الباباي يطير عالياً

زهير كريم 25 ديسمبر 2018
قص
لوحة للفنان العراقي محمود صبري

 

1

 

 بعد صلاة المغرب مباشرة، دخل الشيخ (عبد المنعم) منزله، أقفل باب غرفته جيدا. ارتدى القميص الأسود والبذلة البيضاء، والحذاء الجلدي اللامع، ثم نظر إلى قيافته أمام المرآة. كان قلقه واضحا، لهذا وجّه خطابا محرضا لنفسه، اختار كلماته كما لو أنه يتحدث عن إحباط مكيدة تنسج من كائن جبان، رجل آخر في داخله يحاول منعه من الخروج:

 

: أنا مدرك تماما ما أقوم به، كل ما يجب أن يحدث هو أن أتماسك، أتماسك، وأن أكون مؤمنا بعبور هذا الحاجز، هي مرة واحدة، قفزة جريئة وحسب، ثم تسير الأمور بشكل رائع.

وبالطبع، كان لهذا القلق ما يبرره، فقد كانت المرة الأولى التي ينحاز فيها لرغبته، الرغبة التي ظلت مدفونة في خانة بعيدة، كنزه الذي كان يغطيه غبار الصراع بين حلم أبيه بأن يصبح ولده الوحيد إمام مسجد، وحلم أمه الذي غذّته بسرية في أن يصبح ابنها مغنيا. وما أضاف لارتباك عبد المنعم، هو أنه لم يرتد منذ سنوات طويلة هذا النوع من الملابس، لكنه وفي داخل نفسه قدّم مرافعة ناجحة للدفاع عن هيئته الجديدة التي وجدها على مقاس أحلامه.

ثم ارتدى الجبة التي كانت من قماش ثقيل فوق البذلة البيضاء، أقفل الأزرار جيدا كما لو أنه سدّ كل باب يمكن أن يتسلل منه الخوف، شعر بالتوازن، بل إن كيانه كله، استقر في منطقة الأمان. ثم وضع عمامته التي غطت شعر رأسه المدهون والمصفوف بعناية، فأحسّ كما لو أنه اختفى تماما عن نظر العالمين.

 وفي الحقيقة إن هذا الارتباك رافقه منذ أيام، بالضبط عندما حدد المتعهد موعد الحفلة  الغنائية الأولى التي سوف يحييها: يا صديقي، يمكننا أن نحيا بشكل جيد، بقليل من المغامرة يمكننا فعلها، نحتاج فقط إلى شيء من الرغبة، وأن نحاول القفز من فوق الأسوار. قال المتعهد، وكان على الشيخ عبد المنعم أن يخرج بسرعة من البيت، لكنه نظر في المرآة للمرة الأخيرة، خرج من غرفته لكنه فجأة وقف في منتصف الصالة، كانت أمه في المطبخ عندما نظر لصورة أبيه المثبتة أمامه بمسمار غليظ، غرسوه بقوة في الجدار ليتحمل ثقل إطارها الكبير. وكان المرحوم يتمتع بملامح قاسية، وغاضبة هذه المرة أكثر من أيّ وقت مضى، وأحسّ عبد المنعم بكل هذا، خيّل له أن أباه يسدد له نظرة غير مريحة، بل إن شوارب الأب تاجر الورق كانت ترتجف. ابتسم لهذه المزحة التي أنتجها خوفه من الذهاب بعيدا في خوض التجربة، قال لنفسه: الأموات لا يخيفون أحدا، لا تتحرك شواربهم بالطبع، ونظراتهم حتى لو كانت غاضبة لا تكلف شيئا، أو تسبب خسارات ملموسة، ما يخيف حقا، هم الأوغاد الذين يحفرون في كل مكان لفضح أسرار الآخرين، الأحياء من الطفيليين، أولئك الذين يتصرفون كما لو أنهم حراس القيم الرسمية، المكلفون من السماء لرفع التقارير إلى جهة لم تطلب منهم قط القيام بمثل هذه المهمة.

وعندما ودّع أمه، كانت نبرة صوته تهتز بالفعل، ثم تبددت الكلمات في الفراغ، إذ لم تستجب الأم لصوته، كانت منشغلة في المطبخ ولم تسمعه إطلاقا، أو لأن صوته كان خافتا، خرج هكذا بإشارة من الكائن الخائف الذي يقرفص في داخله. ثم فتح الباب كما لو أنه مطارد فعلا، وعليه الاختفاء في أي زاوية، بعيدا عن كل عين، أو الهروب من أيّ جملة من تلك التي تشكلها الكلمات الأخلاقية الجاهزة. وكانت أمه قد تابعته بالفعل من خلال النافذة، أشارت له، ربما قالت شيئا لكنه لم يسمعها، لقد كان منشغلا بحوار داخلي مليء بالصراع بين عقل رسمي شديد الالتزام، وبين طبع فوضويّ يتسم به المغامرون. ثم ظهر وهو يجلس خلف مقود سيارته، كما لو أنه ذاهب لقضاء أمر يتعلق بأمور شرعية، أو للتوسط من أجل حلّ مشكلة اجتماعية، أو ربما من أجل محاضرة فقهية في المسجد أو حتى عقد زواج، ثم انطلق بكل جدية على الطريق الفارغة تقريبا، إلى خارج الحيّ باتجاه الطريق السريع.

وعندما أوقف عبد المنعم السيارة بعد ساعة في المرآب، كان الموسيقيون قد وصلوا مبكرا. سكت المحرك خلف البناية الواسعة التي تقع بعيدا عن المنازل، وحلّ الصمت، نظر في كل الاتجاهات، وكانت الحقول مغمورة بالعتمة، وكان الممر الوحيد المؤدي للقاعة قد أضيء بشحوب مثير للشجن. التفت مرة أخرى إلى جميع الاتجاهات، فعل ذلك كما لو أنه يقوم بدور في فلم بوليسي، خلع الجبة، دسها في كيس كبير كان قد أحضره لهذا الغرض بالذات، شعر بالخفة ثم أطلق صوتا، شيء ما خرج من أعماقه، تيار من الهواء الساخن يرافق عادة الشعور بالراحة، كما يحدث للمرء عندما يتخلص من الأعباء الثقيلة، ثم وضع العمامة في نفس الكيس، وبالطريقة التي تحافظ فيها على وضعها لتكون جاهزة للوضع على الرأس مباشرة. ثم هبط من خلف المقود، مشى بهدوء توقف لفترة وجيزة، نظر إلى قيافته للمرة الأخيرة قبل الدخول إلى القاعة.

 

2

 

أول من استقبله على باب الصالة هو المتعهد، نظر إليه وكان باباي يرتدي بذلة بيضاء أنيقة. وفي الواقع لم يكن باستطاعة (الشيخ منعم) اختيار شيء كهذا بمفرده، ساعده صاحب محل يبيع أشياء مستوردة بماركات مشهورة، قال له: سوف أغني في حفلة عرس للمرة الأولى. ابتسم صاحب المحل وأكّد له، بأنه سوف يساعده ليظهره كما لو أنه واحد من نجوم هوليود. وكان المتعهد قد رشّح الباباي لرجل أحبّ أن تكون حفلة زفاف ابنه مميزة جدا: باباي!!!  قال والد العريس، ثم أضاف: لم أسمع به قط، ثم ... ألا يبدو اسما مضحكا؟ لكن المتعهد قال له: إن الباباي هو نوع من الطيور المغردة، وهو اسم مستعار، لكن الجميع سوف يسمعون صوتا فاخرا، ويشاهدون مطربا له حضور لا مثيل له، وسوف تصيب من يسمعه حالة من البهجة، الشيء الذي لا يحدث للناس إلا في تلك الأوقات التي يكونون فيها أمام عرض فنيّ لن يتكرر.

 لكن الجو كان صاخبا في القاعة، فوضويا يناسب حفلا شعبيا، ثم صعد باباي إلى المكان الذي يشبه الركح. الموسيقيون بدأوا بدوزنة آلاتهم، ومتعهد الحفل لم يكن في حال جيدة، ظهر عليه القلق، وعدم الثقة في أن المساء سوف ينتهي على خير.

وفي الحقيقة إن قرار الشيخ عبد المنعم بالغناء، لم يكن سهلا، بل هو شيء يشبه مسك العصا من المنتصف، وهذه بالطبع عملية مجهدة، مربكة وغير آمنة أيضا، لكنه وجد نفسه منقادا إلى هذه الورطة، واقفا على مسافة واحدة بين الرغبة والقانون، الحرية والتقليد، وبين الشعور بالخفة وصوت الفضيحة. وكانت البذلة البيضاء قد أضافت بالفعل (لباباي) تميزا وسطوعا فنيا، وكان قد ربط حول عنقه (البابيون) الأسود، وضع الساعة الذهبية، بينما شعره الأسود الفاحم كان مسرّحا إلى الوراء كما لو أنه كان طوال حياته على هذه الشاكلة. وفي النهاية ظهر كأنه بالفعل قد تعود على ارتداء هذا النوع من الملابس. لكن المتعهد لم يكن واثقا من خلال نظرته اللماحة أن باباي قد تخلص من جبة الشيخ عبد المنعم، والعمامة والخاتم الفيروزي، وبالفعل، كان باباي يسحب بين لحظة وأخرى، طرفي سترته كما لو أنه يعالج جبة، لكن الحفلة بدأت، وانطلق صوت (الباباي) كما لو أنه صوت أذان، هكذا وصل في البداية إلى أذن المتعهد.

 

 

 

 

 

3

وعلى غير العادة في مثل هذه المناسبات الشعبية، صمت الجمهور منذ اللحظات الأولى لانطلاق صوت المغني، ولم يكن هذا التصرف من النوع الذي يحدث استجابة لتقاليد الاستماع التي يفرضها الفن الراقي، بل هو شيء من الدهشة، أو بسبب الصدمة التي وضعت الجميع في تجربة ذوقية جديدة لا علاقة لها بما هو متعارف عليه في مثل هذا النوع من المناسبات. صمت المدعوون جميعهم كما لو أنهم اتفقوا ضمنا على أن الصوت الذي يصدر عن أحدهم، سيكون مثل خدش فظيع على صفحة العالم الصافية. وبالفعل، عندما بكى طفل، التفت الناس إلى مصدر الصوت، وكان واضحا على وجوههم عدم الارتياح، وضعت الأم كفها على فم طفلها، ولفترة وجيزة، اطمأنت أنه لن يكررها، رفعت يدها، وتوقف موزعو المشروبات عن أداء واجباتهم، فكانوا مثل تماثيل من الشمع تستقر على راحات أكفهم الصواني، حيث لمعت على معدنها الأضواء المنبعثة من الثريات الكبيرة، والعريس الشاب لم يعد ينظر إلى عينيّ عروسه، أمسك يدها وحسب، ثم نسى تمرير كلماته الهامسة إلى أذنها التي تحمل قرطا ذهبيا كبيرا، والعروس أيضا انشغلت بهذا السحر القادم من أعمق موضع في قلب المغني، حيث تركت خصلة من شعرها تنزلق على عينها، فلم تحاول رفعها، وحتى المرأة التي يسمونها الطاحونة، توقفت عن الأكل، اللقمة ما زالت في فمها ولم تستطع إكمال مضغها، فظهرت كما لو أنها نستها حقا هكذا مثل كرة صغيرة في الفم، وفيما بعد، أكّد الجميع أنها المرة الأولى التي يشاهدها فيها الناس منذ عشرين عاما أو أكثر، هذه المرأة من دون أن تكون أضراسها تطحن شيئا ما.

وكانت الصالة قد امتلأت منذ أول دقيقة من بدء الغناء الذي جذب الكثير من غير المدعوين، أو الفلاحين الذين لم يكن في نيتهم الحضور أصلا. والحقيقة أن لا شيء يثير الجمهور أكثر من تلك اللكمة المحترفة التي توجه إلى ذائقته، وبالفعل هي لكمة عظيمة، فقد كان صوت المغني مغايرا على النحو الذي يجعله قادرا على تغيير تقاليد أمة كاملة، حيث كانت طريقته في الغناء بعيدة جدا عن الابتذال، أو بتلك الكيفية التي يحاول فيها المغنون إثارة مشاعر الجسد بطريقة خرقاء ومليئة بالفوضى. إذن، تسللت نغمات الباباي إلى النفوس، تسري في الداخل مثل أنهار صغيرة، واستجابت لها الأجساد بالخشوع، نعم الخشوع، ذلك الشيء الذي نشعر به أمام هيمنة الفن. بالطبع كان اسم الباباي غريبا وفريدا، لكنه على كل حال، يناسب هذا التفرد في صوته. وفي الحقيقة إن هذا الاسم لم يكن بالنسبة له جديدا، أمه كانت تدعوه به، ولكنها مع مرور السنوات توقفت عن ذلك، هذا التوقف حصل بتوجيه صارم ورادع من الأبّ: لقد كبر على مثل هذه الأشياء المائعة، أصبح شابا، وسوف يدخل مدرسة المعارف الدينية، هل سمعت بإمام مسجد اسمه باباي. وفي الحقيقة، رغم لمعانه في الحفلة، كان الباباي خجولا، لكن هذه الطبيعة الظاهرة على وجهه، كانت سببا آخر لتوهجه، لقد كان يضيء بخجله قلوب البنات في حيّهم الشعبي، رغم أنه كان يمر، وهذه عادته، بهدوء على التفاصيل كما لو أنه ممتلئ بكل شيء. على كل حال لم يكن هذا الطبع سيئا، فلقد أضاف الكثير إلى الكاريزما التي يتمتع بها طوال فترة شبابه، في مدرسة المعارف الدينية، في المسجد، وكذلك في مشواره الفني فيما بعد. أما في تلك الليلة، فكان ساحرا فعلا، ولقد أسس لذائقة جديدة لم يتعود عليها مرتادو الأعراس، حتى مظهره كان غير سائد إطلاقا، لحيته الخفيفة التي لم يبالغ في تشذيبها، فظهرت محيّرة بين لحية تناسب الموضة الحالية، وبين لحية رجل دين. على كل حال، لم يكن بمقدوره حلاقتها ولا حلاقة شنبه الرقيق كذلك، هذان الشيئان في الواقع كانا مناسبين تماما لهذه الهيئة العجيبة، والتي اجتمعت فيها رزانة الشخصية، وخفة الروح التي يتمتع بها الفنانون العظماء.

 

 

4

 

وهكذا مرت حياة عبد المنعم أو باباي، حيث تناوبت شخصيتان متنافرتان على تدوين سيرته، المغني وإمام المسجد. وكان الارتباك قد تسلل لحياته، بعد أربعة أشهر من إنهائه مرحلة المدرسة التي تخرّج أئمة مساجد وخطباء، وكان قد نجح بتميّز حسده عليه زملاؤه. ثم عيّن بسرعة إماما لجامع صغير قريب من الحي، وحين مرت الشهور ببطء، تعود عبد المنعم على مواقيت العمل، وكان يحسب المسافة مشيا من البيت إلى الجامع بدقة، تعود كذاك على لقبة الجديد يا شيخ، يا شيخ، يا شيخ عبد المنعم، واستوعب فكرة التبجيل التي يقابل بها من الجميع بمن فيهم الأفاقون والنصابون والعاهرات واللصوص وتجار المخدرات، وتعود كذلك على النظرات غير المفهومة لبعض النساء عندما يقابلنه في الطريق. حسنا، كان عبد المنعم رغم مظهره الجاد، ونظراته المنطفئة، وسيما جدا بجسد متوازن، طويلا، أنيقا حتى في الجبة الداكنة اللون. وكان كل شيء يسير بإيقاع ممل، لكن في ليلة من منتصف آذار، استوقفته امرأة، سلمت عليه وقالت: لقد سمعت خطبتك الأخيرة بالصدفة، كم كان صوتك جميلا!! صمت للحظة، وكان ينظر في عينيها الشبقتين، شكرها بأدب كبير، واستعد لمواصلة طريقه بعدما حلّ بينهما صمت قصير، لكنها قبل أن يتحرك، ظهرت له كما لو إنها تريد قول شيء آخر، سبقت ذلك بابتسامة وجدها ساحرة، ومهيجة للأعصاب ومثيرة للعواطف: لو وظفت هذا الصوت في الغناء، لكنت نجما حقيقيا، قالت المرأة وكان هذا المدخل صادما، ومربكا، ثم أنه غير معتاد على هذه الجرأة في الحوار، خاصة أنه إمام مسجد. في النهاية لم يتمكن من الرد، كان يفكر فقط بأن الشيطان يمكن أن يتنكر بصورة امرأة مثيرة، ولقد شكرها على كل حال كما يشكر شيطانا اتقاء لشره، وذهب بخطوات مضطربة. لكن صوتها لاحقه كأنه العاصفة التي تهزّ الجذع فتسقط الأوراق وتخلخل الجذور: من فضلك، أتمنى أن أسمعك تغني، منزلي قريب من هنا، إلى جانب محل الحلويات..

وفي المساء، كانت كلمات المرأة قد استوطنت في داخله، عيناها تغلغلتا في وجدانه، وشفتاها صارتا جدولا يسيل بالإثارة ويغرق جسده. وطوال الفترة التي أعقبت دخوله المنزل، كان عضوه منتصبا، إنها لحظات عصيبة بالنسبة له، شعر فيها بأنه لا يستطيع السيطرة على ارتجاف بدنه، وفي الوقت ذاته، كانت الدعوة للغناء تهيمن عليه، قال: لماذا لا أجرب، في الحمام مثلا، أو هنا في هذه الصالة، ولكن ماذا ستقول أمي، فهي لم تعد تؤمن بالباباي، لقد كبرت وأنا تبدلت، دعني أذهب إلى الحقول، أو في الطريق الصحراوي، أغني وأرى جدية القول الذي خرج من حنجرة الشيطان.

لكن سؤال الشيطان والملاك رغم ذلك ظل يضغط عليه، لم يستطع أن يصنف المرأة التي قابلها في الطريق، قال: هي تعبير عن هذه الثنائية التي تشكل الوجود، الخير والشر، الجمال والقبح، الملاك والشيطان، وهذا ما يحدث في داخلي الآن، لقد حركت شيئا قديما، حفرت حقولي، بذرت كلماتها، وأشعر الآن أن كلماتها مثل السحاب، لم يبق لدي سوى أن انتظر المطر، ولا أحد يمكن القول عن المطر في كل حال إنه خير مطلق أو شر مطلق، إنه مطر وحسب.

 وفي الأيام التي أعقبت هذه الحادثة، كان (الشيخ عبد المنعم) حين يقيم الصلاة، ينشغل بصوته، ولقد أخطأ مرات عديدة في توالي فقرات الإقامة، ثم طلب من المؤذن أن يجرب بنفسه مكبرات الصوت الجديدة، كان واضحا، أنه يحاول اكتشاف حقيقة كنزه، وكان يؤذن كما لو أنه يريد أن يغني، وتمنى فعلا أن تخرج منه تلك الغصة التي تفور في وجدانه، الرغبة القديمة التي حركّتها دعوة تلك المرأة الشيطان كما سماها في لحظات العجز، والملاك في لحظات العاطفة المشتعلة.

وفي الحقيقة إن عبد المنعم احتفظ من بين أشياء قديمة في دولابه بأشرطة غناء لكبار المطربين الكلاسيكيين، في المساء بعد الصلاة مباشرة، كان يدخل غرفته، يضع سماعات أذن، ويشغل قرصا في جهاز تسجيل، ثم يقضي الليل حتى الفجر في سماع الأغاني، ثم يخرج للصلاة قبل أن يعود للبيت لينام.

 وفي الواقع كان الشاب حريصا جدا على الاستفادة من فرصة خلو البيت من أمه، فيجرب أثناء ذلك صوته، يسجل ويستمع، ويحاول التمرن على مواكبة الجمل الموسيقية بدقة، لكنه وهذا تطور حصل في ما بعد، اتخذ بتعلم الغناء. حدث ذلك بعد تعرفه صدفة على موسيقي كان يسكن الحي، قال له: أريد أن أغني، علمني كيف أحافظ على الإيقاع وصحة الأداء. ولقد قضى الشيخ عبد المنعم الشهر  الخامس والسادس والسابع على هذه الحالة، بعد صلاة الفجر، يستمع في البيت إلى الموسيقى، وبعد  صلاة الظهر يخرج من المسجد مباشرة فيقضي  الوقت عند الموسيقى، يصلي العصر ويبقى في المسجد للقاء بعض الناس حتى صلاة المغرب والعشاء، ثم يعود إلى البيت لينشغل بسماع الموسيقى وحفظ  الأغاني، وفي يوم ما  قال له الموسيقي: يا عبد المنعم، أنا أعرف متعهدا للحفلات، لماذا لا تجرب الغناء أمام الناس، صوتك ساحر، ومؤثر، وهو لا يقل أهمية عن أصوات كبار المغنين الذين يحتفظ لهم الناس بكامل الحب والتقدير. والحقيقة إن هذا العرض كان صادما، رغم أن صورة المطرب المشهور، لم تكن بعيدة عن أحلام عبد المنعم، أمه نفسها كانت تقول: لو غنيت يا باباي لكنت نجما كبيرا. لكن المشكلة هي كيف سيفصل بين الإمام والمغني، هل يتخلى عن الأمام لصالح المغني، أم يكتفي بهذا القدر لحركة المغني السرية ويواصل وظيفته كإمام مسجد.

وبعد شهرين من التفكير، وافق عبد المنعم على الغناء في الحفلات، كان ذلك بعد تسعة أشهر من تخرجه من مدرسة المعارف الدينية، حيث عاش حالة تشبه ازدواج الشخصية لمدة خمسة أشهر إضافية، وفي الشهر الرابع من السنة الثانية، أحيا حفلا في نقابة الأطباء، كان حفلا كبيرا في مدينة شمال البلاد. ليلتها غنى كما  لم يغن من قبل، لقد  حفر بإصرار داخل نفسه، وأخرج الكنوز من قاع عاطفته، وشرب الجمهور في تلك الليلة من صوته حتى سكروا، لكن شخصا كان من المستمعين، وكان مسحورا مثل غيره، نقل  خبر الحفلة  لآخر، الخبر انتقل إلى إدارة مدرسة المعارف بعد أيام، ثم إلى الوزارة المسؤولة عن توظيف أئمة المساجد، استدعي عبد المنعم للتحقيق، ثم استلم في نفس اللحظة قرار إقالته من وظيفة إمام مسجد، ثم تبعها قرار سحب شهادته واعتبارها باطلة، والسبب كما جاء في القرار، أنه أفسد قدسية الشهادة باللهو والغناء والفجور، لكن باباي، كان في ذلك اليوم قد تخلص نهائيا من عبد المنعم، شعر بالخفة وهو يخرج  من مدرسة المعارف الدينية بسروال وقميص أبيض، وحذاء أسود حديث، بينما شعره كان مسرحا إلى الخلف، ومدهونا بعناية، وساعته الذهبية تلمع  تحت الشمس.

 

 

 

 









*كاتب من العراق يقيم في بلجيكا