ما بعد الجائحة

محمد حنّون 16 أبريل 2020
سير
...أشياء توقفت عن القيام بها قبل الجائحة والآن سأفعلها
هُـناك أمور بسيطة توقفت عن فِعلها حتى ما قبل الجائحة، وتوقف الكثيرون عن فعلها، بسبب تطورات الحياة واختلافها، وهناك أمور كنا نتجنب فعلها ونرفض تجربتها، أمور أتمنى الآن أن أقوم بها.
* سأقوم بشراء ظرف بريدي ذي أطراف المخططة بالأحمر والأزرق، وسأشتري ورق رسائل مُسطَّراً، وسأكتب رسالة لصديق ما خارج الأردن. سأشتري الطابع البريدي وسألعق ظهره، دون خَوف من أن أُعدي ساعي البريد، أو أن أصاب أنا بالعدوى. ثُم سألعق المثلث الورقي للظرف وأغلقه. سأحمله فَرِحا إلى مكتب البريد، وتحديدا الذي في إربد، في شارع بغداد. سأعطيه للموظف الذي يجلس متأففاً خلف الزجاج، وسأكون فَرِحاً بنزقه، ويا حبذا لو أنه ينهرني حين أجنن سماواته بأسئلتي المكررة عن الوقت الذي تحتاجه الرسالة لتصل إلى وجهتها. أريد أن أفعل هذا بكل الفَرح، أريد ذلك من كل قلبي. والأجمل اذا غضب مني وقال: "ما عنده صاحبك ايميل"، سأقول له: عنده بس حابب أودي رسالة!
* أمر آخر سأحرص على فِعله. سأذهب إلى المكتبة العامة في بلدية إربد، وسوف أتنقل بين الجدران الممتلئة بالرفوف المُغبرة، وسأنتقي أول كتاب قرأته فيها "الأشجار واغتيال مرزوق" لعبد الرحمن منيف. سأقرأ الكتاب وأنا أجلس على إحدى الطاولات الخشبية. سأتعمد الحديث مع شخص آخر، إن تواجد، وإن لم يتواجد سأحدث نفسي بصوت مرتفع، لكي أحرض أمين المكتبة عليَّ، فينهرني بتلك الكلمة العالمية والتي تستخدمها كل لغات العالم: "ششششششششش".. سأشعر بفرح عظيم حين يغضب مني، وهو يطالبني بالصمت؛ حتى لو كانت المكتبة فارغة تماما من الناس.
* سوف أذهب إلي "دُكان" لأشتري زُجاجة مشروب غازي، وسوف أرجو صاحب البقالة أن يصب السائل في كيس بلاستيكي شفاف، لكي يحافظ على الزجاجة الفارغة. كُنت أكره ذلك، كُنت أضع التأمين النقدي، عَشرة قروش حتى لا يفعل صاحب البقالة ذلك، ولم أدعهم يفعلون ذلك قط. سأرجوه أن يفعل ذلك هذه المرة بالرغم من أنه لم يعد أمرا قائما. سأرجوه أن يفعل ذلك، وسأؤكد له بأنني شخص لا يُؤتمن حتى على بيضة، وسأقطع يَدي وأشحد عليها؛ بأنني لا أملك العَشرة قروش. سألحظ الدهشة على وجه صاحب البقالة وهو يقول لي: يا إبني.. المشروبات الغازية الآن في علب ألمنيوم!! سأقول له: لا يَهُم.. صبها في كيس بلاستيكي.
*سأصغي هذه المرة لحسين الزرعيني، حين كان يقول لي: إذا لم تستمع بشكل كامل للمجانين الذين يمرون من هُنا، لن تتعلم شيئا من الحياة. كنت أصاب بالضجر قليلا من ثرثراتهم حين يمرون بكشك الكتب، كنت أستمع إليهم ثم أقاطعهم ليذهبوا. الآن سأذهب إلى حسين لأرجوه أن نخرج إلى الشارع لنجد أحدهم، حُكماء الشارع. لنجلس إليه ونستمع لكلامه وحكمته لساعات متواصلة. لن أقاطعه، بل سأشعل له سيجارته حتى لا ينقطع حبل أفكاره. قد يقول كلاما غير مفهوم، ولكنني لن أقول شيئا، سأقوم بهز رأسي موافقا.
*سأرفض كفالة صاحب العمل ووساطته عند العائلة الإربدية العريقة، حين كنت في نَظارة مخفر إربد، بسبب شجاري مع أحد زبائن الأستوديو، والذي اعترض على هيئة وجهه في الصورة. كان ذلك وجهه، ولا حيلة لي في الأمر. شتمني ورمى صندوق مغلفات الصور في وجهي، وقال لي "إنت مش عارف مع مين بتحكي؟" وجدتني، دون أن أنتبه، أقف فوقه تماما وأقوم بلكمه. لم أعرف بأن هُناك شخصين معه في السيارة التي تقف في الشارع. دخلوا إلى الأستوديو، وكل ما أذكره أن قانون الجاذبية لنيوتن غير مطلق. وبأنه من الممكن جدا، وبفعل قوة اللَكْمِ، وقوة الصَفْعِ، وقوة الطَرْحِ أرضاً، أن تفقد الأجسام البشرية كثافتها، وترتفع قليلا عن الأرض.
إذا حدث هذا معي مرة أخرى، سأرفض كفالة أحد، وسأرفض أن يسقط أحدهم حقه الشخصي عني نتيجة الوساطة والمعارف. أما أنا فسأسقط حقي ولكني سأرجوهم أن يفعلوا ذلك بعد 24 ساعة وليس الآن. يومها لم أمكث في النَظارةِ لأكثر من ساعة، وكنت متلهفا للخروج. لم أشعر بالتجربة كما يجب، ولا أستطيع أن أقول بأنني سُجنت، وبأنني "رد حبوس" و بأن "السجن للرجال".. كانت مجرد 45 دقيقة قضيتها محاولا إقناع بقية "الشبيحة" في الزنزانة، بأنني "مگلع". في حين، لو أن أحدهم عطس في أي لحظة لقفزت عن الأرض مذعورا. أريد أن أعيش التجربة كما يجب. سأحرص على أن أدخل في شجار لا يزجني في النظارة لأكثر من يوم، و لن أنسى أن أحفر على جدار الزنزانة و أنا أغادرها " حَنُّون كان هُنا".
أشياء كثيرة أخرى، سأفكر بها، أشياء توقفت عن القيام بها قبل الجائحة، أو رفضت أن أخوضها، والآن أود جدا أن أفعلها.


 *مصور فوتوغرافي وكاتب أردني يقيم في تشيلي

كلمات مفتاحية

التجربة القهر الإنساني