خلفَ الأبواب

إسكندر نعمة 29 أبريل 2018
قص
لوحة للفنان فريد بلكاهية
ثلاثةُ بيوتٍ فقط، كانت تفصلُ بيتَنا عن البيت الذي يسكنُه جارُنا صفوان. في حقيقة الأَمرِ، لم نكن نملكُ بيوتاً بكلّ معنى الكلمة. إنّها مجرَّدُ أكواخٍ معدنيّةٍ وبقايا أبنيةٍ حائلةٍ للسّقوط، تهتزُّ وتتراقصُ مع نسَمات الرّياح حتّى الخفيفةِ منها. النّورُ يملأُ جوانبَها ويُضيء كلَّ زاويةٍ فيها، لأَنّ نوافذَها العريضةَ تخلو من السّتائر وما يحجبُها عن الأعين. لا شيء يملأُ فراغَها إلاّ مجموعات من السّكّانِ اللّائذين بالصّمتِ غالباً، وبعضُ المفروشاتِ التّافهةِ. وعندما يتفرَّق الجميعُ مع انطلاقة الصّباحِ، تغدو البيوتُ فريسةً للرّياح والشّمس والغبار ورذاذ المطر وأوراق الأشجار الجافّةِ المتساقطة.

"صباحُ الخيرِ" و"مساءُ الخيرِ". هما الكلماتُ القليلةُ اليوميّة التي تربط جيرانَ الحيِّ بعضهم بالآخر. لا حدائقَ ولا مروجَ ولا نباتاتٍ تُزيّن البيوتَ والمساحات القليلةَ الفاصلةَ بين الأكواخ المهتزَّةِ والأبواب الخشبيّة المُشقَّقة. أحدٌ منّا لم يخطر له أن يجتمع إلى جيرانه للنِّقاشِ أو التَّداول في شؤون الطّقسِ أو الزّراعةِ أو الحياةِ الاجتماعيّة والأنشطةِ اليوميّة.

الأكواخُ الثّلاثةُ التي تفصلُنا عن بيت جارِنا صفوان، هي في الحقيقة بيوتٌ فارغةٌ تضجُّ بأبوابِها المُهترئةِ والمخلَّعة المُنزلقة، تتلاعبُ بها الرّياحُ على مساحاتٍ مكشوفةٍ عاريةٍ من كلِّ شيء. 

ترى.. مَنْ كان يسكنُ في هذه البيوتِ قبلَ مجيئنا. أو مَنْ سوف يأتي ليسْكنَ فيها؟ كان ذلك هو التّساؤُلُ اليوميُّ الّذي يدورُ بيني وبين صفوان جارِنا. كان ذلك الحديثُ يتكرَّرُ بهمْسٍ مُغلَّفٍ بنوعٍ من الخشيَةِ البلهاء، أو المحاولةِ البليدةِ للخروج عن الصّمت السّاذَج الخُرافيِّ الّذي يحكُمُ حياتنا اليوميّة، وما عدا ذلك، فإنّني كنتُ أقضي فراغَ يومي وسهرَتي، أُفكِّرُ في والديَّ اللّذيْن رحَلا منذُ سنواتٍ قليلة عن دنيانا البائسة هذه، أو تسوقُني الذّكرياتُ المرّةُ، لِأقفَ مع جارتنا الصّبيّة الجميلة الرّقيقة هيفاء، التي قضَت وهي في العشرين من عمرها جرّاءَ ورمٍ خبيثٍ. 

الحيُّ مُكتظٌّ بأناسٍ كالأشباح. يتواروْنَ كلَّ مساءٍ خلفَ أبوابٍ مهترِئَةٍ تصرُّ بأَلمٍ صارخ. لم أكن أدري أبداً إلى أين يذهبُ، أو من أين يأتي كلُّ واحدٍ من سكّان حيِّنا المُغبرِّ دوماً. كلُّ ما أَعرفُهُ أنّ البيت الثّاني من الجهةِ المُقابلةِ لِبيتنا، تَشْغَلُهُ امرأَةٌ نَصَفٌ، جميلةُ القسَماتِ، جذّابةُ الابتسامةِ، وكانت ترتدي في كلِّ يومٍ ثوباً ورديّاً فضفاضاً، يتلاعبُ فيه الهواءُ، وتحملُ في يدها سطلاً من الألمنيوم ذا طبقاتٍ، تضعُ فيه طعامَ الغداء، وتسيرُ مُسرِعةً. إلى أين؟!.. لسْتُ أدري. لكنّها كانَت بخلافِ كلِّ نساءِ الحيِّ، ترمي إليَّ في كلِّ صباحٍ ابتساماتٍ رائعةً دافِئَةً، أَتحسَّسُ منها نكهةَ الأَصالة غير المزيَّفةِ. كانت ابتساماتُها تلك، تُدْفِئُ يومي وتُشْعِرُني بحالة من الكياسة والمودّة وتُعوِّضُ لي ما كان ينقصُ من حياتي المُتْرَعة بالشّقاءِ والجفاف.

في البيت الّذي يليها مُباشرةً، كان يسكنُ شيخٌ تُنبِئُ ملامحُه بأَنّه فظٌّ خشِنُ الطِّباعِ، يرتدي جِلْباباً داكنَ اللّون وعمامةً تكادُ تكون متّسِخةً دوماً، ينطلِقُ من بيته وهو يُردِّدُ أصواتاً حادَّةً غيرَ مفهومةٍ، وأصابعُه تعبثُ في مِنْخريْهِ ولحيتِه الكثَّةِ.   

في الصّباحِ من كلّ يوم، ينطلِقُ أكثرُ سكّان الحيِّ المُرتجفِ تحت قبضة الرّياح، تاركين أبوابَهمُ المهترئةَ لِتنزلقَ كما يحلو لها. ينطلقُ الجميعُ في طرُقاتٍ مختلِفةٍ. لا أحدَ يعرفُ أين يذهب الآخرُ. لا أحدَ يذهبُ في نفس الطّريق التي يسيرُ فيها الآخرُ. الجميعُ يسيرون بادِئَ الأمر في طريق ترابيّة واحدة، ولكن سرعان ما يبدأُ الأُفُقُ والفضاءُ بالتَّوسُّعِ بين الأجسادِ الصّامتةِ الزّاحفةِ، وتتباعدُ الطُّرقاتُ وتختفي الخطواتُ. لعلّي كنتُ الوحيدَ بين أَهالي الحيِّ أَملكُ عملاً أفضلَ من عمل الآخرين، إلاّ أنّه كان يقتضي منّي أن أسيرَ زمناً طويلاً حتّى أصِل إلى حيثُ أعمل. لستُ أدري ما هي المسافةُ الّتي يجب عليَّ أن أقطعَها، فالطّريقُ مُتعرِّجٌ ملتوٍ ومليء بالمنعطفات. في كلّ مرّة أَشعرُ بأنّ قدميَّ قد تآكلَتا. أخي الّذي يصغرني سنّاً، كان يتحمَّلُ معي المشاقَّ ذاتها، فهو يعملُ معي في نفس المكان، في معملٍ لِصناعة الصّابون. معملٌ متخلِّفٌ، ما يزالُ يعتمدُ على الصِّناعة اليدويّة وعناصر الطّبيعة في الخلط والتّجفيف. كان أخي يُنجِزُ معي عملاً يوميّاً طويلاً، ينطوي على الكثير من المشقّة والتّخلُّفِ في التَّصنيع والإنتاج.  كثيرأً ما كنتُ أتوقُ لأن أُغيِّرَ مهنتي، أن أجِد عملاً آخرَ. كنتُ أتمنّى بِلهفةٍ جادَّةٍ أن أكون عاملاً في مطبعةٍ أو سبّاكاً أو حدّاداً أو عاملَ بناءٍ. لكنّ ذلك ظلَّ في حدود الأحلامِ الخُلَّبيّة.  جميلٌ جدّاً أن يعملَ الإنسانُ عملاً يحبُّه أو يقنعُ به. البطالةُ أسوأُ ما في الحياة. صفوانُ جارُنا الّذي يفصلُنا عنه ثلاثةُ بيوتٍ مُهترِئةٍ، كان يحسدُني على مهنتي المُتخلِّفة، لأنّه كان يعملُ يوماً ويُعطِّلُ أيّاماً يلوبُ خلالَها باحثاً عن عمل. لسْتُ أدري ولسْتُ أملكُ أيّةَ فكرةٍ هل كنتُ موضِعَ حسَدٍ من صفوان فقط أم من جميع أهل الحيّ الّذي يسودُه الصّمتُ ويُجلِّلُه الغبارُ. قد يكون ذلك، ولكنَّني أعتقِدُ جادّاً أنّ صفوان وأنا وجميعَ سكّان الحيِّ القابعين خلفَ الأبواب المُتراقصةِ المنزلِقة، عليْنا أن نعيشَ حالةً من التّحدّي الكامن في النّفوسِ لهذا النّمط من الحياة. كلُّ فردٍ كان يعيشُ حالة مواجهةٍ يوميّة مع بؤسِه وشقائه، ومع رسم مخطَّطاتٍ ساذجةٍ قاصرةٍ لِكيْفيّة مواجهة غده المُطلِّ عليه بعد منتصف اللّيل. تُنعِشُنا الأحلامُ ويبقى الجوابُ قاصراً وفرديّاً. يسْأَلُني أخي: "ما بكَ، أراكَ صامتاً شارِداً؟!". لا أُجيبُ، لأنّني أسْتجرُّ في ذاكرتي المُتْعبَةِ أخبارَ أُولئِكَ الّذين يملكون المليارات والقصورَ المُزيَّنةَ بالحدائق والرّفاهية.  يقولُ أخي: "أنا أعرِفُ بماذا تُفكِّرُ". يبتسِمُ ابتسامةً عريضةً ويُتابعُ قائلاً: "أبوكَ وجدُّكَ كانا مثلَنا، فلا تُتْعب ذهنَك". تُزيدُ جملتُه الأخيرةُ من حالة جلدِ الأعصاب المتحكِّمة بي. أتساءَلُ بمرارة: "ترى.. هل يُفكِّرُ الجميعُ في حيِّنا التُّرابيِّ كما أُفكِّرُ. هل يفكِّرون بتغيير هذه الحالة إلى حالةٍ أفضلَ؟".

عندما يصمتُ أخي عن ثرثرتِه القليلةِ، أُغْمِضُ عينيَّ، فترتسِمُ في مخيِّلتي أجواءُ الابتساماتِ الجذّابةِ المُنعشةِ التي تمنحُني إيّاها كلَّ صباحٍ جارتُنا الجميلة بثوبها المُزركشِ الفضفاض، وحركاتِها الرّشيقة. يحلو لي أن أتخيَّل أنّ هذه الابتسامات الدّافِئَةَ، ما هي إلا ضربٌ من تحدِّي الواقع المرِّ الّذي نحياهُ. أغوصُ في عمق الصّمتِ أكثرَ، وأسترسلُ في حياكة خارطةٍ لمستقبلٍ أفضلَ. يجلدُني سؤالٌ صعبٌ ينتصِبُ في خبيئَتي كلَّ ليلةٍ: "هل أستطيعُ بمفردي أن أُغيِّرَ الواقعَ المرَّ؟؟!!". يأتيني الجوابُ مُسْتهزِئاً. ينتشِلُني من تداعياتي صوتُ غطيطِ أخي المُنشَلِحِ إلى جانبي في الغرفة، أعودُ إلى صحْوي وأتذكَّرُ أنّني مَدعوٌّ إلى الاستيقاظِ المبكِّرِ كي ألتحقَ بالمِصبنةِ. أتحاملُ على نفسي، وأرمي جسدي في زاوية أخرى من الغرفةِ العاريةِ الضّيّقةِ. 

تُخربشُ الأحلامُ المُنكسِرةُ في عمق أعصابي، وتغزو فراشيَ الشّائك. إنّها مزيجٌ من أحلام اليقظة وأحلام النّائمين. أراها من بعيدٍ، تقتربُ نحوي ثمّ تبتعد. تقتربُ حتّى تكادُ تدنو منّي. ابتسامتُها المعهودةُ ذاتُها، حركاتُها الرّشيقةُ عينُها، وثوبُها الورديُّ الفضفاض. أمدُّ إليْها يديَّ لأُلامسَ كفّيْها، ولكنّها تختفي فجأةً. تتناوبُني مشاعرُ الخيبة والألم، ما الّذي حصل؟! أين اختفت؟! طرَقاتٌ خفيفةٌ تقرعُ البابَ. الطّرَقاتُ تعنُفُ والبابُ الخشبيُّ العتيقُ يصرُّ ويئِنُّ تحت وطأة الطَّرَقاتِ. هبَبْتُ من رُقادي وقفزْتُ نحو الباب لأسْتطلِعَ الأمرَ. كانت مشاهدَ غيرَ مألوفة.  خِلتُ نفسي في حيٍّ آخرَ. لم يبقَ أحدٌ في الحيِّ قابعاً خلفَ الأبواب. كان جارُنا صفوانُ وأهلُ الحيِّ جميعاً يقفون في دوائرَ حول باب بيتِنا المُنزلقِ، وامرأَةٌ جميلةٌ بابتسامتَها الجذّابة تُلوِّحُ بيديْها. شُدِهْتُ للمشهد الجميل، وقفتُ مُتحجِّراً، تجمَّدَت حدقتايَ ووضعْتُ كفّي على رأسي. تساءَلْتُ في داخلي: "أمكافأَةٌ لي أم عقوبة؟ أصحيحٌ ما أرى أم هم مجرّد أشباح؟!". لم يكن هناك فرصةٌ للحوار أو المناقشةِ.  لوَّح الجميعُ بأيديهم، واستداروا وساروا في طريقٍ واحدةٍ.

كان انبلاجُ الفجرِ يشقُّ إِهابَ الظّلامِ ويُعْلنُ نهايةَ اللّيل، وأنّ نهارأً آخرَ مُتْرَعاً بالمتاعبِ سوف يبدأُ من جديد. فركْتُ عينيَّ بشدَّة، تجوَّلَت نظَراتي في كلّ الاتّجاهات وهزَزْتُ برأسي. كان أخي جاثماً قربَ فراشي، يُهدهدُ كتفيَّ وهو يبتسمُ، ويُناديني بصوتِه الهادئِ: "أخي .. قم لقد تأخَّرنا"..