إدوار الخراط... مرايا الذات وخفوت الأنا

معن البياري 7 ديسمبر 2015
سير
إدوارد الخراط (العربي الجديد)
تعرّض الروائي إدوار الخراط (وهو قاص وناقد وشاعر ومترجم)، في عام 1978 إلى حادثة شديدة الفرادة، موجزها أنه كاد يموت قتلاً عند اختطاف 14 رهينة، كان أحدهم، في عملية ارتكبها الشخصان اللذان اغتالا الكاتب المصري، يوسف السباعي، في قبرص، ثم أخذا الرهائن في طائرة قبرصية، ظلت تطوف نحو 36 ساعة، في أجواء بلاد عربية لم تسمح لها بالهبوط، وقبل نفاد الوقود منها بأربع دقائق، هبطت في جيبوتي. وفي الجو، حدث أن أحد الخاطفين بينما كان ممسكاً بقنبلة، جلس إلى جانب الخراط، وغفا، نحو دقيقة، لو سقطت في أثنائها القنبلة، لقضى الجميع في كارثة مشهودة. وقال الكاتب الذي رحل الأسبوع الماضي إن تلك الدقيقة مرّت كأنها أبد من الزمن، لم تنته إلا عندما تصرّف زميل الشخص الغافي، وأيقظه، من دون أن تسقط القنبلة. 

روى إدوار الخراط تلك الحادثة، بتفاصيلها المثيرة، في حوار صحافي معه، وحكاها في برنامج تلفزيوني عن اغتيال السباعي، بثته قناة الجزيرة. وقال إنه لعله يجد فسحةً من الوقت لكتابتها، غير أنه لم يكتبها في أيّ من أعماله الروائية والقصصية، بل إنها لم تحضر بكيفية حكائية في أي من نصوصه. ولأنه لم يدون سيرة حياته، والتي قال مرّة إنها "حياة مليئة بالمعجزات"، فإن تلك الواقعة لم تحضر في غير أحاديثه للصحافة. وعندما أراد أن يكتب سيرةً لشخصه، اختار أن تكون سيرة لكتابته، كما فعل في كتابه الكاشف "مهاجمة المستحيل، مقاطع من سيرة ذاتية للكتابة" (دار المدى، دمشق، 1996)، وهو يلتقي مع كتاب يضم شهادات له وحواراتٍ معه، نشر بعنوان "مراودة المستحيل.. حوار مع الذات والآخرين" (دار أزمنة، عمّان، 1997). وفي الكتابين، تجليةٌ كاشفة لصلة إدوار الخراط بكتابته، وبذاته، لا بأناه، الذات المتشكلة من الخبرة في العلاقة مع الأشياء والوجود، وفي الاحتكاك بالعالم، المحسوس والمرئي، وفي اكتشاف الصلة بالآخر، على تنوّع هذا الآخر وتعدد عوالمه وفضاءاته. والمعلوم أن الذات مفهوم مركب، يتجاوز الشخصيّ المحض إلى صلة هذا الشخصي بالموروث والتراث واللغة والمجموع. وإدوار الخراط لا يبدو منشغلاً بأناه، فلا يحكي عنها كثيراً، وإنْ يؤشر، بطبيعة الحال، إلى المؤثرات التي ساهمت في تكوينه الثقافي، وفي انصرافه إلى خياراته الجمالية في الكتابة، وإلى قراءاته، في الطفولة وفيما بعدها. إنه يحكي عن اللغة، وعن لغته، عن الرواية، وعن روايته، عن الأدب، وعن أدبه، عن الجمال والحرية ومتعة القراءة. ويلح، في الأثناء، على المخزون العميق للموروث العربي والقبطي والإسلامي والعالمي في ذاته، وعلى قيم الحياة والخلود والحب والحرية والجمال.

اقرأ أيضًا: ثلاث سلاحف

اعتقل إدوار الخراط نحو عامين في 1948، وهذا مقطع من حياته لم يستوح منه وقائع في أي من رواياته وقصصه وأعماله، وكلها نصوص مهجوسة بقيمة الحرية، وإنْ في الوسع أن يقع قارئها على استيهامات وإفادات من تلك التجربة البعيدة. ومن مفارقات لافتة، أن برنامجاً تلفزيونياً، كانت تبثه "الجزيرة"، استضاف في حلقاته أدباء أنجزوا أعمالاً في "أدب السجون"، كان منهم إدوار الخراط، تحدث عن تلك التجربة التي أورد عنها، في شهادات ومقالات ومحاورات معه، أنه في أثنائها، علم نفسه اللغة الفرنسية، ولعل مشاركته التلفزيونية مفاجئة إلى حد ما، فالخراط ليس اسماً في "أدب السجون"، وليس في وسع قارئ أعماله أن يعرف أنه مر في مقطع من حياته بتجربة الاعتقال تلك. لا لشيء إلا لأن الأنا في سرده خافتة الحضور، أو غائبة غالباً، لا بمعنى ضمير السارد، ولكن بمعنى أنا الكاتب نفسه، على غير ما هو حال الذات التي تولي قيمة الحرية مكانة عالية المرتبة. ويكتب الخراط في "مهاجمة المستحيل" أن الحرية من الثيمات والموضوعات الأساسية، ومن "الصبوات المحرقة اللاذعة" التي تتسلل دائماً إلى ما كل ما يكتب. ويكتب في "سيرته" هذه أن "ارتباطه وإيمانه بما هو مقوم للإنسان: حريته التي لا يمكن أن تهدر، توقه إلى العدالة، وإلى الجمال، نشوته بالحس، وصوفيته بالمطلق، مأساته الكونية المحتومة كإنسان، وقدره المجيد في مجابهتها، تكافؤه الحميم مع رصفائه في المجتمع، وفي الحياة، وفي الكون".

اقرأ أيضًا: الحكواتية تروي، غولدا نامت هنا

ولا تزيد في الزعم، هنا، أن واحداً من وجوه الحرية التي ظل ينشدها إدوار الخراط أن سردياته ليست خاضعة للتصنيف المعهود للرواية والقصة، وقد سمى عمله "أمواج الليالي" (دار شرقيات، القاهرة، 1991) متوالية قصصية، و"إسكندريتي" (دار المستقبل، الاسكندرية، 1994) كولاجاً قصصياً، و"اختراقات الهوى والتهلكة" (دار الآداب، بيروت، 1993) نزوات روائية، و"ترابها زعفران" (دار المستقبل العربي، القاهرة، 1986) نصوصاً إسكندرانية. وقد أشاع مفهوم الكتابة عبر النوعية، وذلك في كتاب له حمل هذا العنوان (دار شرقيات، 1994). وإذا كان قد اجتهد كثيراً في التنظير لحساسية جديدة في الكتابة الأدبية، فإنه مبكراً، منذ أولى قصصه في "حيطان عالية" (1959)، كان مهجوساً بأن يحطم الحساسية القديمة، على ما قال بنفسه، وعلى ما رأى أنه أنجز هاجسه هذا، أولاً، في روايته "رامة والتنين" (1979)، والتي أفاد مرة بأنه أنفق ثماني سنوات في كتابتها. ومن تجليات الحرية القصوى في أدب الخراط الذي تعد فيه روايته هذه مركزية وأساسية لما بعدها أنه في وسعك أن تقرأ كثيراً من نصوصه بالتجول فيها كيفما اتفق، وأن تبدأ من أي صفحة، وليس شرطاً من الصفحة الأولى. وإنْ يرى صاحب هذه الكلمات في هذا الفعل خدشاً غير جائز في القيمة الجمالية الأهم في منجز إدوار الخراط السردي، والذي أخذ الرواية العربية إلى مغامرة، ذات نزوع تجريبي ظاهر، من حيث منح اللغة البطولة الأهم في النص، والكتابة الوصّافة ذات التدفق المسترسل الحاذق، والذي يقع على إشراقات اللغة بمفرداتها، عندما تنفذ في الوجود والعالم، بالوصف والمحاورة والتذكّر والاستلهام والإحالة إلى القديم والراهن والأساطير، وبتداخل الأزمنة واشتباكها، مثلاً. وإدوار الخراط يعتنق رؤية تقوم على أن الزمن بتسلسله المنطقي المضطرد، الذاهب إلى الأمام، لم يعد هو السيد، كما كتب في "مهاجمة المستحيل".

ويوضح، في الكتاب نفسه، أن كتابته مستلهمة من فن الأرابيسك العربي العريق، "من تلك الصياغات والخطوط التي تتكرر، أو هي قابلة للتكرار، حتى حدوده النهائية، فليس ثم هنا بداية ولا نهاية، ومن ثم، فإن الشكل هنا مفتوح، وكأن هناك بحثاً عن أبدية ما".

وحفراً في الذات، ومضياً إلى أغوار ثقافية مقيمة فيها، من مفارقات كاشفة، في "سيرة" إدوار الخراط الأدبية، أن إدوار الخراط، فيما يذهب نقاد ودارسون لمدونته الإبداعية أنه مضى إلى خياره الجمالي في الكتابة الذي تنفتح فيه الأزمنة والأخيلة، وتتداعى فيه اللغة الثرية بتدفق مثير، تأثراً بالرواية الفرنسية الجديدة، يقول إن "العناية بموسيقية اللغة في أدبنا المعاصر والطليعي الآن ليست مجرد غواية فنية، وليست على الإطلاق تكراراً لتجارب في الأدب الغربي، لها سياقها الخاص ومواصفاتها الخاصة، بل هي في صميمها دفاع بطريق الفن عن الهوية الوطنية التي تمثل اللغة عنصراً أساسياً فيها". ويوضح في مقالة ضمها كتابه "مراودة المستحيل" أن اللغة عنده، أساساً، "أداة فعالة لتأكيد الهوية الوطنية في وجه الهجمة الثقافية التي تهدف إلى تسطيح القيم الروحية والثقافية وتنميطها، وإلى تغريبنا عن جوهر ثقافتنا الأصيلة وتراثنا القومي"، وأنه ينطلق في قناعته هذه من منطلق ضيق الأفق، أو انعزالي، أو شوفيني على الإطلاق، ذلك أنه "يؤمن أن القيم الثقافية الروحية هي، في صميمها، إنسانية وعالمية، وهي، في أساسها، قومية وكلية، ولكنها ملك الإنسانية جمعاء". وفي "مهاجمة المستحيل"، يكتب إدوار الخراط "إن اللغة العربية شديدة الغنى والخصوبة، ومطواع، ومرنة وصارمة الدقة في وقت معاً، وقادرة على أن تكتسب روح العصر، وأن تفي بحساسيته". ويكتب، أيضاً، أن العلاقة بينه وبين العربية ليست فقط علاقة عشق وتدله، بل علاقة تشابك حياتي غني.

اقرأ أيضًا: القصة القصيرة والانتباه الغائب

يتكلم إدوار الخراط عن أناه الكاتبة في شهادات ومقالات ومحاورات، غير أن هذه الأنا الكاتبة خافتة الحضور في نصه الأدبي الذي تطغى فيه الذات المحملة بالشخصي وبالمجموع، بكل الموروث الذي يشكلها ذاتاً مثقفة، لا ذاتاً لفرد فحسب. ولعل الوعي الحاذق لدى هذا الأديب العربي الكبير باللغة العربية ومشمولاتها وثرائها، وهو الشغوف بها، يحيل إلى ما يؤكد هذا الأمر، غير أن الجماعة أو المجتمع أو المجموع، لا يظهر أي منهم في نصوص إدوار الخراط باعتبارهم كتلاً وهموماً، بل، على الأغلب، أشواقاً وأحلاماً وأصواتاً ومكابدات، وذلك في تصعيد لغوي، يتصف بالحداثة الحارة، إن جاز هذا الوصف، وحداثة الخراط في لغته، أي في الركن الأساسي في صنيعه الفني، موصولة بالعتيق من اللغة، ولكن متجدداً بالإيقاع الخاص الذي يمتح من روح الكاتب وشعوره وحساسيته. وفي هذا الأمر، وغيره، صنع إدوار الخراط مجرى صعباً في المتن الروائي العربي، كان له أثره المحدود ربما على بعض الكتاب العرب ممن انحازوا جمالياً إلى عالم الخراط وعمارته في الكتابة، وهو صاحب نحو خمسة وعشرين عملاً روائياً وقصصياً وسردياً، ونحو عشرين كتاباً في النقد والتأمل والشهادة، وخمس مجموعات شعرية، فضلاً عن ترجمته نحو عشرين كتاباً في القصة والرواية والمسرح والنقد، كما أعد العديد من المسرحيات للإذاعة.

وتعود محدودية التأثير، وإن لا تعني محدودية الإعجاب، إلى أن الضربة الإبداعية اللافتة والخاصة التي رماها إدوار الخراط في راهن الكتابة السردية العربية، في نحو خمسين عاماً، تبدو، إلى حد كبير، غير متصلة بتراكم من جنسها، أو شبيه لها، وبدت كأنها تصنع مجراها نائية عن نجيب محفوظ وعمارته ومجرى نهره السردي، غير أن الأثر الجمالي الذي أحدثته هذه الضربة المعامرة والمناورة كان لافتاً ومضيئاً، عند من وقعوا على مقادير الإمتاع والمؤانسة والمخاتلة الغزيرة فيها، وقد احتاجوا إلى حساسية جديدة في مطالعة نصوص إدوار الخراط، وفيها ما فيها من تداخل الأنواع الأدبية في النص الواحد، ومن اختراق الأصوات المتعددة جسد الحكي المسترسل، ومن ذهاب بعيد إلى الروحي والعميق في جوانيات الذات.

كلمات مفتاحية