المريض

محمد إبراهيم 13 سبتمبر 2019
قص
لورنزو بيرنيني (Getty)

تتكاثف الآلام.. صرير الأبواب الحديدية العميق الذي يلف الجناح ألِف يمين والذي يصلني كسكين قَرِفَ يدَ حاملهِ.. خيبة أمل لموعد لم يتم، مرارة غياب لا يعرف حدود العودة، ثوانٍ امتدت فابتلعت الساعات والأيام، ولا أبالغ إذا قلت الشهور، لا أريد أن أذكر كل شيء أو بالأصح لا أستطيع، ولكن كل ما أريد قوله أن عشرين عاماً أو أكثر من المرارة والبؤس تركزت في تلك اللحظة داخل أحشائي، الدم يسيل، ينزف ليغطي مساحة البياض في الحمَّام، شعرت بأن السقف يهبط، لا، أنا أرتفع، أرتفع، يضغط السقف على صدري تتقطع أنفاسي، أجاهد، أهرب، تتلقاني القضبان كرماح برؤوس مسمومة، تتقطع أمعائي والألم يزداد، أكتم الصراخ، أتلوى، أحاول أن أتشبث بعناوين كبيرة، لكن لا فائدة، أصرخ، ويعود الصدى أسئلة الرفاق من المهجع: ماذا بك؟ طمِّنا.. افتح الباب.. افتح.. ومع الصراخ سالت دمعة كانت بداية الطريق إلى المستشفى.
لأول مرة كانت عيوني تقاوم اتساع الرؤيا، ضاقت المساحة الكبيرة على أن تستوعبني، دخلت السيارة على إيقاع صوت القيود في يدي، جلست في مقعد يشاطرني إياه رجل مُسن تركزت عيونه في مساحة من أرض السيارة لا تتجاوز قطر عينيه، لم أفعل مثله، لا لشجاعة أكثر، بل ربما لحداثتي في هذا الموقع ولقلة تجربتي، نظرت من نافذتي المقطعة إلى الخارج، فكان العالم يدور بي وكأني لأول مرة أركب سيارة، صفعة من السجان أعادت عيناي لتلتقي مع نظرات العجوز في أرضية السيارة، هدوء المسير وبطء الحركة وكابوس الصمت يبعث على الغثيان، سواد الطريق هارباً إلى الوراء ينسحب من تحت العجلات كأفعى تطاردني نحو المجهول.
تنعطف السيارة، يدور الرأس، يصل الطعام إلى حلقي لكنني أحاول بما تبقى بي من قوة أن أتمسك به في جوفي، أقاوم اندفاعه بأصابعي، أطبقت يداي على فمي، عيناي كادتا أن تغادرا محجريهما، لا أعرف كيف تمالكتُ نفسي حتى وصلت إلى مستشفى التل، حيث كان الطابق الأخير تابعاً للسجن.
دخلت غرفة غائمة بالبياض الباهت، أحسستُ بالبرودة تسري في مفاصلي، في كل خلية من خلايا جسمي، إنها النهاية، الألم يأكلني، وأنفاس الروح الأخيرة تساعدني كي أصرخ، أستنجد، تمر لحظات مكفنة بالبياض، تلفني، أتكوَّر على ما تبقى من عظامي.
دخل الطبيب، فحصني وقال: يحتاج إلى معالجة سريعة، وكتبَ بعض الأدوية وحقنني ببعض الإبر، وعلق فوق رأسي تلك المادة التي أحسست بأن الحياة تأتي مع كل نقطة من نقاطها لتمتزج في دمي... نقطة... نقطة.
بدأت أميز تفاصيل غرفتي، نافذة كبيرة مقطعة بشبك معدني، التفاصيل من خلفها غائمة، سريرٌ أبيض تبدو عليه علامات النظافة، خزانة استقامت إلى جانبي لا أعرف سبب وجودها وطاولة صغيرة متحركة يبدو أنها من أجل الطعام. دققتُ في النافذة التي لا أستطيع الوصول إليها، لأن قدمي قُيّدت إلى السرير بمتر من الجنزير، لكنني أدركت أفقاً واسعاً أزرق يرتسم بعيني. بدأت

أستعيد دورة الحياة في دمي، وعندما قاربت الشمس على المغيب دخل شرطي وفك ذلك الخرطوم المعلق في ذراعي بحركات آلية، أبعده إلى طرف السرير، وبخروجه من الباب دون أن ينظر إليَّ قال: إذا أردت شيئاً دُقَّ على الباب، القيد يكفي لأن تتحرك لقضاء حاجتك، وأغلق الباب وخرج. لم أفهم ماذا كان يعني لقضاء حاجتك إلا عندما رأيت نونيَّة معدنية أسفل السرير.
أحسست بقليل من الراحة، تململت لاكتشاف همَّتي، استجمعت قواي، نزلت عن السرير، توجهت نحو ذلك الأفق المحمر، لكنَّ طول الجنزير لم يسعفني، عدت إلى السرير خائباً أفكر بذلك المدى، لم يطل التفكير، حيث فتح باب الغرفة ودخل السجان ليتأكد من استقرار الوضع في الغرفة، لكنه لم يستطع مقاومة فضوله فسألني: من أي بلد أنت؟ وما تُهمتك؟ ومن أي سجن قدمت؟ وعندما سمع سجن صيدنايا وحزب العمل، انتفض وسألني: هل معك أحد من قرية قسمين اسمه محمد؟ فقلت له: نعم صديقي وبنفس المهجع، خرج مسرعاً وعاد بجنزير طويل وقال: لأنك تعرف ابن ضيعتي بدّي غيِّر لك هالجنزير، وسلِّمْ لي عليه بس ترجع. فعلاً بدَّله وكان جنزيراً يكفي لأن أصل النافذة حيث واجهني الزجاج، وتوسعت مساحة الرؤيا ووجدتُ نفسي أشاهد من وراء الزجاج بنايات أشرفتُ من موقعي على سطوحها.
كانت هناك حياة، نعم الحياة تسير في الخارج، فتيات وفتيان يحملون كتبهم ويذرعون الأسطح جيئة وذهاباً، خمنت أنه وقت الامتحانات النهائية. استجلبت الذكريات، غادرت الغرفة إلى أفق آخر، إلى زمن آخر لم تطله عيناي، عيون الفتيات والفتيان تنتقل من سطح إلى آخر.
عيون تلتقي وقلوب تتناجى، أتخيل الكلمات وهي تفر من بين السطور لترتسم صور الأحبَّة فوق الصفحات مع دقات القلوب.
عادت النوبة، أمعائي تتقطع، قدماي تنحنيان تحت ثقل رأسي، فأجبرت نفسي على العودة إلى السرير، تمددت، أخذت نفساً عميقاً، تناولت كأس ماء وابتلعت حبة دواء قال الطبيب لي أن آخذها عند الحاجة، بعد إغفاءة أعتقدُ أنها كانت قصيرة، استيقظت على صوت فتح الباب، إذ وصل شرطي يحمل معه كأس حليب، كانت هي العشاء.
بعد أن أخذتُ الكأس تنبهت إلى النافذة سحبت ذلك الجنزير خلفي واقتربت منها دققت النظر من خلال بقايا الضوء على الأسطح التي بدت خالية، بدأت أجولُ في نظري، أمسح كل شيء، الضوء يخفت أكثر، العتمة تزداد رويداً رويداً، وأنا أدقق في تفاصيل المكان، فجأة توقف نظري، كانت تقف عند زاوية الجدار، أحنَتْ ظهرها قليلاً. لم أستطع أن أميز هل كانت تحمل معها كتاباً أم لا، لكن نسمات خفيفة من الهواء كانت تلاعب خصلات شعرها، تتماوج بانسياب خفيف يبعث الرعشة في القلوب.
كانت جامدة لا تتحرك، مصوِّبةً نظرها باتجاه واحد.
نظرت إلى ذلك الاتجاه أستكشفُ ماذا عساه أن يكون هناك، أجهدت نفسي بالنظر... لم أجد شيئاً.
جدران ميتة، أسطح خالية، حبال غسيل عارية من ملابسها، لم يكن هناك شيء يلفت النظر، يمر الوقت والعتمة تزداد أكثر فأكثر وما زالت تلك الفتاة ثابتة إلا نسمات شعرها تتماوج أمام عيني تساءلت:
لماذا لا تنزل... لقد تأخر الوقت؟
بالتأكيد اختارت الوحدة فسحة للتفكير، شيء ما يقلق حياتها، على الغالب حبيب غائب، حبيب سجين، ربما تستجمع الذكريات لدقائق عمر أمضتها معه، ترتعش لصورة حبيبها وهي تخترق الظلام فتتركز أمام عينيها، تستجمع حروف كلماته لتشكل منها أجمل عبارة حب قالها يوماً، لكنه شرود عجيب، لم تتحرك...
لقد تعبت وأنا أنظر إليها، لكني لم أستطع أن أنسحب، أحسست أن شيئاً ما يشدني إليها وبماذا تفكر، بغائبٍ تتمنى أن يعود لتضمَّه، تقبله، تغيب في ثنايا ضلوعه.
أحسست بالتعب.
النوبة تأتيني ثانيةً، أتوجه نحو السرير، أبتلع حبة دواء، أتمدد باسترخاء.
دخلت الشمس مشوبة بحُمرة الصباح غرفتي، تململت، فركتُ عيني، قمت بسرعة باتجاه النافذة وكأن الزمن توقف عند تلك اللحظة التي كنت أقف بها مساء هناك، دققت النظر في تلك الزاوية أبحث عن عاشقة البارحة...
تلك هي الزاوية، تفحصتُ المكان، ابتسمت، ضحكت... ضحكت، علا صوت الضحك متزامناً مع دمعة ساخنة تسربت على حافة أنفي عندما لم أجد سوى مدخنة مربوطٍ عليها قطعة قماش تتحرك بانسياب مع نسمة هواء عابرة.

كلمات مفتاحية

قصة قصيرة أدب سوري حديث