يعيش الزعيم!

محمود عاطف 7 يناير 2018
سير
لوحة للفنان السوري فاتح المدرس

كنت في حجر أبي، أرتدي جلبابا أبيض فضفاضا، وأمام بيت بدا شبيها ببيت العائلة طبل وزمر وأفراح وخلْق كثيرون. أنا في الثانية من عمري، ومن شرفات البيت العديدة تطل نساء، أعرف بعضهن ولا أعرف الكثيرات، لكن الجميع رجالا ونسوة يبتسمون ويضحكون ويتراقصون حول حصان أسمر اللون، من المفترض أني سأركبه بعد قليل مع أبي. ويمر أحدهم مباركا، شاربه كثيف ويداه غليظتان، فينهض أبي من جلسته مُرحّبًا، ليشتعل ما بين فخذيّ نارًا حامية. يداعبني الرجل ويسألني عن مكان البلبل وما جرى له، يضحك أبي من الخد للخد، ويقول المبارِك: خلاص، بقى راجل بقى. ثم يمد يده بظرف في حجري؛ نُقوط مطاهرتي كما أعلم، ويربّت على كتفي ويده تتحسس شاربي. شاربي؟! واختفى بعدها شارب الرجل. توترت لمّا رأيتني بهذا الشيء على وجه طفولتي، تقلّصت بطني وأحسست بمثانتي تحتقن. ولا يبدو أن أحدًا لاحظ شيئًا مما يحدث، فالفرح والضحك يزدادان صخبا وعنفوانا.

ثم جاءت راحتي وكانت سخونة انطفأت على إثرها ضحكات الرجل ذي الشارب المختفي. بللته وبللت نفسي بدفقات ماء حارقة، فطفق أبي يتأسف وحملني مرتبكا من يد الضيف، والرجل يمسح آثاري مما مس جلبابه الأبيض الفضفاض.

***

ماذا لو تسلل الشك لقلوب بعض المؤمنين؟ ماذا عن غير المؤمنين ابتداءً بالصور التفسيرية التي يقدمها المتن؟

حين ينخر الشك ذوات المؤمنين فإن الميدان الأول لمنازعة المتن في أرضه يمر بدهاليز اللغة، لأنه من المستحيل التخلص من عالَمٍ دون التخلص من اللغة التي يتستر وراءها، وتضمن وجوده، أي دون أن نجعل حقيقته عارية كما كتب مصطفى خيّاطي. يرسّخ المتن سلطته عبر لغة ثابتة وعامة وفاصلة؛ مختزلة وبلا جماليات؛ ولذا فإنها لغة شعبوية تمكّنه من حشد أنصاره خلفه بسهولة. وفي مقابلها يطرح الهامش ترتيبا جديدا لكل شيء، أوّلها لغة المتن ذاتها عبر اختطافها ومحاولة قلبها على وجهها. وبدلا من استعاراتٍ تائهة، ينخر الهامش لغة المتن ليعرّيها من عموميتها، ويفتح فيها بابًا مكشوفًا على فضيحة.

الاختطاف أحد التقنيات التي طوّرها المواقفيون - ما بعد أحداث مايو 68 في فرنسا - عن مفهوم السرقة الأدبية عند لوتريامون، والتي يعتبرها ضرورة لأنها تطوّق جملة المؤلف وتستعمل تعابيره، تمحو فكرةً خاطئةً وتستبدلُها بفكرةٍ صائبةٍ على ما ينقله عنه عبد القادر الجنابي في تربيته. يقتضي الاختطاف والحال كذلك لُعبا على كلام السلطة/ المتن، أيّ سلطة، بتقويضه من داخله وباستعمال مفرداته. لشرح عمل الاختطاف. حيث تُستبدل بعض الكلمات بأخرى مع الاحتفاظ ببنية الجملة الأصلية.، يورد الجنابي الجملة التالية قبل اختطافها: ما تعلّمتَه في الصِّغَر ينفعك في الكِبَر، وها هي بعد الاختطاف تكشف عن وظيفتها القمعية: ما تعلّمته في الصغر يقمعُك في الكبر. يصبح كذلك الأمن القمعي بديلا لمفهوم فضفاض كالأمن القومي.

في العالميْن، عالم المتن وعالم الهامش، اللغة إحدى مقومات وجودهما، وأساس صورة كل واحد منهما في تقديمه لذاته. لكنّ المتن لا يلعب باللغة، إنه يسمّي العالم ببساطة. لذا لو صح أن اللغة لا تكتسب قوتها من المفردات والجُمل؛ أو أن سلطة الكلام لا تحصل بمجرد النطق بعباراته، أي بحالة البلاغ، إنما يحمل الكلام معناه من موقع مُبلّغه، بمكانه الاجتماعي والرأسمال الرمزي الذي يمثّله؛ أن قوة الكلام ليست من داخله، أو ليست أساسًا في داخله، بل في الصولجان الذي يرفعه الناطق به، فهل تكون لعبة الاختطاف بلا جدوى؟ بلا جدوى لأنها من لدُن خطاب بلا سلطة؟

على ما تشير الأمثلة السابقة، فإن خطاب الاختطاف ليس لغة جديدة، إنها لغة المتن بتفجير عناصرها من داخلها. ذلك لأن الهامش لا يطرح نفسه كمعكوس صورة المتن، بل يخلخل بأدواته سلطة المتن من داخل أرضه. وإذ يقدّم الهامش نفسه فإنه يسري في ذات غيره، إنه يُكوّن ذاته من تفتيت ذات أخرى، وهنا تكمن فاعليته: إنه لا يقيم في البرية، بل على أطراف أرض المتن ذاتها.

***

لمّا دخلنا ثلاثتنا، صاحوا جميعًا: يموت الزعيم! تعجّبت، لا لهتافهم، بل لأنهم كانوا مبتسمين ويهتفون بحرارة وبأصوات تملؤها الحماسة.

الأغرب أنني كنت سعيدًا مثلهم. هتفوا أكثر من مرة، ومع كل هتافٍ كانوا ينثنون بجذوعهم معلنين الولاء والطاعة. بدت تلك طريقتهم في الترحيب بي. إنها لغة لا أعرفها، لكن الواضح أنهم جميعا يعرفونها إلّاي، ومع ذلك لم أبدِ امتعاضًا أو تبرّمًا أو ضيقًا. حتى مُرافقيّ كانا يشاركان الجمع حماستهم، وكلما أحسّا بخفوت الهمة؛ رفعا أياديهما عاليا لتزداد حماسة الجموع أكثر فأكثر. هتفوا معهم بموتي، وابتسموا في وجهي أكثر من مرة، فابتسمت لهم، وتبادلت التحايا مع الجماهير.

لم أكن ولا مرة - فيما أعرفه عن نفسي - خطيبًا أو زعيمًا، فيما بدا أن مكاني يحتّم عليّ أن أقول شيئا. ليس مهما ماذا أقول، المهم أن

أقوله، وأقوله حالا، بعد أن خفتت تدريجيا حدة الهتافات، وانسحبت شيئا فشيئا حماسة الصوت، لتحلّ محلها العيون المترقّبة والآذان

المصيخة.

كنت على منصة عالية، في ساحة فسيحة يتضخم معها الصمت الراقد، فارتبكت أكثر، ثم رفعت يديّ عاليا فاشرأبّت الأعناق انتظارًا لما يبدو أنها حركة معروفة لهم سلفا. انهمر عرقي، فصحتُ يموت الزعيم، قلتها ثلاث مرات بصوت مخنوق، وقبضة يدي في الهواء تهتز من الرجفة لا الحماسة.

صاحوا ورائي بحماس شديد، هدرت جموعهم بالهتاف بعزم ما فيهم، وهم تحتي بالآلاف. قفزت ساعتها إلى ذهني كلمات صديقتي حين قالت لي معلّقة لمّا رأت شعري منسدلًا على كتفيّ مع لحيتي الكثيفة: لقد أصبحت شبيها بالمسيح. أعجبني تعليقها، وكنت أحس من قبل ذلك أنني بتّ شبيهه فعلا، هنا انطلق لساني وصحت ثانية في الجموع: لو عاش الزعيم، فكلكم الزعيم، كلكم الزعيم، كلكم الزعيم.

***

يقولون هامش الحريات يتسع أو يضيق. يقولون كذلك: على هامش الأحداث أو على هامش المؤتمر، ونعرف مما سلف.

أيضا. يتبدى الهامش إذن في مساحات مختلفة، مرة يظهر كحيز معنوي، وأخرى كحدث لاحق على أصل، وفي الحالين فإن ما يجمعهما

كون الهامش تبدّيا لما يبقى بلا ديمومة.

 السيرة الأولى لأي هامش تقول إنه ظهر بشكلٍ عارض، قريبا من المتن (خذ هامش الكتاب دليلا) ولمّا استحسن الزخم المتنامي حول وجوده؛ تنوعت تبدياته، وازدادت أكثر فأكثر إغاراته على جسد المتن، ليكسب أرضا إضافية تُضمّ إلى جسده الهش الآخذ في التصلب والتنامي. لكن ككل معركة - مهما كانت خطتها المُحكمة - تظهر تفصيلات صغيرة، لم تؤخذ مسبقا في الحسبان، أو لم تمر بخاطر أحد، لتَقلب المعادلة على عقبيها: يتسع هامش الحريات بعدها أو يضيق أكثر، ما يحدث على هامش المؤتمر يمسي كارثة أو لا جدوى منه، المهم إن حالة التأقيت لا تفارق جسد الهامش، إنها صنوه، ورفيقة وجوده. كما أنها تقود الهامش لحالة غير طبيعته الأولى، إما بوعد التحول لمتن مغاير، أو بفداحة الهزيمة أمام المتن القارّ. صحيح كذلك أن المتن لا تنتفي عنه تماما ممارسات العرٙضية وألاعيبها، لكن المتن يبقى جسدًا صلبًا بتعريف وجوده، ومتى ما أصابته عوامل الانهيار والتحلل، فإن ذلك لا يكون فقط لعارض في ذاته، بل لأن جيوش التأقيت كانت منذ البداية رفيقة الهامش، تخطو معه يدًا بيد، وتزحف به على جسد المتن.

وإذا كان المتن هو صلب الواقع، والهامش نذره الكامنة فيه بجيوش اللاديمومة، فأين موضع الهامش فيه إذن؟ والسؤال ليس عن مكان متعين، قدر ما أنه عن مكمن فاعليته وتأثيره. ولئن كان الهامش في بادئ وجوده متعينا بوجود متنه باعتباره امتدادا لهذا المتن بترتيب جديد، فماذا لو قرر الهامش أن يختار لنفسه مكانا قصيًّا عن المتن؟! ماذا لو قرر أن يتنكر لتاريخ ولادته كعار يجب التخلص منه؟!

حين يندفع الهامش بطاقة سيولته محاولا تجاوز منابت وجوده، ومفارقة الواقع/ المتن بنفيه؛ حين يختار الهامش هامشًا لاستنبات ذاته، فإنه في الحقيقة يقتل بيديه قوة تأثيره؛ إذ تظل نجاعته وقفا على ذلك الحبل السري الذي يربطه بمتنه، فعلى أرض المتن يصبح الصراع حاضرا وممتلئا بواقعيته. الأكثر كارثية إنه كلما انزاح الهامش بعيدا، وازداد نأيًا كجزيرة منعزلة ومحجوبة، كلما استغرق في استعارات بديلة لواقع المتن الصلب ولواقع الصراع نفسه. وهذه الاستعارات لا تقدم شيئا، لأنها ليست إلا صوَرًا طوباوية في الذهن عما يجب أن يكون عليه المتن وطبيعة الصراع معه. لقد صار الهامش ذاته مجموعة من التهويمات والخيالات المنفصلة عن واقعها التي يتحول بها لوجود هش وغير مكتمل، وفي سبيل الحفاظ على وجوده الاستعاري فإنه ينكفئ على نفسه ويتمحور حول ذاته. ومن ثمّ فإنه - أمام أي تهديد قد يطال هشاشته - يصبح أكثر عنفًا، وحينها يرتد لصورة المتن الذي قام بالأساس لخلخلة دعائمه.

***

أثناء عبورهما شريط السكك الحديدية الذي يفصل الحدود النهائية للمدينة عن عتبة قريتهما النائية وباقي القرى المجاورة، قال أحدهما لصاحبه: هذا القطار الآتي من بعيد سيدهسنا لا مفر؛ فسرعته مقارنة بخطواتنا الضيقة تقول ذلك.
بعد أن عبر فوق جثتيهما، قال الآخر لصاحبه، مستعيدًا صوت هنري ميشو: ما دام على هذه الدرجة من السرعة، فسيصل قبلنا حتما.



*شاعر من مصر، وهذا الجزء الثاني من نص نشر في مطبوعة "الهامشيون" 2017، الصادرة من "معهد غوتة"، وهي دعوة لتبني الموقف الهامشي والانطلاق منه لتأمل الشأن المصري العام بعد 25 يناير في ممارسات نصية إبداعية، متنوعة بين البحثي والتخييلي والفلسفي والسيري، وهذا النص واحد من ستة نصوص إبداعية.