صديق جديد لا يشبه غيره

سير
عمل للفنانة المغربية فتيحة الزموري

 

لم أكن في حاجة إلى صديق جديد يضاف إلى ما تبقَّى من أصدقائي القدامى منهم والجُدُد، خاصة وأن حظوظي في ميزان الصداقة كانت رفيعة، تأكدت من ذلك عندما لاحظت أن أغلب أصدقائي أفضل مني خلقا وأكثر صبراً.. وقد استأنست عقوداً من الزمن بمرافقتهم ومعاشرتهم، حيث كنت أنعم بلحظات ألفة وأنس مع أصناف من البشر، بأمزجة وطباع وثقافات متنوعة..

يتضاعف عدد أصدقائي عندما أتذكر نوعية العلاقة التي جمعتني وما زالت تجمعني ببعض الشخصيات الروائية، لدرجة أصبحت لا أميز فيها بين أصدقائي في الواقع وأصدقائي في الفضاءات الروائية. فقد أتاح لي شغفي المتواصل بالرواية، أن أنسج علاقات ودٍ وصداقةٍ مع شخصيات وأحداثٍ وأمزجة.. وعشت منذ ستينيات القرن الماضي وإلى يومنا هذا، صحبة أفراد ووقائع تعلمت منها الكثير.

أذكر جيداً أنني رَبَطتُ صداقاتي الأولى مع شخصيات من روايات نجيب محفوظ. كنت انتشي في لحظات إقبالي النَّهِم على قراءة رواياته، بمتعٍ لا تعد ولا تحصى. وقد تعرفت ذات يوم، في غمرة انكبابي على أعماله، على أنيس بطل رواية ثرثرة فوق النيل، وصادقته في لحظات هروبه من ذاته، وأصبحت أحاوره في تقلبات مزاجه وأحواله. وما تزال بيني وبينه علاقة متواصلة، تجعلني أعود إلى معاينة بعض أطوار حياته دون انقطاع.

أضفت في زمن لاحق إلى أنيس وسعيد وصابر صداقات جديدة، صادفت أصحابها في أعمال روائية أخرى، يتعلق الأمر ببنجي وهو من الشخصيات المركزية في رواية الصخب والعنف لفولكنر. وقد مثلت حياته كما مثل سرده للأحداث في الرواية، بِنَفَسِهِ المتقَطِّع وجمله القصيرة، عناصر الجذب التي ساهمت في وصلِ خيوط المودة بيننا. كانت شخصيته في الرواية، تحضر لتشير بطريقة مركبة إلى حالة إنسانية غريبة، كان بنجامين الملقَّب ببنجي يسمع ولا ينطق، يسمع ويصرخ، ينسى الأحداث وسياقاتها، ويتذكر البعض منها دون سياق.. ارتبطت به كثيراً، رغم أن صراخه الحاد كان وما زال يخيفني.. إنه أشبه ما يكون بالمعتوه،  إلا أن فولكنر صنع لحضوره في الرواية كثيراً من السحر والفتنة، الأمر الذي عزز مكانته في وجداني. 

ترتب عن صداقتي بمن ذكرت من أصدقاء العوالم الروائية، ما مكَّنني من إدراك تعقد البشر وهشاشتهم، فاقتنعت بأن الحياة مخاطرة ومغامرة، وأتاحت لي الصداقات المذكورة، إدراك أن للحيوات المتخيَّلة ثقلاً يماثل إن لم يكن يفوق أحياناً، ثقل الأفراد في التاريخ. فقد تقاسمت مع من أشرت إليهم، ما يتقاسمه الأصدقاء بينهم من لحظات متعة أو لحظات غيض أو حزن.. أي ما يصنع نسيج الحياة وألوانها.. والأمر نفسه، ينطبق على أصدقائي الآخرين في المدرسة والجامعة ثم في المقهى والنادي، وفي مختلف دورات السنة وأطوار الحياة وتقلُّبات الزمن..

فكيف يمكنني أن أضيف اليوم صديقاً جديداً وقد ضاع مني العديد منهم، ممن غيَّبهم الزمن بكل رعونة وقسوة، ومنهم من أصابه عياء قاهر، فتقلصت بيننا مواعيد اللقاء والتواصل؟

لا أدري لماذا احتل صديقي الجديد، مكانة خاصة في سِجِلِّ صداقاتي العديدة والمتنوعة؟ وجدت نفسي بسرعة قريباً منه، أستمع إليه بعناية، وأحدثه كما لو أنني أحدث نفسي. وما شجعني على ذلك، أنه كان يبادلني بمثل ما أشعر به نحوه من مودة وصدق.. أعرف أن الصداقات تتأسَّس وتستقر، تحت تأثير عمليات التواصل والتآخي، التي يتكفل الزمن بنسج خيوطها ومنحها شكلاً محدداً، إلا أن النمط الذي اتخذته علاقتي بصديقي الجديد، لم تكن مماثلة للطابع العام لباقي الصداقات الفعلية والمتخيلة، التي عرفت في مختلف أطوار حياتي.. الأمر الذي دفعني مرة إلى سؤاله عن سبب تأخر صداقتنا، رغم أن السياقات التي تمهد لذلك، كانت متوفرة منذ عقود من الزمن. لماذا ظل مجرد آخر بجواري؟ لماذا لم يتحول من آخر يعرفني ويرافقني، إلى صديق يمنحني مزايا الصداقة ومآثرها، إلا بعد مرور كل هذه السنوات بكل ما رسمته من تحولات وآثار في الجسد وفي ثنايا العقل والوجدان؟

سَكَتَ ولم يجب، فتصورت أنني لم أكن بدوري قادراً على استدراجه إلى محفل الصداقة، فقد كانت صداقاتي العديدة في العمل تملأ حياتي، وتهبني المتع والمزايا التي أرغب فيها. ولا شك في أن حاجتي اليوم بالذات إلى صداقته، هي التي نقلت علاقتنا إلى دروب الصداقة بمختلف مكاسبها، حيث تتمتع علاقتنا اليوم بكثير من الحوار والتوافق.

كنا نختلف بحدة أحياناً، وخاصة عندما يكرر بعض العبارات من قَبِيل أننا نشبه بعضنا في المظهر والمخبر، وأن عمق إيماننا بقيم واحدة يعزز أواصر صداقتنا ويقويها.. إلا أنني كنت على خلاف  تام معه في هذا، فقد كنت أنتبه أحياناً إلى بعض أوجه الخلاف فيما بيننا. وكان يستوقفني في سلوكه ثقته الزائدة بمواقفه وتصوُّراته، وأحكامه في السياسة والفكر، كما كان يرد بانفعال أحياناً على بعض مواقفي في الموضوعات نفسها، الأمر الذي كان يؤجِّج الخلاف بيننا..   

أومن بأن البشر يصادقون من يماثلهم في الطباع، أو من يختلف عنهم كلية، الأول يكون صورة مرآوية منهم، والثاني يشكل النقيض الذي يبحثون عنه، وفي الحالتين معاً تتأسس عناصر نجاح الصداقات، حيث ينشأ عن التبادل الرمزي المؤسس للصداقة، ما يساعد على استمرارها وتطورها.

انتبهت في غمرة بهجتي بصديقي الجديد، إلى أن الصداقات التي تحصل في سنوات العمر المتأخرة، تضيف إلى مزايا الصداقة المعروفة جملة من المزايا الجديدة، التي لا توفرها صداقات مراحل العمر الأولى. وأن يصادق المرء نفسه في هذه المرحلة، فإن هذا الأمر يقربه في بعض الأوجه من التوازن الذي يبحث عنه..

احتل صديقي الجديد مكانة خاصة في حياتي، أصبح له حضور لم أعرفه في مختلف صوَّر صداقاتي القديمة. ولأنني لم أعد كما كنت في سنوات ما قبل صداقتنا، فقد انتبه مرة إلى وضعي الصحي العام، وسعى لتفهم ما حصل لي، معتبراً أنني أعْبُرُ اليوم مأزقاً حرجاً، وأنه بإمكاني التغلب على تبعاته وتجاوزه.. كنت أستمع إلى كلماته بمودة تكشف عنها ملامح وجهي، وقد رسمت حركة ابتسامة متفائلةٍ على شفتي، وكأنني أحاول بدوري الإقرار بسلامة أمانيه وأدوارها في التغلُّب على صوَّر معاناتي.

ولتلطيف الأجواء بيننا، كنت لا أتردد في مواجهته قائلاً أنك تصادق اليوم شخصاً لا علاقة له بالشخص الذي كنت تعرفه في شبابك، أن صديقك اليوم لا علاقة له بالشخص الذي كنت تعرف في الماضي، فهو اليوم أقل حركة من السابق، ويعاني من شلل واضح في أطرافه اليمنى، كما يعاني من صعوبات في المشي والكلام.. وعندما كنت أنطق أمامه بما ذكرت، كان يشعرني بأنه لا يرى ما أنا بصدد الحديث عنه.. وأحياناً كان يقول لي منفعلاً إنك تبالغ، ويبدأ في إبراز جوانب من قوتي، مشيراً إلى أن العلل التي أصابتني تعد أمراً طبيعياً في سن معينة، ولا يجب أن نُوليها اهتماماً لا تستحقه، ثم يضيف قائلاً بلغة جازمة، إن المزايا الجسمية والنفسية التي ما زلت تتمتع بها، تفوق المظاهر المعتلة التي أشرت إليها..

يمتلك صديقي الجديد مفردات اللغة البلسم، يمزجها بخياله ويمنحها أجنحةً ملونة، ليطالبني في النهاية بمواصلة الحرص على القراءة والكتابة والسفر، يعرف مقدار تعلقي بالشعر، كما يعرف مقادير ذهولي أمام الحب والموت، فلا يتوقف عن الكلام، وعندما يودعني دون أن يغيب عني، يضع أمامي ديواناً جديداً قصيدة أو رواية، ويطلب مني الانخراط في اكتشاف عوالمها وشخصياتها، من أجل تحفيزي على مواصلة سفري على أجنحة الكلمات..