يحدُث الآن.. يُكتب الآن

محمد بنعزيز 28 سبتمبر 2021
قص
(Lemay Chiang)

 

 

 

هذا المقهى مكان مفتوح لساعات طويلة، أكثر من كل الشركات والإدارات العمومية، بعد العمل يأتي الأفراد للجلوس في المقهى لساعة أو ساعتين، بالنسبة للكاتب فالعمل هو الجلوس في المقهى عشر ساعات للتحديق في أولئك الأفراد، عاطلين وعمالًا وموظفين.

يجري الآن التحديق في الشاب الذي جلس للتوّ إلى الطاولة المجاورة في هذا المقهى شمال كازابلانكا. شاب طويل وسيم يضع ربطة عنق في شهر غشت، شاب يضع كمامة من النوع الجيد ويحمل حقيبة جلدية، جلد مزيف؟

لا بد من التحقق. الفضول يقتل القطط، لكنه يحمي المزاج من الترهل. هذا انصراف سردي غير ضروري.

يبدو أن الشاب مندوب شركة افتراضية، وسنسميه شمس الدين مؤقتًا.

تناول شمس الدين كأسه ليرتشف فبدا الكأس صغيرًا بالمقارنة مع رأسه.

يبدو رأس الشاب كبيرًا، جسمه أيضًا كبير، ولكن في كل الحالات حجم رأسه هو سُبع حجم كل جسمه.

وصلت امرأة في حالة صحية متدهورة رفقة شابة أنيقة وجلستا إلى طاولته، لنسمّ الشابة فدوى. يوجد تنافر شكلي بين الشخصيتين، جاء النادل وانصرف، انخرط الشاب في تمهيد حماسي قصير تلاه مونولوج طويل حول تشغيل الشابة والآفاق الواعدة للعمل الذاتي... يتحدث الشاب عن وظيفة مهمة ويشرح حيل البيع عن بعد والأرباح المحتملة بفضل الحياة الافتراضية في زمن كورونا. 

يركز ممثل الشركة على الأم التي ستدفع النقود، يقدّم لها حوافز شفوية ثم يسألها في نهاية كل جملة:

هذا صحيح أم لا؟

صحيح.

هكذا ترد الأم وهي تأمل أن يحوّل العرّاف الجديد شقاء ابنتها إلى سعادة. لن نضع للأم اسمًا مميزًا لأن كل الأمهات مُنمّطات، لديهن نفس الهموم حسب الرواة.

شعر الكاتب المحدّق بالنشوة وهو يخوض تمرينا آنيا في الكتابة، يلتقط الحقيقة فورًا من أفواه أبطاله. يحدق ويتحرى فيما يرويه لأن عاهة الأخبار من رُواتها... يشعر الراوي بتطفله على شخصياته، لكنه ملزم أن يحدق لكي لا يلفق حين يكتب.

جلب النادل عصيرًا ملونًا رفيعًا لفدوى، بينما لم يجلب شيئا للأم، يبدو أنها لم تطلب مشروبًا لأن ثمن المشروب الذي طلبته ابنتها مرتفع... امرأة حكيمة... قلق الكاتب من هذا الإقحام لتقييم إيجابي يكشف تغيرًا في الموقع من حيثما يُلاحظ ما يَجري، لقد ساهمت واقعة صغيرة في تعديل زاوية النظر، لم يعد الكاتب محايدًا، صار يميل للنظر بعين الأم، وهي ليست أمه، لكن تشبهها.

تتقدم المفاوضات التجارية دون وضوح السلعة، يذكر شمس الدين أرقام أرباح كبيرة محتملة، يؤكد لفدوى أن الثروة ليست حظًا بل تخطيط، اجعلي نمو دخلك أكثر من نمو مشاكلك. لا تستمعي لنصائح الفاشلين، استمعي للناجحين فقط...

تنظر الأم بحيرة بين مصدقة ومكذبة وتخشى أن تكون ابنتها هي السلعة. تحدق الأم في الشاب المسترسل في مونولوج لا تتخلله لا نقط ولا فواصل صمت، وهذا ما يشعر المرأة بالقلق. تبدو لها إشارات غامضة من حشو الكلام، من يحدق صامتًا يكتشف جديدًا.

تظهر ندوب القهر على وجه وأصابع الأم المتهدمة، بينما ابنتها بخدين ممتلئين وأظافر طويلة كأنها تنحدر من طبقة أخرى... واضح للمراقب مدمن التحديق أن بؤس الأم المضحية هو كلفة رفاهية الشابة التي لم تغسل الأواني ولم تعجن خبزًا لأمها، وها هي جاهزة لتتبع شمس الدين بسبب شكله لا بفضل كلامه... هؤلاء هم البشر، يتصلبون بسبب العناد إلى أن يظهر لهم عمود فقري حديدي، ثم يزحفون خلف غرائزهم ومصالحهم فيتطحلبون ويتلونون تبعًا لما يريدون...  

مسكينة هي الأم.

ضبط الكاتب نفسه يتبنى تمامًا وجهة نظر الأم ويرى بعينيها، لذلك صار يشك في وعود الشاب الوسيم الغشاش الطماع لعنه الله.

يعتذر الراوي مسبقًا عن إقحام هذا التقويم الأخلاقي الاستباقي الذي يُضعف التشويق... سرد أفعال الشخصيات أهم من وصف طباعها وأخلاقها... يعتذر الكاتب عن إقحام نفسه في حكاية ليست حكايته، يعترف أنه يكره الرواة الذين يفتقرون لتتتابع الأحداث والأفعال فيستنجدون بالتأمل والوصف، يقولون بدل أن يحكوا.... يتأملون في حكمة السماء وعدالتها ويصفون سقف المقهى... بينما المشكل في الأرض وفي زبناء المقهى لا في سقفه...

قطعت الأم تحديقها الصامت فجأة وطلبت من شمس الدين أن يشرح لابنتها لأنها هي التي ستعمل، غيّر شمس الدين وجهة نظراته وحدّث مصطلحاته، صار يتحدّث عن البزنس بدون إطناب، وقد حصلت طفرة غريزية في صوته، حسّن طريقة جلوسه وغدا يشرح للشابة بحماس خطته للتكيف مع تقلبات السوق لاستقطاب عناصر موهوبة مثلها هي والمقتنعة بنجاحها وهذا "ليس كلام قهاوي"، صمت طويلًا ثم استخلص: يجب أن نتكيف، يجب... لقد فرض فيروس كورونا على حياتنا تغييرًا سريعًا في إيقاعه، كونيًا في امتداده، عميقًا في أثره.

هذا صحيح أم لا؟

لم تعرف الشابة بما ترد وهي شاردة تحدق في الوهم.

صدرت ضحكة عن الكاتب فانتبهت فدوى إليه وهو يحدق فيها. فاندفعت وأجابت فجأة:

- نعم طبعًا صحيح.

التقط شمس الدين هذا الحماس المفاجئ وشرع يبث التفكير الإيجابي في عينيها، أما قلبها فيبدو مغرقًا في اليأس، لذلك حثها على إحداث نقلة نوعية في حياتها.... يعلمها مهارة بيع أعشاب لشد الصدر والبطن والهدية هي مسحوق الحلبة المفيد لمعالجة المناطق التي يتركز فيها الوزن الزائد...

حدقت الأم فرأت عيني فدوى ملتصقتين في شفتي شمس الدين....  مدّت الشابة ساقيها تحت الطاولة، التواصل الجسدي أقوى من رسائل الفم... ما يجري على أرضية المقهى أهم من لون سقفه.

فهم راوي الحكاية أن شمس الدين يبيع شيئًا من الخطط التنموية للذين فقدوا القدرة على التخطيط لحياتهم، وهو يخترع خطة لفدوى على فرض أنه يعرف ما تريد، وتستطيع بلوغه بالعزيمة والصبر.

يحدث الآن، يكتب الآن.

استطرد شمس الدين في تقديم الوعود التجارية بأرقام مغرية، يصب فائضًا من الحروف في أذن الشابة. يشرح لها كيف ينبغي أن تحلم في زمن الأزمة... من حذقه الشفوي يفترض أن حسابه البنكي يتحسن كلما ضربت جائحة ما البلد.

واضح أن الشابة لم تعمل قط في حياتها، ويفترض أن تفهم حيل البيع المباشر في الشارع تحت الشمس وتحقق أرباحًا بفضل البزنس.

تدخلت الأم وقالت للشاب بحدة "بنتي بزنازة؟ لا لا لا".

قاطع الشاب الأم بغضب: بزنس أي مقاولة، وليس بزنازة تبيع الحشيش. سيدتي أنا أشرح لفدوى بالإنكليزية الكونية وليس بالعامية المحلية.

هذا تفسير ملائم للفروق بين اللفظين حول السلعة، وهو تفسير أفضل مما يستطيع الكاتب أن يقدمه.

وقفت الأم، وغادرت المقهى، وقفت فدوى وشرعت تعتذر عن سوء الفهم اللغوي، عبر سيف الدين عن التفهم بطريقة مفتعلة، صافحته فدوى بحرارة من يشعر بالحرج وغادرت.

نهض الكاتب وتبعها. انتقل الراوي من وضع مراقب إلى شخصية مساهمة في الحدث، يريد أن يستمع إلى فدوى ليعرف ما في قلبها، ولكي يجد نهاية سعيدة لقصته. حين وقف أمامها سألها عن سر جمال بشرتها فأجابته:

عيونك حمراء وبشرتك منهكة من فرط السهر والتحديق في الحاسوب، هيا أسلق موزة كل ليلة، استيقظ بعد الثانية عشرة وستصفو بشرتك.

سألها: ومن سيراقب شخصياتي؟

أجابته بغضب: قبل أن تضيّع وقتك تراقب الناس، راقب نفسك أولًا.