من يحقق أمنية الشيخ السعودي؟

قبل أن تتهور وتجيب بـ نعم أو لا، سأؤكد لك حقيقة قطعية. أنت لم تحقق أي شيء، وكل ما تظن أنه تحقق مِنْ خير لك، ليس أكثر من وهم تراه حقيقة، وهو سراب عظيم. انظر إليَّ يا عزيزي، وأرجوك ألا تظن أنني أقصد إهانتك وتحطيمك، أستغفر الله، أنا لا أقصد ذلك، أنا فقط أساهم في توصيف الحالة.
لكن، لماذا أقول هذا الكلام؟ هل الموضوع مجرد فذلكة ليس لها مستند فلسفي منهجي عميق، الهدفُ منه النيل من المزاج اللطيف والمعتدل للشعب، وتحويل اللحظة الرومانسية المكتظة بشعور الإنجاز إلى نكد وفشل وجلد للذات، هل أنا أحاول صنع نكد عابر للبرزخ، وأطاردكم بنَفَس تدميري بينما الحياة غير ذلك؟
صدقوني أنا لا أطلق هذا الكلام دون مستند فلسفي عميق، وليس لي أهداف سيئة كما تظنون.
عندما أسألك هل حققت أمانيك، أقصد هنا الأمنية المثالية التي حلمت بها في حياتك، كأن يصير عندك مصباح علاء الدين مثلاً، وتطلب من المارد ما تريد، أو تحصل مصادفة على البساط السحري وأنت تساعد جدتك في تعزيل غرفتها، وهي تخرج أنواعاً غريبة من الكراكيب والثياب القديمة والخرق البالية. ألم تظن مرة أن البساط الذي تطويه جدتُك تحت الطراريح هو البساط الطائر؟ ألم يتسرب ريب إلى نفسك أنها تحتاط لإخفائه ولا تريد أن يراه أحد؟ ألم يكن الخاتم ذو الفص الفيروزي الذي في يد جدتك مثار تساؤلات بالنسبة لك؟ هل من المعقول أن يكون هذا الخاتم هو خاتم علاء الدين؟! وعندما كبرت يا سيدي ألم تكن لديك أمنية أن تتزوج امرأة ثرية بل ثرية جداً جداً، وهي وأهلوها يصرّون على الزواج لأنك شاب وسيم وذكي وقوي ومفتول العضلات؟ ألم تكن إحدى أمانيك أن تجلس بجانب زوجتك الثرية الجميلة تحت عريشة العنب ويأتي عنقود العنب وحده وتأكلان سوياً، ثم يأتي الخادم العملاق يجر عربة فيها أنواع مختلفة من أطايب الطعام وعليها خروف مشوي وطائر ضخم ربما يكون بطاً أو إوزاً أو ديكاً رومياً مقلياً بالزيت وعليه قليل من المكسرات؟ لأنك تحب الذهاب إلى اللحم مباشرة، ولا تركن إلى هذه الخدع البصرية التي يسمونها مكسرات لتجميل الطعام، وهناك في طرف قصي من المائدة ثمة صحن كبير فيه رمانٌ مفروط، وهذه الزوجة الجميلة تطعمك الرمان حبة حبة.. اقترب مني قليلاً: أقسم إنك حلمت بهذا؛ أليس كذلك؟ ولم يتحقق.. إذاً أنا معي حق.. أنت لم تحقق أمانيك.. لم تحقق أمانيك يا سيدي المواطن مع حفظ الألقاب طبعاً.
عزيزي المواطن أنت تفهم موضوع تحقيق الأماني فهماً مغلوطاً، الحكومة ضحكت عليك منذ كنت في المرحلة الابتدائية، وربتك بهذه الطريقة التي يظهر فيها عقلُك ضيقاً لا يدرك الأمور العميقة.. أنت تظن أن جلوسك في المقعد بجانب المدفأة في المرحلة الابتدائية هو تحقيق لأمنية الدفء، وتظن أن خروجك من امتحانات الثانوية العامة ودخولك إلى الجامعة كمن يهرب من قراصنة التوجيه والتعليم هو أمنية تحقيق الذات! وتظن أن وقوفك على الفرن لساعة واحدة فقط ثم حصولك على الخبز وخروجك من وسط الزحام دون تمزق البنطلون والقميص هو تحقيق لأمنية الرزق! وتظن أن نجاتك من ضابط الجيش الذي لم يمرغ كرامة أهلك وعشيرتك
الأقربين في الجاموقة لأنك تدفع له كل شهر خمسة آلاف ليرة هو تحقق لأمنية الخلاص! وتظن أن زواجك من ابنة عمك التي تشبهك وكأنكما توأمين سياميين بعد أن وافق عمك على ربع المهر ووافق أبو حسام على تقسيط غرفة النوم لفترة طويلة، ووافقت أمك على إعطائك غرفة في البيت المكون من غرفتين، أتظن أن حصول هذا هو تجسيد لأمنية الحب؟! أنت تظن أن انتهاء مسيرة حياتك دون اعتقال أو أمراض السكر والضغط والجلطات والشلل والجوع والعري هو تحقيق لأمنية الستر وحسن الختام!
هذه ليست أماني.. الأمنية يا عزيزي تحقيقُ الخارق للعادة، وأنت لم يحدث معك ذلك، أنا متأكد من هذا.
أما أنا فمختلف عنكم جميعاً؛ فقد حققت أمنيتي التي كنت أحلم بها، ولا أعتقد أن بشراً على ظهر هذه البسيطة استطاع تحقيق أمنيته في هذا العصر، كما حدث معي. لقد كانت لدي أمنية واحد فقط، هي أن أعيش دون عمل، ويأتيني رزقي مهما كان بسيطاً دون أن أبذل أي جهد، ولم يكن لدي حلم مركب داخل هذا الحلم، فلم أحلم بـ "فيللا" فارهة أو سيارة حديثة، أو بامرأة خارقة الجمال تركب معي في طائرتي الخاصة، لم يكن هذا همي على الإطلاق، أرجوكم صدقوني! حلمت بكل بساطة أن أعيش في مكان فيه "طرّاحة" ومخدة ولحاف، عفواً أريد مخدتين، لأنني عندما أنام على مخدة واحدة فإن عظام رقبتي تؤلمني، وأحتاج بطانية، بل اثنتين، واحدة ألفها بين قدمي وأنا نائم، والأخرى أضعها من أعلى البطن إلى أسفل العنق بقليل، وإذا ضايقكم بند ازدواج المخدة والبطانيتين، فلست مصراً على العدد، وسأتصرف بواقعية، من الممكن أن أضع النعال أولاً، ثم أضع المخدة، وبذلك يمكن أن يصير الارتفاع مناسباً لرقبتي؛ ثم إنني لن أكون أسيرَ رغبات رقبتي؛ لتتدبر أمرها وتتفاعل مع الظروف، والأهم من ذلك أن هذه الرفاهية في موضوع المخدة سيفتح باب مفسدة، وتصبح كل أعضاء جسمي تطالب بحصتها من الرفاهية، والأعضاء كثيرة كما تعرفون، وهناك أعضاء لا يمكن تلبية كل ما تريد. وموضوع البطانيتين أعتقد أنه إسراف أيضاً، يمكن أن أزيد التكور على الذات فإذا استطعت طي جسمي ثنيتين كما يطوى البساط، فهذا يعني أن الصدر سيكون بطانية للبطن، وهكذا يسري الدفء في كامل البدن وفق قاعدة الأواني المستطرقة، وليس عندي أي اشتراط لنوع الطعام الذي سيكون في هذا المكان، ولكن يفضل أن يكون ثلاث وجبات، وتكون في الثلاجة علبة شوكولاته، لأنني أعاني من هبوط السكر المفاجئ، وإذا كانت الشوكولاته غالية فلا ضير من بضع حبات من التمر أو علبة حلاوة، يا سيدي لا أريد أن أحرجكم، لو سمحتم استعيروا لي السكين الذي يقطع به أبو خالد الهريسة، فساعةَ البيع والتقطيع يلتصق كثير من بقايا الهريسة، وإذا لحستها ليلاً فإنها تعدل هبوط السكر لدي.. نسيت أن أقول لكم: أرجو أن لا تكون طلباتي كثيرة وفيها تكلفة عليكم. أريد فقط علبة دخان، وليس مُهمّاً من أيّ نوع.
وأرجو أن يكون تحقيق هذه الطلبات مقروناً بجلوسي دون عمل.. من الآخر يا راعي هذا المشروع أريد هذه الأشياء دون عمل، وأتمنى عليكم أن لا تغيروا النوايا فيما بعد، كأن تقولوا مثلاً: في الحركة بَرَكة، وقم ساعدنا في رفع مئتي بلوكة إلى الطابق الثالث، وهذا أمر مفيد لك سيساعد في تخفيف وزنك الذي ارتفع من كثرة مكوثك ولحسك لسكين الهريسة، أو "اليد البطالة نجسة" كما يقول المصريون، وأرجوكم لا تسألوني ماذا سأفعل وأنا جالس دون عمل، وما هو برنامجي.. أخي أنا عندي برنامج كامل سأنبطح على ظهري من الصباح حتى الضحى على الطراحة التي على يمين الغرفة، ومن الضحى حتى الظهر سأنبطح على الطراحة التي على يسار الغرفة مع رفع قدمي وإسنادها إلى الجدار، ومن الظهر حتى العصر سأنام قليلاً؛ لأن القيلولة مفيدة، فقط الشياطين لا تُقَيِّل، ومن العصر حتى المغرب سأجلس تحت عريشة العنب أتأمل في ملكوت الله.
المفاجأة أن هذا تحقق. أقسم بالله تحقق، لكن مع الأسف لأربعين يوماً فقط.. لكن لا مشكلة عندي في عدد الأيام، رغم أنني أعتقد أن الرقم الكبير.. أربعون يوماً وأنا أسبح داخل أمنيتي المتحققة.
هذه التجربة عشتها مرة واحدة في الكويت منذ عشر سنوات، عند وصولنا إلى تلك البلاد الميمونة، مكثنا في سكن الضيافة أربعين يوماً، ريثما يتم توزيعنا على مقرات العمل.
أطرف ما في تلك التجربة أنها جمعت سوريين من كل المحافظات ومصريين من كل المحافظات أيضاً، ولأن الزمان امتد طويلاً دون عمل، فقد كان الوقت ممتعاً لسماع الحكايا الممزوجة بالقهر من كل مكان، وبعض الذين ذكروا حكايات قهرهم في تلك الجلسات صاروا بعد حين شبيحة للأسد.
من أطرف القصص ما سمعته من الصديق الأستاذ أبو جعفر. حدثنا أبو جعفر قال: سافر سوري من بني جلدة أبي جعفر إلى السعودية، ليحقق أمانيه الخارقة للعادة، وهناك انعقدت علاقة مع رجل سعودي يرحل في بحر السبعين، وقد اشتعلت لحيته شيباً، فصبغها بالخضاب، فبدت حمراء فاقعة.
قرَّب الرجلُ السعودي الوافدَ السوري، واتخذه صاحباً يجالسُه سراة النهار، وينادمه ليلاً، ويطلب منه الحديث عن سورية وأهلها، وكان الشيخ السعودي مولعاً بالقومية العربية، والأناشيد الوطنية، ومعجباً بالتجربة الرائعة للحكومة السورية التي تحارب الاستعمار والصهيونية، وتمرغ أنف أميركا حينما يروق لها، ثم تدعها تعيش إشفاقاً على شعبها، وكانت أمنيته الوحيدة أن يقضي بقية حياته في سورية على تخوم القومية العربية، والنضال ضد إسرائيل، وكانت لديه حسرات حول فشله في المشاركة في المظاهرات ضد أميركا وإسرائيل التي شهدتها ساحة الأمويين في دمشق.
في ليلة كان الأنس سيدَها، والقمر ينافس النجوم في ترتيب شكل الليل، انطلق الشيخ السعودي في الحديث عن سورية العروبة وقال للوافد السوري: تدري يا طويل العمر؟ أقسم بالله أشتهي الآن أن أركب السيارة، ونسافر إلى سورية، يا أخي: أنتم أهل العروبة، وإلى الآن أذكر الأنشودة التي تقول:
من قاسيون أطل يا وطني.. فأرى دمشق تعانق السحبا
آذار يدرج في مرابعها.. والبعث ينشر فوقها الشهبا

نظر السوري في وجه الشيخ السعودي، وتأمل في خضاب لحيته، وقال له: تدري يا طويل العمر؟ لو البعث درج في مرابعكم، كان شفت هاللحية الحمرا تبيع خبز عند دوار المحافظة!

(كاتب سوري)

كلمات مفتاحية

قصة قصيرة أدب سوري حديث