هل تمكنني العودة إلى أواخر أكتوبر؟

فتحية الصقري 19 يناير 2018
يوميات
لوحة لفان كوخ

(اثنان، صفر، واحد، سبعة)، (سبعة، واحد، صفر، اثنان)، (2017)، أكتبكَ بشكل واضح، من اليسار إلى اليمين، من اليمين إلى اليسار، بالأرقام، بالأحرف، بأربعة ألوان مختلفة (أصفر، أخضر، أزرق، برتقالي) على أربع قطع كرتونية مفرودة على السرير، ألتقط لك صورًا من زوايا مختلفة، عن بُعْدٍ، عن قرب؛ لتبدو وسيمًا وجذابًا مع التماثيل والدُّمَى ولون ستارة الغرفة التركوازي؛ لأكتشف بعد خمسة عشر يومًا من مغادرتك، أنني عالقة في المشهد، في الصورة الأخيرة الملتقطة لحزنك السعيد، ممسكًا برسائلي التي سيذهب بها إلى المجهول، إلى اللاجدوى، إلى سلَّة المهملات الكبيرة، بكلماتها الحادَّة، اللطيفة، الشرسة، اليائسة، الحالمة، السعيدة المكتئبة، وعناوينها المبهجة، مثل علَمٍ مرفوع على سطح عمارة محترقة.

- نزوى 28/ديسمبر/ 2017

وأنت ترتِّب حقائبك، استعدادًا للمغادرة إلى مكان ما في ذاكرة الزمن، أقلّبُ أيَّامَك، مثلَ مَن يقلِّب كتابًا ضخمًا بملل وفضول، في الوقت نفسه، وأتساءل: ما الذي ستحمله حقائبُك؟

 هنالك أيام بدت وكأنها أُمٌ تضرب أبناءها في الصباح، وتشعر بالندم في المساء، وأيام كأنها معلمٌ خائف، يحفظ الدرسَ جيِّدًا، ويقرأه بحذافيره على تلاميذه، دون زيادة أو نقصان، وأخرى مثل مِشرَطِ جراحة بيد طبيب مغرور، يُجري أول عملية جراحية، ومثل مدير بيروقراطي يمسك نظام العمل الحديث بالمقلوب، ويمنح المرضى، عُشَّاقَ أنفسهم وأهوائها، فرصةَ البطش بكلِّ من تسوِّل له روحُه التفكيرَ في الطُّرق الجديدة، في المفاتيح، وفي ذلك النور الذي يمزِّق ظلمةَ الليل، ببطء، ليخلق صباحًا، يأخذ حياة المزارعين والبُستانيِّين والصيَّادين وعُمَّال الموانئ، على محمل الجِدّ، وأيامٌ مثل شرطيٍّ يوقف الشارع على عجَل، ليسمح بمرور عائلة كبيرة من قطط الشوارع.

 أيامُك مثلُ غابة سحريَّة، تُخرج كلَّ ساعة أسماءً جديدة للحياة، تارة على شكل بيضة لا يُعرف مصدرُها، تفقس لاحقًا ديناصورًا صغيرًا، وتارة أبوابًا حديدية تعمل بأرقام سِريَّة، لا يعلم من يستطيع فتحَها إلى أيِّ جهة ستأخذه .

بدأتَ هادئاً وجميلا، بالنسبة لعاشقة مهتمةٍ بقصص الحبِّ والأجزاء الصغيرة، المقيمة في قلب شديد الحساسية، يفكِّر في الورد والقُبلة أكثر من المستقبل، ومشغول بأخبار الموضة والفنانين أكثر من أخبار المقاتلين والخطط الحربية والاقتصاد، متقلِّبا ومراوغًا ومخيفًا، بالنسبة لشاعر يصحو وينام برأس تركض فيه آلافُ الحيوانات الضخمة، جافًّا ومتوحِّشًا، بالنسبة لممثل لعبَ على مدار ثلاثة أعوام دورَ الإنسان الطيِّب والبسيط.

لم نختلف كثيرًا، تقول البنتُ الحالمة، أتصوَّر أنك صديقي، أسير رفقة الدقائق والساعات، بخطى ثابتة، أعرف كيف تتحوَّل الحبال إلى أسلاك شائكة، أعرف موعد اختفاء الشمس، ومتى، وأين تسقط الدبابيس، لكنني أُخطِئ في التوقيت، أُخطِئ في تركيب الكلمات، أخطئ في تحديد الليلة التي ستسقط فيها روحي، مغنيَّةً ساهية في أوهام الغد، كمن يتبع الدخان، ويلاحق الحرائق، كمن يسرف في مدح الخوف، لتبديد فكرة أنْ تصير، يومًا ما، لعبة أو حكاية مؤلمة.

وفي الوقت الذي تركض فيه بأيامك، مثل ثيران هائجة، داخل صدري، أقول: أحبُّك التي نتعاطاها بنزَق، ليست حاجزًا إسفنجيًّا يحمينا من التهشُّم، لحظة السقوط والارتطام بالأرض الصُّلْبة، وهذا الحنان الزائد قد يربِّي الأعاصير، والريحَ القويَّة التي تهبُّ، وتقتلع الأشجار، أشجار الورد بالتحديد، لكنَّ وجهَك مصباحٌ أصاب عيني بتلكُّؤ، وفمي بتردُّد فاضح، أبكي في الليل، وأغنِّي في الصباح، أشتمُ الذين يمدحون الأغبياء، ويدفعون أفكارهم للحياة، في العلن،  وأشكر الطرق التي لم تدلَّني على كلمة مريضة، مثل الأمل.

 أقلِّب أيامك بملل، يدفعني لتمزيقها، وحشرها في زجاجة بعنق ضيِّق، وبفضول يدفعني إلى المحافظة عليها، حتى آخر ساعة قبل مغادرتك. هل يمكنني العودة إلى أواخر أكتوبر؟ لأكون شخصًا آخر، شخصًا مقلِّدًا للمعلم الكيراندي الشهير، وأُعلن على الملأ، مع الوقت: أعداؤنا أيضا سينتهي بهم الأمر إلى الضحك (1).

شخص بارد، غير مبالٍ، غبيٍّ، وأحمق، لا يبحث، عبر غوغل، عن موضوعٍ حول أهميَّة وجود بيئة عمل، لا تسبِّب ألمًا نفسيًّا لمن يعمل بحبٍّ وحماسة ومتعة، لمن يعمل بطاقة هائلة لزعزعة قلقٍ ما يسيطر على روحه، لا يبحث عن يدٍ، عن قلب، عن تفاحة، عن أغنية، عن طريقة سريعة، لقتل خوفه، وخياطة جرحه، شخص بليد لا يرتعب ويمرض من وجوه حبيبه الأخرى،  حين يشاهدها لأوَّل مرة.

 شخص يذهب مباشرةً إلى جداره الفيسبوكي، ليكتب: "ليست الأعشابُ السيِّئة هي التي تخنق البذور الجيِّدة، إنما إهمالُ المزارع" (2). "أستوعب المعاملة السيِّئة من شخص ما ببطء، أفاجأ دائمًا: يبدو الشرُّ غيرَ حقيقي بطريقة ما" (3).

 أو شيء عن القشعريرة الموسيقية. "وجد العلماء أنَّ الاستماع للموسيقى، يُحرَّض إفراز الدوبامين، وهو ناقلٌ عصبيٌّ مهمٌّ في الدماغ، يمنح الشعور بالسعادة التي ترافق العديد من النشاطات، كتناول الطعام، أو ممارسة الجنس، كما أنه يلعب دورًا محوريًا في تشكيل سلوكياتٍ مهمَّة، حيويًا والمحافظة عليها" (4)، أو يضع أغنية "الدنيا ريشة في هوا"، ويعيد تسجيل نصوص "العيش في المياه العميقة/ أشياءُ لا تصلح للتسلية/ يحدث دائمًا في مثل هذا الوقت" بخلفيَّة موسيقية فاتنة، لنشرها على مواقع التواصل.

وفي الساعة الثامنة مساءً، يضع في فم الحزن المفتوح قطعة شوكولاتة، ويتأمَّل اسمَ مَن يحبّ، بأسئلة عميقة، وإجابات تدور وتقفز تضرب سقف المطبخ، وتسقط على طاولة الطعام، بجانب مجموعة ورودٍ صفراء، وكوبٍ فارغ، وكتاب "سافرت ملاحقا خيالاتي".

لم تحمل أيامُك صوتًا مختلفًا، تنبح حتى وقت متأخِّر من الليل، تحرس مُخرِّبي الجمال، المشغولين دائمًا بقطع الطرق، وهدم البيوت، وتمزيق الأرواح، تحرسهم من الخطر والغياب والضياع، من المجازفة والمشي باتجاه المحبَّة والحلم. لم تلتفّ مثل أفاعٍ سامَّة حول أجساد الأشرار، تظهر مبتسمة في السيلفي، تأكل عشاء فاخرا من موائد الفقراء، تقتل العصافير التي تطير من شجرة الحبّ، هكذا دون سابق إنذار، وتوزِّع الصباحَ في عُلَبٍ صَدِئة على المتألمين من فكرة الحياة، والعيش وسط القمامة.

لن أقول شيئًا واضحًا، مثل أُحبُّك، أو أكرهك، أو وداعًا، سأفتقدك، سأجلس في حجرك، وظهر رأسي على كتفك، مغمضة العينين، أقول لهذا القادم الذي يجلس خلفك، والذي يلوِّح بمنديله الأبيض، الواقف مثل شراع في سفينة تغرق: تعال.. تعال، سأكمل قراءة كتب "كيف أصبحت غبيًّا"، و"قطارات تحت الحراسة المشددة" و"عزلة صاخبة جداً"، بعد دخولك، وكمن يجلس مع صمت قديم، وينفض عنه الغبار، سأتأمَّل عينيك الساهيتين عن منظر المطر، أقدِّم لك شايًا بالنعناع، وأطعمك قطعتين من الحلوى.

ثم أبدأ بكتابة رسائل سريَّة للذين تألّموا، للذين فرحوا، للذين انتظروا، للذين استعادوا أنفسهم، للذين فقدوا أنفسهم، للذين خطَّطوا للفرح وفشلوا، للذين أحبُّوا وخسروا، للذين مدُّوا أيديهم، وعادت مكسورة، للذين غرسوا شجرة على جانب طريق، واقتلعتها الرياح، للذين جرحتهم المحبَّة.

(كلُّ ما عليك فعلُه، الآن، هو انتحالُ شخصية كوميديٍّ، أو مهرِّج، يملك إمكانات هائلة لاستعادة الفرح، ليقوم بمهمة تهدئة قلبك، قلبك الذي لم يستطع الخروجَ لشراء علبة سجائر من دكان الحبّ.
كلُّ ما عليك فِعْلُه، ولمدَّة ثلاثة أيام - ويمكنك مضاعفة العدد، حتى تحقيق أهداف المهمة -
تنظيفُ ألمه من شظايا سقْطة البارحة.

افتح عينيه المغمضتين، بكحلٍ مغشوش (اصنعه بنفسك)، ليتعلَّم كيف يبكي ويضحك في مشهد مسرحيٍّ قصير.
كلُّ ما عليك فعله هو إعادةُ تدوير كلمة (أُحبُّك)، لخلق بدائل مثل ربما، احتمال، أو لا شيء يدوم إلى الأبد، لتجيب على تساؤلات الحنان الذي ينهش رئيتك، مثل وحشٍ جائعٍ يقف عاريًا، بمحاذاة رصيف شارع جانبيٍّ لا يقصده أحد.
كلُّ ما عليك فعله هو تضييق الخناق على حزنه، وتطويقه لمنعه من تنفيذ رغباته الانتقامية، لتخريب بستان زهرة برِّية لا تفعل شيئًا، في هذه الحياة، غير العناية بنظرة حرّة، تنمو وتتفتَّح بالحبّ.
كلُّ ما عليك فعلُه هو استدراجُ الضحك، بطرق مختلفة لغرفة نومه، لزعزعة استقرار العالم الرابض بجواره، ورجِّ طمأنينته، حتى يسقط من السرير، العالمِ الهمجيِّ، سليطِ اللسان الذي لا يكفُّ عن التلويح بفرض الضرائب، وتقليص المساحات، وشطب بنود الترفيه والهدايا الجميلة، حاصِرْهُ بجيشٍ من النُّكَت التافهة، حوِّلْه إلى لعبة، وضَعْه في دُرْج، استخدمه في الأوقات التي تشعر فيها بالحاجة الشديدة للصُّراخ في وجه أحدٍ لا تحبُّه.

 إشارات:

من نص بعنوان (تدريس) للشاعر والمترجم والروائي الأرجنتيني خوان أكتابيو برينث ترجمة من الإسبانية إبراهيم اليعيشي.

2 من معجم الأمثال الصينية ترجمة الشاعر شاكر لعيبي.

3 إدوارد لوفي مصور وكاتب فرنسي ترجمة يزن الأشقر .

4 عن موقع "الباحثون السوريون".