اليد الثالثة: في مواجع الدماغ المُسليّة
3 - يساهم الترويض بمختلف صور العجز المصاحبة له وبحكم طبيعته الميكانيكية، في منح العضو الساقط والمعطل إمكانية استدراك بعض وظائفه بالتدريج، ويكون التدرج بالأفعال الآلية البسيطة خطوة أولى نحو العودة إلى الأفعال الجامعة والمركبة، من قبيل الفتح والإمساك والمد إلى الأعلى والأسفل، وهي الأفعال المانحة لحال التوازن المفتقد. لقد كانت المشكلة منذ البداية مشكلة عضوية، ثم اتخذت أبعاداً نفسيةً، ثم سمح الزمن والرضى بالمآل بجعلها كما كانت مجرد مشكلة فيزيولوجية، تتطلب مواصلة التدريب على العمل بواسطة اليد دون الانتباه إلى حالها الجديد، من أجل استعادة بعض قدراتها مع ما يتطلبه ذلك من معاناة وآلام، أثناء فترة الترويض وبعدها.
لا تعد مسألة استعادة بعض قدرات اليد أمراً سهلاً ولا متيسراً، والمجاهدات في سبيل بلوغه تقضي بضرورة الجَلَد والمكابدة، والتطلُّع إلى زمن قادم، يمكن أن يشبه زمنا مضى، فهل يستطيع الزمن القادم فعلا أن يمتلك مواصفات الزمن الذي مضى؟ وهل تستعيد اليد يدها، وترفع الثالثة المختلطة اليوم بالثانية، لتعود الثانية ثانية وكفى؟
بعد مرور ما يقرب من سنة على حصول ما حصل، أي على فقدان وظائف اليمنى، وعدم قدرة اليد الثالثة على تحقيق بعض ما كانت تقوم به اليمنى، أصبح بإمكاني أن أدرك وأتعايش مع أشكال من المعاناة التي تواصلت في الليل كما في النهار، في اليقظة وفي النوم، في حالات الصحبة وأثناء الخلوة.
تقضي نصائح الأطباء والمروِّضين، بأن لا أتخلى عن تكليف اليمنى بأعمال خاصة وتدريبها على ذلك. لكن الأحاسيس المصاحبة لعمليات الترويض، والعياء الكبير الذي يحصل بعد التمارين، يكلف جهوداً عضوية مصحوبة بهواجس نفسية غريبة. الأمر الذي يجعل فعل المجاهدة طقساً يومياً بجزاءات هزيلة، هذا إذا لم نقل بدون نتائج تذكر.. ومع ذلك فإن الحالة تقضي بعدم التوقف عن تمارين الترويض. فتصبح حالة قصور اليد اليمنى الجديدة في قلب الليل أصعب من النهار، إنها تلتصق في النهار بالجسد، ويصعب إبعادها عنه، وهي تتجه نحو الأعلى، نحو الصدر.. ويصعب إنزالها منه نحو مكانها المناسب، بهدف تحقيق التوازن.. فكلما التصقت بالجسد غاب التوازن. وهي تلتصق في الليل أيضاً بالجسد، فتصبح ثقيلة خفيفة، ثقيلة يصعب إبعادها ، خفيفة تحمل على الجسد. وبعد أشهر عديدة من الترويض، تبدأ في الانفصال وفي القيام بأعمال بسيطة، يبدأ تحقيق مطلب الإبعاد بالقرب، والقرب بالإبعاد ممكناً، فَيَرْكَب المعني بالأمر ومن معه من المقربين، الأهل والأصدقاء مراكب الفرج والأمل، وتحل
الابتسامة محل التعجب..
***
في نهاية صباح قادم، عادت اليد اليمنى كما كانت.. ومددتها نحو الآخرين مُحَيِّياً، أكلت بها تفاحة ولامست عطراً وفراشة بألوان البهاء والضياء..، كتبت بأصابعها صفحات، كما رسمت الطيور والأسماك ورذاذ الموج في الشاطئ، وأحصيت الرمال، ثم رسمت حرف النون والميم والتاء دون إغفال وضع علاقة التشديد على الحرف الأول والثالث، لرسم ما يوحي بالأشكال التي تمنح الأحرف معاني ودلالاتٍ..
كانت اليد اليمنى قد نامت ذات يوم نوماً عميقاً طال أشهراً بل سنوات، وأصبحتُ عاجزاً دون إقرار بالعجز، متطلعاً إلى حال أخرى أَحِنُّ إليها، أتملَّكها بالرغبات وأحققها عُنْوَةً.. عادت اليد دون أن أدري أين كانت؟ وأين اختفت؟ فكتبت مرة أخرى بأصابعي أجمل الحروف والكلمات، وتبينت أن الحكاية لم تكن أكثر من حلم، من أضغاث أحلام مرت مرور السحاب، عادت اليد وامتلكت توازني مجدداً وأصبحت أطير، كما كنت أتمنى أن أطير باليدين، طيران المتماسك الثابث الذي يمشي على قدمين.. كائن يمشي على قدمين حيناً، ويطير باليدين حيناً آخر..
أصبحت اليد الثالثة مجرد ذكرى، فعادت الحياة إلى سابق عهدها، وابتسمت أمام الموقف الجديد، كما ابتسمت سابقاً بفعل التعجب أمام الحدث القديم. أصبحت اليوم أمتلك ما ضاع مني بجرة قلم، وما زلت أذكر أن ما ضاع مني لم يكن أكثر من سقوط القلم من بين أصابع يدي، في ذلك الصباح من خريف سنة مضت.
في خريف سنة أخرى، عادت الحياة إلى سابق عهدها، فعدت إلى يدي اليمنى، وأغفلت ما دَرَّبْت الْيَدَ اليسرى على القيام به، وأصبحت في النهاية أمتلك لأول مرة يدين، يد يمنى ويد يسرى، وأذكر جيداً أنني منذ أن تعرفت على نفسي كنت بيدين، وها أنتم ترون الدليل على ذلك..