. كانت عشيرةً قائمة وفاعِلة، مثلًا اليهود في العراق لعِبوا دَوْرًا أساسيا في الثقافة، في مصر أيضًا، وفي كل الفضاءات العربية. كان عمران المليح يَرَدُّ على بعض الكتابات، خاصة على الروائي الفرنسي المُقيم في تونس، ألبير ميمي، الذي بدأ بروايةٍ كانت جدّية ومُبشِّرة، لكنه كُلّما تَقدّم في العُمر كان يَصِفُ اليهودَ في البلدان العربية بأنهم كانوا مُهَمَّشِين وخاضِعين ومضُطَهَدين، هو كان يَردُّ ويأتي بحُجَج تُبطل هذا الكلام. كما تَعلم أيضًا، هنالك في إسرائيل يهودٌ يُعارِضون الأيديولوجيا الصهيونية، ويَجدون فيها ما يخُالِف التصورَ الديني اليهودي. إدمون كانت له مواقف، لا أظن أنه تعرّض لضغطٍ، كان هذا موقفًا تاريخيًا مُسجَّلًا ومعروفًا في المغرب، وكلما تحدث كان يَكشف هذا النقد.


(*) بما أنك عَنْوَنْتَ الكتابَ في أحد تمفصُلاتِه، ثورةُ الذاكرة، كيف يمكن الإبقاءُ على عمران حيًا في الوسط الثقافي المغربي؟
لا بد من إعادة الاعتبار لمؤسَّسة عمران المليح التي أسهمتُ في تأسيسِها مع الأستاذ أندريه أزولاي. المؤسسة لم تَعرف مع الأسف النشاطَ الذي تَستحقُّه، ولذلك فأنا اقترحُ تخصيصَ شقّة، أو بيت، أو فضاء، لأنه العُنصرُ الأساسي لإنجاح كل مشروع يَتعلّقُ بأي مؤسَّسة، فداخل مثل هذا الفضاء يمكن للناس مُتابعة الأنشطة، والاطلاع على أوراقِه الخاصة وكُتُبه واللوحات التي اقتناها، أو تلك التي أُهْدِيَتْ له، هذا هو الشرطُ لكي يَظلُّ عمران حاضرًا في الحقل الأدبي المغربي.