جسد الفراشة

يوميات
لوحة للفنان الياباني كازو شيراغا

"لابدّ أنّي مرهقة! فهذا غير منطقيّ!".

أقترب من الجسر اقتراباً حذراً، أمدّ بصري؛ فسوره واطئ؛ لأتأكّد! إنّه يطلّ على زرقة غير مألوفة هنا! أُذْهَلُ بشدّة. أقفز على الأرضيّة مرّات عدّة فيصدر عن معدنها صوت مزعج أرى صداه في ارتعاش البحر.

"نعم، أنا واهمة! من سيجيء بهذا هنا؟ وكيف يصير للصّحراء هذا الامتداد المائيّ كلّه بيوم واحد وعادتها الضّنك!".

أتراجع بخطوات خوف مبتعدة عن طريقهم؛ تقترب أناشيدهم بخشونة من المكان. إنّهم مجموعة من الصّيادين! أشمّ رائحة كريهة تنبعث من حقائبهم؛ لعلّها طعوم الأسماك. أحاول ألّا أبدي اهتماماً جلياً بما يفعلون، لكنّ أحداً منهم لم يهتمّ بحضوري معهم على الجسر نفسه! وضعوا حقائبهم أرضاً؛ إحداها لأدوات الصّيد، والأخرى حصّالة لما يُصاد. خلعوا الصّنارات عن أكتافهم، مسحوا خيطها بأصابعهم المدبّبة، وركّبوا الخطّافات في رؤوسها: إنّها جاهزة الآن. أعطوا البحر ظهورهم، وراحوا يلقون صناراتهم في الهواء!

"منظرهم ملفت بوفرة، لكن لم ينشغل أحد بهم من المارة سواي!".

بدأت حقيبة تفرغ لصالح أخرى تزدحم. فزعت من كثرة ما اصطادوا من فراشات!

"أجل. إنّها فراشات!".

أخذني فزع مقيت حين أدركت أنّهم لا يصطادون السّمك بل الفراشات! لم يكن ثمّة فراشات تحوم قرب البحر. لكنّ حقائبهم تعجّ بها!

بقيت أراقبهم مدّة نهار أو أدنى ولم يفعلوا خلال ذلك شيئاً سوى ما قلته. شددت على روحي كما لو أنّي أشدّ سهماً؛ أطلقت تنهيدة وفكرة: "سأسرق حصّالة الفراشات!".

أوشكت على ارتكاب ذلك حين انحسرت الشّمس. اقتربت على رؤوس أصابعي، لكنّ الجسر المعدنيّ لم يكن متواطئاً معي؛ فضح تلصّصي! أمّا العجب فأنّهم لم يأبهوا لمحاولتي الشّنيعة؛ كأنّهم أعجاز نخل خاوية!

وقفت لحظة أمام الحقيبتين بسؤال باهت: "أيّهما أسرق!؟".

كنت بوارد إنقاذ الفراشات، لكن حين رأيت الطّعوم أغراني منظرها. شهوة الصّيد معدية! التقطت إحداهما ورحت أركض كما لو أنّني خيلٌ مسّها شرّ!

وصلت إلى البيت متقطّعة الأنفاس؛ إذ بدا لي أنّي قطعت مسافة الأبد حتّى وصلت. أحكمت إغلاق الباب خشية أن يطاردني أحدٌ منهم. وأوصدت النّافذة كي لا تطير الفراشات!

هالني ما وجدت: الحقيبة فارغة تماماً!

آنذاك شعرت بوخز مزعج في ظهري راح يتضاعف ألمه. خلعت قميصي وأدرت ظهري للمرآة كما أدار الصّيادون ظهورهم للبحر؛ لأتحرّى موضع الألم. لقد كان جسدي ينزّ فراشات... وثمّة أثر لخطّافات هنا وهناك!