سيلفان سيبال: 7 أكتوبر دليل عدم موت القضية الفلسطينية

بوعلام رمضاني 16 سبتمبر 2024
حوارات
سيلفان سيبال

خلافًا لمثقفين عرب كثر فضلوا الصمت حيال إبادة غزة تعبيرًا عن تململ وجودي غير مسبوق، ردّ الكاتب والصحافي سيلفان سيبال على دعوة "ضفة ثالثة" بعد انتظار تجاوز ستة أشهر. سيبال الكاتب الفرنسي اليهودي غير معروف بالقدر الكافي إعلاميًا، كونه لا يستضاف بانتظام في القنوات التلفزيونية كما يستضاف برنار هنري ليفي، وألان فينلكلكروت، وجيل كيبال، ولوك فيري، وإليزابيت بدنتير، التي انتفضت مستاءة عند سماعها أحد الصحافيين ينطق بتعبير إبادة غزة، من منطلق إيمانها بنهاية مفهوم الإبادة بعد الهولوكوست الذي تعرضت له عائلتها.
في الحديث الذي جمعنا به، اختار سيبال الكلمات وزوايا الرد بعناية محسوبة، وعيًا منه بحدود الحرية عند التعبير بلبس وغموض ولف في تقديرنا، عند الحديث عن جرائم ضد الإنسانية في غزة، وليس عن إبادة كما نعتقد. سيلفان سيبال الذي لم نتفق معه حيال هذا الأمر، قال ما يكفي في الوقت نفسه لإغضاب بنيامين نتنياهو، وتفنيد مزاعم أنصاره غير القادرين على ربح حرب كانوا يعتقدون أنها ستكون سهلة ضد فلسطينيين "إرهابيين متخلفين وبدائيين وحمقى"!
وُلد سيلفان سيبال عام 1948 في بوردو، وهو صحافي وكاتب فرنسي تخصّص في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي بشكل حولّ كتبه الهامة إلى مراجع أساسية لا يمكن الاستغناء عنها لفهم جذوره واستمراره حتى اليوم. سيبال المؤيد لحقوق الشعب الفلسطيني "من دون التضحية بحق إسرائيل في الوجود" كما يؤكد، عمل في صحيفة "لوموند" (1998 ــ 2013)، وكان مراسلها في نيويورك (2007 ــ 2013)، بعد أن ترك مجلة "كورييه إنترناسيونال" التي عمل فيها لمدة خمسة أعوام. سيبال يتعاون حاليًا مع موقع "أوريان 21" لمؤسسه الكاتب آلان غريش، وهو صاحب كتب هامة أبرزها "المسورة: المجتمع الإسرائيلي في انسداد" (لا ديكوفيرت عام 2006)، و"إسرائيل ضد اليهود" (الدار نفسها عام 2020)، والذي صدر مؤخرًا في طبعة جديدة موسّعّة بعنوان فرعي "بعد غزة". عاد إلى فرنسا بعد إقامته 12 عامًا في إسرائيل مناهضًا الصهيونية، ورافضًا استيلاء إسرائيل على أراضي الفلسطينيين وطردهم وقتلهم بشكل وحشي متعمد. نبذه بعض أصدقائه السابقين بسبب موقفه المذكور الذي جعله يقارن تصنيف إسرائيل العنصري للفلسطينيين بسياسة الاستعماريين الفرنسيين في الجزائر. هنا نص الحديث الذي جمعنا به حول فناجين قهوة باريسية، وعلى مرأى ومسمع شاب فرنسي اعترف لنا باستفادته كثيرًا من إجاباته، ومن أسئلة "ضفة ثالثة".

علم فلسطين والتدميرالإسرائيلي يشيران إلى غزة 


(*) سؤالي الأول: لماذا قبلتم دعوة "ضفة ثالثة"، الموقع الثقافي العربي في نهاية المطاف، علمًا أنكم تعرفون أنني لن أتردد في طرح أسئلة قد تكشف عن خوف جعل كثيرًا من الكتاب العرب والغربيين يصمتون حيال إبادة غزة بسبب خشيتهم من تهمة معاداة السامية في حال إدانتهم إسرائيل، وحتى لو أدانوا حركة حماس في الوقت نفسه، باعتبارها "سبب المأساة الفلسطينية الناتجة عن هجمات السابع أكتوبر/ تشرين الأول"، كما يقولون؟
لبيتُ الدعوة أساسًا لأنكم أخبرتموني أنكم تبذلون المستحيل لنشر كتاب عن ما أسميتموها بإبادة غزة اعتمادًا على متابعة صحافية في باريس التي تقيمون فيها منذ عقود، ولأن الأمر مسألة حياة أو موت. المشروع يهمني، لأنني صحافي مثلكم، ونشرت عددًا من الكتب عن إسرائيل، موظفًا تجربتي كمراسل سابق لصحيفة "لوموند" في القدس.




ردًا على الشق المتعلق بالخوف في سؤالكم، لا أعتقد أن الخوف الوارد وحده هو السبب الذي ترك كثيرًا من الكتاب والإعلاميين يترددون في إبداء مواقفهم مما يحدث حاليًا في غزة. هنالك أسباب كثيرة تدخل في الحسبان، ولا أستطيع التحدث بدل الذين تصفهم بالصامتين، أو المحايدين. يمكنني التحدث عن نفسي كواحد من المتخصصين في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني الذي أعرفه بنسبة كبيرة رغم سلبية عدم إجادتي التحدث باللغة العربية. بالنسبة لعامل الخوف الذي يحول دون إبداء مواقف واضحة ومباشرة مما يحدث في فلسطين منذ السابع أكتوبر/ تشرين الأول، أعتقد أنكم محقون في إثارته استنادًا لطغيان أغلبية صامتة تنقصها الجرأة في مقابل أقلية جريئة.

(*) وأنتم واحد من هذه الأقلية؟
ممكن، ولكن لا أعتقد أنه بالخوف فقط نفسر صمت وتذبذب وغرابة مواقف أولئك الكثيرين. شخصيًا، أعرف كثيرًا من اليهود الأذكياء الذين يتبنون مواقف منصفة حيال الفلسطينيين في أثناء تواجدهم خارج إسرائيل، ويتبنون أخرى مخالفة بمجرد دخولها. شخصيًا، لا أفسر الأمر بالخوف فقط. هنالك عامل الارتباط العاطفي وعلاقته بالمكان المرادف لوطن لا يمكن التنصل منه وجدانيًا وثقافيًا، الارتباط بالأرض في الحالة الإسرائيلية مسألة نفسية تنعكس حتمًا على الموقف السياسي، وكثيرة هي الأمثلة التي يمكن أن تضرب في هذا السياق.

(*) مثلًا، ألبير كامو الذي تعرفه جيدًا بحكم هويتكم الفرنسية، لم يشتهر فقط كروائي كبير، واشتهر أيضًا بموقفه الوجداني حيال الأرض التي يراها فرنسية، في حين هي جزائرية تاريخيًا، ومات ممزقًا وجدانيًا وسياسيًا ومتأرجحًا بين فرنسا والجزائر، واشتهر بمقولته يوم تسلمه جائزة نوبل للآداب عام 1957 في السويد "إذا خيّرت بين أمي والعدالة، فإنني اختار أمي". ما رأيكم في هذه المقارنة من منطلق إلحاحكم على العامل الوجداني؟
المقارنة صحيحة، وأنا أعرف كما تقولون مشكلته الوجودية التي ما زالت محل خلاف بين المثقفين والصحافيين عند مقاربته سياسيًا حيال حرب الجزائر.

(*) لكنه كان يؤمن بتفوق الأوروبيين حضاريًا، وناضل لبقاء ارتباط الجزائر بفرنسا رغم سعيه للتوفيق بين العدالة والاستعمار الذي لا يمكن أن يكون عادلًا بحكم طبيعته السياسية. شخصيًا، كتبت مقالًا تحت عنوان "إبادة غزة وكامو لو كان حيًا"، متصوّرًا تكراره الموقف نفسه. ما رأيكم؟
لا أعرف كيف كان سيكون موقفه تحديدًا، لكن أعرف أنه لا يمكن للإنسان أن يقف ضد وطنه تحت وطأة العاطفة، وسارتر بدوره لم يكن مؤيدًا مطلقًا للفلسطينيين مثلكم. العاطفة تلعب دورها سياسيًا عند الحديث عن الأوطان، والأمر عام، وليس وقفًا على هذا الشعب، أو ذاك.

(*) عاطفة تفسر ثقافيًا وأيديولوجيًا وتاريخيًا بروح توراتية يؤكدها في كل مرة أنصار نتنياهو في الحالة الإسرائيلية، ويرى أن حرب إسرائيل هي حرب العالم الغربي المتحضّر ضد البرابرة العرب، الأمر الذي يُحيلنا على قول جول فيري، منّظر الاستعمار الفرنسي، والذي لم يتعرض لإدانة كامو حسب أستاذه جان غرنييه. أليس كذلك؟
نعم، قال نتنياهو ما جاء في الشق الأول من سؤالكم، لكن لا أعرف حقيقة ما جاء في الشق الثاني من سؤالكم. أضيف في سياق المقارنة، بقولي إن الإسرائيليين الذين يدافعون في كل الحالات عن إسرائيل يتوقفون عن التفكير بعقلانية عند مقاربة صراعهم مع الفلسطينيين تمامًا كما نقارب الأم، وهذا ما حدث لكامو أيضًا في تقديري. (بعد أن يضحك): اسمحوا لي أن أطرح عليكم بدوري سؤالًا شخصيًا، وهو كيف ومتى قررتم محاورتي؟

(*) بعد أن شاهدتكم تتحدثون لقناة "فرنس أنفو" العمومية بشكل لا يدافع عن إسرائيل بعمى أيديولوجي ما زال طاغيًا في باريس. فيلم "يلا غزة" كان فرصة ثانية لتأكيد مقاربتكم "المتوازنة" إلى حد ما حيال الصراع الإسرائيلي الفلسطيني مقارنة بمثقفي الشاشات التلفزيونية، رغم تقاطعكم معهم عند إلصاق الإرهاب بإسلاميي حماس فقط، وسنأتي على ذلك. قبل ذلك، أطرح عليكم سؤالًا جديدًا مفاده: كيف أضحى عدم إجادتكم اللغة العربية سلبية حالت دون مقاربتكم الصراع الإسرائيلي الفلسطيني كما يجب، على حد تعبيركم؟
تتمثل هذه السلبية في فهمي وأنا في إسرائيل كل ما يقال عن الصراع باللغات العبرية والفرنسية والإنكليزية، في حين ذلك لا يتم مع اللغة العربية، وهذا عائق كبير يحول دون معرفتي وجهات نظر هامة يبديها مختلف السياسيين والمثقفين والمبدعين العرب. وشئتُ أم أبيتُ، ينعكس ذلك سلبيًا على عملي كمراسل وكاتب يحاول الإلمام بجوانب الصراع كافة.

كتاب سيلفان سيبال "االمسورة: المجتمع الإسرائيلي في انسداد"






(*) هذا العائق نراه جليًا في كتبكم التي لم تعطوا فيها الكلمة لمثقفين فلسطينيين وإسرائيليين وغير إسرائيليين عرب يتحدثون اللغة العربية. كمثال على ذلك، كتابكم "إسرائيل ضد اليهود" الفريد من نوعه، الذي يؤكد خطورة نهج بنيامين نتنياهو. ما تعليقكم؟
بالفعل.. بالفعل.

(*) إذا فهمت جيدًا كتابكم "إسرائيل ضد اليهود"، السابع من أكتوبر لم يفاجئكم، والقوى المناصرة اليوم لنتنياهو مسؤولة عن تعرض المجتمع اليهودي لعنف دائم حسب روني برومان الفرنسي اليهودي مثلكم؟
(بعد تردد كبير ردّ)، نعم السابع من أكتوبر لم يكن مفاجأة بالنسبة لي، كأحد العارفين بتاريخ صراع لن ينتهي كما يريد نتنياهو اليوم. السابع من أكتوبر أثبت أن ما تفعله إسرائيل برعاية الولايات المتحدة الأميركية من خلال التطبيع مع بعض الدول العربية لن يكون حلًا حقيقيًا وجذريًا للصراع القائم بين الإسرائيليين والفلسطينيين. السابع من أكتوبر أعاد فلسطين إلى واجهة الحدث العالمي بغض النظر عن طابعه الإرهابي في تقديري الشخصي، بعد أن قال نتنياهو إنها انتهت بدعم من أطراف عالمية وحكام عرب، ومن بينهم محمد بن سلمان، كما أنه يعد دليل عدم موت قضية نضال شعب بغض النظر عن مدى اتفاقنا، أو اختلافنا، مع أساليب نضاله. السابع من أكتوبر تفنيد قاطع لتحاليل اعتقد أصحابها أن إسرائيل قد انتصرت.

(*) الكلمات الأخيرة تؤكد تقاطع طرحكم مع طرح المحلل السياسي جان بيال فيليو، المستعرب وصاحب كتاب "لماذا فقدت فلسطين، ولماذا لم تنتصر إسرائيل"، الصادر مؤخرًا عن دار "ساي". على مسمعي ومرآي، أكد في ندوة قدمت في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في باريس أنه رغم كل عوامل الضعف الفلسطيني، والتفوق الإسرائيلي غير المحدود، لم تنتصر تل أبيب، واستمرار المواجهة بين طرفين غير متكافئين على الأصعدة كافة هو دليل انسداد الحل العسكري والأمني الذي أكدته الحرب الدائرة بينهما حتى لحظة كتابة هذه السطور. ما تعليقكم؟
لا تعليق لي أضيفه بعدما جاء في سؤالكم الذي يؤكد تطابق وجهة نظر فيليو مع وجهة نظري.

(*) وهي نفسها وجهة نظر أوبير فيدرين، اليساري الاشتراكي، ووزير الخارجية السابق، دومينيك دو فيلبان الديغولي اليميني ووزير الخارجية السابق أيضًا، وروني برومان، الكاتب والناشط الإنساني، والمدير السابق لمنظمة أطباء بلا حدود...
جميل، وهذا دليل تجاوز فلسطين مستوى الخلاف الأيديولوجي "يسار يمين" التقليدي، ولو في ظل طغيان مواقف المثقفين والسياسيين المؤيدين لإسرائيل بشكل لا يقبل التشكيك في حدود مصداقيته.

(*) أفهم أن السابع من أكتوبر لم يشكل لديكم مفاجأة في المطلق سياسيًا بحكم مقاربتكم قضية تخصصتم في معالجتها تاريخيا كصحافي وككاتب لاحقًا، لكن أتصوّر أن جوانب ما مرافقة له، أو متفرعة منه، جعلتكم تتفاجأون بطريقة أو بأخرى؟
معكم حق في تنبيهي إلى هذه الحقيقة. فعلًا، ما زلت مندهشًا من الطريقة التي تمت بها هجمات السابع من أكتوبر، ومن الأبعاد التي خلّفتها داخل وخارج إسرائيل بسبب عجز إسرائيل عن تفادي مثل هكذا هجمات قامت بها حركة سياسية معزولة فلسطينيًا وعربيًا ودوليًا ضد دولة تملك أقصى مستويات التقدم العسكري والتكنولوجي والخبرة الأمنية التي أصبحت في خبر كان. آثار السابع من أكتوبر تسببت في شق إسرائيل داخليًا وخارجيًا، رغم التأييد الذي يحظى به نتنياهو سياسيًا، وستحل ساعة المحاسبة طال الزمن أم قصر.

(*) ولهذا السبب يعمل أنصار الحكومة الصهيونية المتطرفة على تأجيل هذه الساعة قدر المستطاع تفاديًا لمحاسبة سيكون نتنياهو ضحيتها الأولى، وسحق حماس كما يكّرر بانتظام، لم يعد ممكنًا بعد الفشل في تحقيق أهداف الحرب. أليس كذلك؟
بلى.. بلى، والفشل كان سابقًا للسابع أكتوبر، التاريخ الذي اختارته حماس كتاريخ يحمل رمزية تحدٍّ غير مسبوق. إنه فشل مشروع وزير الدفاع الإسرائيلي الذي صرح قبل عامين: "سنبني أكبر جدار في العالم، وهو الجدار الذي لا يمكن اختراقه".

(*) إنه فشل استقراء إسرائيل "المتقدمة تكنولوجيًا وحضاريًا على قدرات عدو متخلف، همجي، بدائي وأحمق"، ولا يمكن أن يواجه أكبر قوة عسكرية في الشرق الأوسط. هذا ما كان يؤمن به الاستعماران الفرنسي والأميركي في الجزائر وفي فيتنام.
تمامًا.. تمامًا.

(*) إنها العقلية الاستعمارية التي وصف الجنرال جياب أصحابها بـ"التلاميذ الأغبياء"...
تمامًا.. تمامًا.

(*) أخيرًا.. وخلافًا للكاتب آلان غريش، مؤسس موقع "أوريان 21"، الذي تكتبون فيه بحكم صداقتكما، ورغم اختلافكما في مقاربة الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، ترفضون ربط الاستعمار الإسرائيلي الذي تقرون به بالإرهاب، خلافًا لنوعم تشومسكي، وغريش، اللذين يريان أن الاستعمار إرهابي بطبيعته. ما ردكم؟
هذا التصور لا يهمني، وأكتفي بالقول إن الإرهاب هو سلاح الضعيف، وقائدكم الفذ العربي بن مهيدي رد على الجنرال ماسو الذي كان يراه إرهابيًا قائلًا "أعطونا طائراتكم... نعطيكم قففنا (أكياسنا)"(1).

(*) لماذا لم يوصف جان مولان المقاوم الفرنسي الشهير بالإرهابي في أثناء مقاومته الألمان، رغم أن عملياته كانت تطاول المدنيين؟
سبق أن قلت لكم لأنه أوروبي، وليس عربيًا ومسلمًا.

(*) وكامو كان أوروبيًا، ووصف قادة جبهة التحرير بالإرهابيين.
نعم، وتحدثنا عن ذلك، وأنتم تلحون على الربط بينه وبين ما يحدث اليوم في فلسطين.

(*) ولن أمل في تكرار ذلك.
اتفقنا على ساعة حوار، ويجب أن أذهب الآن.

شكرًا جزيلًا لكم.

هامش:
(1) ثوار جبهة التحرير، كانوا يضعون القنابل والمسدسات في القّفف.