لتعليق الأطواق في أعناقنا وقتٌ آخر

مناهل السهوي 15 أكتوبر 2017
يوميات
عمل للفنان الأردني هاني حوراني

 

صبيحة ذلك اليومِ الخريفيّ من نهاية أيلول لا تبدو مناسبة سوى لمراقبة الزقاق المقابل من داخل" مقهى زرياب" في حي باب توما، طفلٌ يغرس ملعقةً في طبق البوظة، حمامة تروح وتجيء، ثم تحلّق أمام خطوات عكاز عجوز، أشياءٌ كثيرةٌ أرغب في مشاهدتها من داخل المقهى، لم أراقب أشياء بهذه البساطة، أشياء تكاد تغيب للحظة، الأرجل المسرعة، الأرجل البطيئة، وتلك التي لا تودُّ المتابعة، الباب هو عيني الوحيدة وحاجتي الأساسية في هذا الوقت. الحزن لا يعني شيئاً هنا، إنه كما التضرع لبشر بأحذيةٍ مهترئة، الأحذية التي تمضي نحو عمق هذه المدينة وتبذل آلامها في سبيل ليلة هادئة.

لن تعرف هذه المدينة إن لم تشاهد العيون المذعورة تنظر بعضها نحو بعض، بعد سماع صوت قذيفة بالجوار، تمشي بعجلة كما الآخرين ليلمحك أحدهم يجلس في مقهى ويراقب الأقدام، أتابع قضم (كروسان القيمرية) المشهور، لكنه ابتلاع من ذلك النوع المذعور، يا للهول كم نحن متشابهون لحظة الخوف! وكم نختلف في أوقات السعادة، إنّها الهبة الإلهية التي لا تشبه غيرها، هل للسعادة مكان؟ زاوية في مقهى زرياب مثلاً، أنسلّ إليه، أفتح حقيبة الخيش كمقاتلة من عصورٍ قديمة تُخرِج زوادتها بعد عناء يوم طويل، السجائر وهاتفي الجوّال حيث أترك في مفكرته بعض الملاحظات، وفنجان قهوة يتبعه آخر لاحقاً من النسكافيه، أراقب المارّة أمام المقهى ورائحة الرغبات التي تخرج من الأفواه كعذر وحيد للبقاء، الكتابة هنا تنبثق من الكراسي وسقف الخشب والحجارة البيضاء الناتئة، وفتاة تدخن بشراهة ولا تشعر بالجوع سوى للمكان، لطاولة النحاس المدورة أمامها، تلتقط صوراً للأشياء الفارغة، للطاولات، للكراسي، لتعيد تشكيلها في مكان آخر، مع أناس آخرين، أشعر برغبة في قضم السجائر وفنجان النسكافيه والضوء الأصفر للفانوس والملمس الخشن للحيطان. متى سيكون بإمكاننا ابتلاع مكان نحبه، متى يمكننا المشي وفي داخلنا مكان نتجشأ آخر ما ابتلعناه منه الضوء؟

أأحب دمشق أم مقهىً حميميّاً فيها!، أأشتاق لسقراط القط الأبدي في زرياب! حين يدخل متأرجحاً ليتمسح بي. حين مات ذلك القط الرمادي سمي آخر بذات الاسم، كان يشبهه بشدة ويقوم بالحركات ذاتها، ليت من نحب كسقراط، حين يموت أو يرحل نتمكن من إطلاق الاسم مجدداً على شخص يشبهه تماماً، سقراط لا يستطيع التمسح بي أو القفز إلى حضني إلا صباحاً، حين يكون المقهى فارغاً، يمنع دخول القطط إلى المقاهي المزدحمة، سقراط الأبدي، الذي مات مرة وسمينا قطاً يشبهه بالاسم ذاته.

قدماي هما كلّ ما أملكه في هذه المدينة، أغرسهما في الأزقة، في الشوارع والحفر فيتسرب وجع المدن والناس داخلي، إنه كالسحر والفراغ والرغبة في صنع مكان يخصني لبعض الوقت، كشاب يحاول قفل العقد في عنق حبيبته، يفشل كثيراً فيضحكان عالياً. لتعليق الأطواق في أعناقنا وقت آخر، أفكر وعيناي نحو الباب ماذا يعني المكان؟ ماذا يعني المكان في مقهى وسط دمشق؟ وعمّا أبحث وحدي فيه، لمَ أُكثِر من التهام السجائر هنا! هذه المدينة ليست لأحد ولا يجب أن نحب فيها شيئاً لأنها ستعرف لاحقاً كيف تعاقبنا، لذلك في كلّ مرة أنسل وحيدة إلى زرياب كأنه المكان الوحيد الذي أثق أنه يعرفني ولن يعاقبني مها فعلت.

يريحني هنا أن أكون لا شيء ولا حتى نافذة تمسح عنها الغبش فيسيل الدمع من عينيّ، لو تعلم كيف صار الشتاء سحّاباً طويلاً لمعطف العزلة داخلي، مذ عرفت أن الحب ندبة أبدية في وجه العالم، والحياة طقس نعتاده ونعلّم أطفالنا أن يفعلوا ذلك، أطفالنا الذين لم نفكر مطلقاً بهم، سنطلقهم إلى حدائق هذه المدينة. لو تعلم كم أحببتك وأنت تمشي، وتلهث بالكلمات، لو تدري كيف مشت الأصوات إلى أذنيّ أيضاً، كيف عبر صوتك سماعة الهاتف وكيف كانت خطواتك ترسم دمشق في أذني، والآن بعد حين، وقفنا كلنا أمام الحفرة الكبيرة ، نلمح قلوبنا الممرغة بالتراب وأيدينا تمتد بحزن وهدوء من تراب العمر، الآن حين يجب أن نكون عادلين، لا نقوى على التقاط قلوبنا والعودة بعد حرب طويلة استنفدت كل ما كنا نخطط له ونريده، انتهت حربك أعلم، تلك التي لم تكن عادلة لكنها كانت حقيقية وتركت لي حرب المدن أراقبها، أسجّل ملاحظاتي عنها، يقولون ستنتهي الحرب قريباً، ماذا عساي أفعل بكلّ هذه السكينة بعدها! لذلك أختار زرياب ولذلك يختار الجميع أماكن تكون نقطة ضعفهم وهشاشتهم، هنا أرحل أبعد من المكان ومن ذراعيك ومن رائحة المدينة، المدينة التي تشبه رجلاً يخطف شيئاً من خدك بثلاث أصابع، لا شكّ أنها حشرة لعينة، يقبّل الشيء بين أصابعه ويبتسم من الجهة الأخرى، أضع يدي على خدي وأبتسم، إنها الفرص القليلة التي نفهم بها الحب والمدن، بثلاث أصابع تلتقط حشرة الوحدة عن خدنا ليقبلّها رجل يدرك شكل الحزن المتكور في الزاوية.