إيقاع الغابة

تغريد عبد العال 7 أبريل 2020
يوميات
(كاميل بومبويس)

في ستوكهولم، أمرُّ كل يوم قرب الغابة المجاورة. تحدثني الأشجار المتلاصقة عن نقطة البداية، حيث أعود إلى الوراء قليلاً كي أتذكرها. لكن، لا يهم أحياناً، فالطريق تجعلني أشعر أن الضياع هنا مرهون بالذاكرة القصيرة فقط. يقفز سنجاب بين الشجر، ربما أيضاً يقول لي إن هناك غابة صغيرة في أحلامنا، تتسع كلما دخل الضوء الهارب نحو المدينة.
أفهم لغة المحطات، وأدرك أنها المغادرة من جعلتني أنتظر المجيء إلى المدينة. المغادرة التي تصبح شيفرة القطارات، حيث الغرباء الذين يصعدون ويقفزون وكأنهم يلتقون سراً مع الفرح، يريدون أن تكون له محطة واحدة، وشخص واحد داخلها يحمل باقة من الورود. أتذكر أني لملمت الكثير من الإطارات، ووضعتها على الطريق، فتحولت إلى نوافذ، أراها تتباعد وتتسع، بينما أنا مشغولة بالتحديق في المدينة العائمة في الماء.
أنت تحدقين في الزهر الذي يسقط من الطيران، يقول لي صوت في داخلي، بينما تطير أفكار أخرى تحتاج إلى التدرب، على أن تترك قشرتها، فبعد أن شعرت أن قلبي أصبح عارياً من دون قشرة البرتقالة التي تغلفه، ركضت إلى الغابة، كي أسمع صوتي أوضح، وعندما يرتجف تتضح الطريق.
تختبئ الكلمات وراء الأحجار، هكذا تقول لي وأنت تبحث عن كلمة مناسبة. لعلها الحياة من ستجعل اللعب في الحجارة يستمر حتى تأتي الكلمة التي ترتب الأحجار وتلقي نفسها في المكان الذي يناسبها.
هناك كلمة سر غريبة تجعلني أدخل هذا العالم، كلمة تجعلني أنتمي فيها لبلاد غريبة، يتهامس سكانها ويختبئون خلف الكلمات وكأن اللغة تحميهم من الغياب، إنها تمكنهم من الوجود داخل هذا العالم الهادئ.
الغابة تكبر، تأخذها العزلة نحو خطوط تلتقي بأشجارها فجأة، أخبرتني سعدية حسين، الفنانة الباكستانية، أن تلك الوجوه تلتقي في نقطة واحدة ومنطقة واحدة في رسوماتي لأن تلك المنطقة هي أنا. في تلك المساحة الواسعة التي تفردها سعدية أمامي، أرى لأول مرة في حياتي، القمر. وتذكرت أن في ضوئه الآتي من لقاء الأشكال، يكمن السر، إنه الشعر. إنه الطريق الذي تلتقي فيه الأشكال والوجوه والبيوت، وتتحرك داخله النوافذ، ونعلم أنه ما من شيء كان صدفة، حتى تلك الغيوم التي تمسك الشمس من أشعتها كان لها وقع مشابه من قبل؛ وقع أناملها التي تمسك بالقلب وتهمس له بالسر..
في زمن الكورونا، حيث العالم يجرب العزلة الجماعية، أذهب إلى عزلتي في الخارج، أنزهها قليلاً لعل الوقت يتوقف وتعود إلى بيتها. على موسيقى الأعصاب التي أحاصرها بالقول: إنه الوهم، إنه الوهم، وأذهب عميقاً في الغيبوبة التي تطل من كومة أعشاب الذهن. لكني بعدها أستيقظ قائلة لنفسي؛ لا بد أن أكمل بكل قوة.
إنها هيلينا بوربرغ، الشاعرة السويدية التي التقيتها، وتحدثنا عن الشاعرة اليونانية سافو، والشاعر اليوناني سيفيريس، وذكرتني بمقطع لسيفيرس كتبته على بطاقة أهديتها إلى كاترين في عيد ميلادها: في الغسق، أو في ضوء أول الفجر، سيبقى الياسمين أبيض.
دموعك المتجمدة أصبحتا نظارتين، يقول لي توماس ترانسترمر، بينما أبحث في المترو عن اسم المنطقة التي تسكن فيها سعدية. تلك الدموع التي أراها الآن تتمايل في سقوطها مثل ثلج ناعم، تشبه غربتك في كل مكان، إنها تلك النظارة التي تحتاجينها كي تتأملين بشكل أجمل هذا الوجود.