تحدث هذه المحادثات بين صورتين لا شخصين، تبدأ بتحية على الخاص، ولا تحتاج لأكثر من بعض هذه العبارات التي تنم عن الاهتمام والرغبة بتوطيد العلاقة بين طرفين، واحد منهما يشعر بالضجر والآخر بالرغبة بالإطراء، لتشاركهما الفراغ العاطفي والحرية المسروقة وساعات الليل الموحشة.
هذه المحادثات الليلية تحدث غرائزيًا وبدافع الضجر العاطفي الذي تمكّن من العشاق، ولأجل كسر الرتابة التي تسيطر على وقع الحب، الذي يبالِغ في صعوبته في وقت تسيطر السهولة فيه على كل شيء، باتت أمرًا عاديًا، يعتقد البعض أن لا تداعيات طويلة المدى على الإنسان فيه، كونهم يدركون جيدًا أن ما يمارسونه لا يتعلق بالعاطفة بل بالأهواء، وما يرغبون به لا يتعلق بديمومة والتزامات شأن الحب، الذي قلّ شأنه واستهلكت معانيه.
مصادفات متعمدة ومتواصلة، عوضًا عن انتظار الإشارات القدرية التي كان يهتدي بها العشاق، استراحات جانبية لممارسة النزوات العابرة عوضًا عن مراعاة لحساسية الحب تجاه الثقة والصدق والايمان، صور شخصية معروضة على طول المنصات الإلكترونية، لا يتطلب ظهورها بأجمل حال لأكثر من تطبيق خفيف، وتدريب بسيط للابتسامة الأكثر فتنة وعرض لزاوية الوجه الأكثر إغواءً، إضافة الى التبييض والتقشير والحفّ لتبدو البشرة أكثر صفاءً والملامح أبهى ما تكون، بدون الحاجة لمساحيق التجميل ولا عياداته، كل هذه الإمكانيات تدفع باتجاه المزيد من الفوضى العاطفية والارتباك المتصاعد بين المتوفر السطحي والصعب العميق، ليصبح الحب في رتبة أقل والغواية البصرية في أعلى حالاتها.
علاقات عابرة لا تلبث أن تزول، بفعل الضجر الذي أدى اليها ولتوفر البدائل باستمرار، فسهولتها تفضي الى سهولة غيرها، إلا أنها ورغم سطحيتها ومرورها السريع، تترك شرخًا عميقًا في منطق الحب، وتدعو لإعادة النظر فيه، وبمتطلباته التي لم يعد بالإمكان تحقيقها، فكيف لعاشق أن يحظى بالثقة في وقت يمارس فيه الخداع العاطفي، كيف للحب أن يتواجد في بيئة أسقطت المعنى عنه، استخدمت مفرداته في غير مكانها، وداست على المقدس فيه؟
ما من طرف بريء في علاقة الخادع والمخدوع فيها خائنان لمعنى الحب، ما من طرف ساذج في علاقة مفتوحة الأطراف، مواربة الأبواب، يعود فيها كلا الطرفين لادعاء الوفاء والحنين للحقيقي، ولتفقد وجوده بمجرد إغلاق المحادثة، وبالوقت الضائع.
في مجتمعاتنا العربية المتزمتة، كانت مجرد إيماءة بالرأس بين رجل وامرأة، تتطلب شجاعة ومحاولات تضليل وتبرير في حال لاحظها أحد، وكان التعارف يأتي في حلقات ضيقة إن حدث واتسعت لن تتعدى محيط الحي او المدرسة أو الجامعة، والعلاقات تندرج دائمًا تحت مسميات وصلات قرابة وأسباب مشروعة غالبًا ما تنتهي الى ارتباط معلن أو الى نهاية حاسمة وموجعة.
هذه المجتمعات التي كانت تعيب على الغرب الانفتاح والاختلاط وتعدد العلاقات، هي ذاتها التي تقوم بكل ذلك تحت ستار الليل والعتمة، بفارق أنها ما زالت تدعي العفة وتقتل تحت شعار الأخلاق والشرف، وهي ذاتها التي ما زالت تمارس عادات الشعراء المضحكة بالكتابة عن العشق والوفاء، واستذكار مشاهير العشاق في كل مناسبة، وفعل كل ما لا يتحمله ضمير العلاقات التي تتكئ على الحب وتتوكل عليه.
أين صار الحب، في كل ذلك؟
كيف أصبحت ملامحه وما هو شكل أطفاله الذين تقطعت حبال خلاصهم عنه بسكاكين استهلاكه الوضيع، التي لم يكن يجدر بها أن تسنّ بهذه القسوة. أين صار ذلك الذي أصبح يحدث بدافع الضجر ويستمر بدافع الوقوع بالضجر مرة أخرى، ذلك الذي تربّى على الوفاء وكَبُر على الصبر والانتظار والتأمل، أين روائحه التي كانت تهبّ من أعمق اختلاجات الروح إلى أعلى غيمة في سماء الوجد والحنين، أين يحتفي الآن ونحن نواصل استغفاله واستغلال مفرداته لشحن نزوات عابرة لا مكان لها في سجلّات النفوس والعاطفة.