من سيرة ذاتيّة: كمن يطبخ الأمل على نار هادئة
يكون من حسن حظي أن من يقرأ شعري سوف ينظر من نوافذ كثيرة رأى فيها الروائي طارق إمام في مقاله عن ديواني "الأيام حين تعبر خائفة" (2019): "جرح النافذة في حائط العالم"، بينما رأى الناقد الراحل الدكتور شاكر عبد الحميد أن "النافذة والشرفة والعين هي علامات للنظر والرؤية والإطلال على العالم"، وأغلب هذه العوالم جاء أصلًا من النافذة الأولى التي لا تزال يُسمع فيها ـ إلى اليوم ـ سباب الشوارع كأنه نوع من التكريم، أو مثل "لعنة سقطت من النافذة"، فحين بدأت كتابة قصيدة النثر منتصف التسعينيات من القرن الماضي كان النقاد يشيرون إليّ بوصفي شاعرًا شابًا يُشرك آخرين معه في القصيدة متخليًا عن ذاته الفردية أحيانًا، ولم يكن لذلك تفسير عندهم سوى أنني أكتب بوعي أيديولوجي يفرض عليّ هذا الاختيار.
ليت النقاد يعرفون كيف عاش الشاعر طفولته في غرفة تلقى فيها الحكايات وقصص الحب والمرارات من خارج الغرفة إلى الداخل، ليتهم سمعوا ما سمعتُ من ضحكات رقيعة وهزّهم ما هزني من كلمات الغزل، ليت النقاد يعرفون أنه في كثير من الأحيان لا يكون الشاعر مدفوعًا سوى بوطأة نشأته فقط، فهؤلاء هم من يتعلم الشاعر منهم كيف يتعذب المرء عمرًا من دون أن يجد من ينقذه، ومن دون ـ حتى ـ أن يجد من يكتب عذابه.
ليت النقاد يعرفون قصة جار لنا غيرت مجرى طفولتي، هذا الجار كان فلاحًا فقيرًا أصيب بمرض في المخ عرف أهله لاحقًا أنه "السرطان". ونظرًا لفقره الشديد، لم يلجأ إلى الطب إلا متأخرًا جدًا، لكنه لجأ إلى شرفتي، كأنه يمنحني آخر آهاته، وبطريقة ما يحكي من خلالها قصته. لقد أمضى الرجل عامين يتأوّه بمرارة تمزق القلب تحت نافذتي رابطًا رأسه ـ بالأسلاك ـ بسبب الصداع غير المُحتمل، الذي تضاعف إلى أن مات، ساعتها عرفوا أنه كان يقاوم نوعًا من سرطان المخ، هذا الرجل الذي منحني بؤسه وعويله ليالي طويلة لم أكتبه أبدًا حتى اليوم، وقد كان أحد أسباب كتابتي للشعر، فمَن غير الشاعر يستطيع أن يصور آلام رجل كهذا؟...
(4)
الشاعر هو ـ نوعًا ما ـ الشخص الذي عليه أن يفهم أشباحه، ولديه موقف مباشر من الليل والغروب، على الشاعر أن يعرف شيئًا لا يستهان به عن القمر والنجوم، وأن يفهم لغة السحب، ويعرف شيئًا عن الطيور المهاجرة، الشاعر لا بد أن يعرف كثيرًا عن الخوف والظلام والفزع والأوهام، جزءٌ كبيرٌ من الشاعر يتمثل في ليله، الشاعر هو الشخص الذي يجب أن يعرف مفاتيح الغروب، يعرف تفاصيل هذه الساعة، ويضبط جسده على إيقاعها الأبدي، لحظة يؤوب الليل وتعود الطيورُ هاجعةً إلى أعشاشها فوق الأشجار، لحظة تنسحب الشمس تمامًا من فوق البيوت القصيرة تاركة لليل كل ما يريد من غموض، لحظة تتحرك المواشي والحمير إلى حظائرها وتحلب نساء الفلاحين مواشيها، حين لا تُسمع سوى الأبواب المغلقة ويعمٌّ الغطيط في ليل بيوتنا.
في ليلِ مثل ليلنا يمكنك أن تسمع آهات الجيران وحزنهم كما يمكنك تخمين نتيجة ابنتهم في السنة النهائية من تعليمها الجامعي بصوت "زغرودة" واحدة، يمكن أن تشم طبيخَهم إذا طبخوا، وجوعَهم إذا جاعوا، وسوف تعرف مشاكلهم الخاصة طريقها إليك، وقد تتطلع إلى حلها معهم، في بيوتنا نجتمع حول الملابس المستعملة والأحذية المهترئة وطوابير الخبز والجنازات والحرائق، حيث لا معنى هنا لكلمة اسمها "العزلة"، في بيوتنا نفرش حصيرًا، أو سجاجيد مصنعة من ملابسنا القديمة، لم نكن نعرف السجاجيد التي تأخذ شكلًا واحدًا في المصانع التي لا يعرف غيرها الجيل الجديد، لقد كانت ألوان ملابسنا من جلاليب قديمة وبيجامات وأقمشة ممزقة يعاد تمزيقها وغزلها لكي تلون السجاجيد المفروشة على الأرض بعد سنوات، فدورة حياة ملابسنا قديمًا كانت تشبه دورة حياة إنسان هذه القرى، فهي تبدأ في الأعالي لكنها تنتهي على الأرض، في الحقيقة لم يستطع أحد من أفراد أسرتي، أو من الدائرة المحيطة بنا، أن يقول إنه يعاني من الوحدة، هذه الرفاهية لم يكن لها مجال بيننا.
حين كتبتُ الشعر كنت أدرك ذلك، أي نعم، أنا ابن أسرة مستورة، لكنني أيضًا ـ وفي الوقت نفسه ـ ابن مُجتمعٍ فقير، حيث تتناسل الأشباح، مدرستي الابتدائية كانت محكمة شرعية في عقد الثلاثينيات من القرن العشرين، ثم مستشفى في عقد السبعينيات، وبسبب قربها من "أبو زعبل"، شهد المبنى سقوط عدد من شهداء حرب أكتوبر 1973، وحين التحقت بها في نهاية السبعينيات كان الشهداء قد تركوا لنا أشباحهم في كامل هيبتهم وانصرفوا، حيث ظلت دماؤهم قانية على الجدران، والشبابيك ظلت مدهونة بالأزرق الكالح، الذي يشير نوعًا ما إلى العدم.
لقد كانت الحربُ وسنوات ما بعد الحرب هي المناخ الذي تفتح وعيي عليه، وهو بالمناسبة مناخ ملائم جدًا لإنتاج شاعر، بالضبط مثلما يكون البحر مكانًا ملائمًا جدًا لإنتاج سبَّاح ماهر.
نعم، أنا ابن مُجتمعٍ فقير، ولم يكن لي أن أكتب نفسي من دون أن أحمل أشباح هؤلاء إلى قصائدي، وقد كانوا دائمًا يثيرون الأسئلة، فبسبب قصيدة لي ترجمت إلى اللغة الفرنسية بعنوان "على الضفة"، تحدثت فيها عن "ذلك الولد الصغير/ الذي لم يعد يخفي وجهه/ وهو يأكل من القمامة/ مثلما كان يفعل/ قبل أن تبدأ الحرب"، سألني ناقد عربي صديق عن توقيت كتابة هذا النص، فقلت 2008، فبدا مندهشًا كأنه اكتشف نبوءة ما، فلم يكن يفهم كيف يكتب عاقل هذا الكلام مع أنه لم تكن هناك تاريخيًا حرب بالمعنى المعروف؟... وإن كان هناك من بدأ يأكل فعلًا من القمامة بعد ثورة 25 يناير 2011، وربما زاد المشهد اليوم، وأصبح أكثر وضوحًا من دون أن نعرف الحرب بمعناها التقليدي. لقد نسي الناقد الصديق أن الحكومات في بلادنا تلطخ عريها دائمًا بالشعارات الرنانة، لتؤكِّد أنها محاصرة بالمشاكل، وتعيش في حالة حرب دائمة: "مع الجهل ـ مع البطالة ـ مع المتطرفين"... وهكذا.
الشاعر الذي تربى في بيوت مثل بيوتنا، وسمع مثلنا أنين الأمهات الحزينات، الشاعر الذي تعود أن يطل على الأمل والحنين من شرفات تشبه شرفاتنا، وفقراء يشبهون أهلنا، لا بد أن يكون قد اكتسب صفة "الرائي"، لا عن حكمة ونباهة، بل ربما من كثرة ما عاصر من هزائم، هذا الشاعر ربما أصبح قادرًا على استشراف الشارع وفهم همساته الخافتة والاستماع إلى أنينه المكظوم، لقد تربيت بطريقة تجعلني أسمع "نكات" الشارع ضد الحكومة، وأفهم دلالاتها أكثر مما أسمع الحكومة وهي تتحدث عن نفسها، وقد كان طبيعيًا أن أتوقع خروج الناس ضد نظام الرئيس الأسبق حسني مبارك، في ديوان "كل ما صنع الحداد" الصادر عام 2010، لأن الشارع الذي تربيت على صراخه كان يغلي بما فيه الكفاية، بحيث لم يستغرق سقوط نظام كامل سوى 18 يومًا فقط:
"يا مَنْ تعيشون هنا،
لا تصدٌّقوا السحاب الذي في السماء،
إنّه فراء زوجة الرئيس
بعدما علّقتْه على شمّاعة الرب،
وإذا صادفْتٌم أسدًا هاربًا
من حديقة قصْر،
كذّبوا عيونًكم
لأنه ُمجًّرد صديقِ مخلصٍ
لسعادة الرئيس...".
(ديوان "كل ما صنع الحداد" ـ صفصافة 2010).
هامش:
(*) "قطار بطيء إلى القاهرة" هو عنوان السيرة الذاتية للشاعر، نشر فصلها الأول: "شرفة تطل على شارع ضيق"، في مجلة "نزوى" العمانية 2017، ونشر فصلها الثاني: "يحلقُ عاليًا فوق البيوت"، في مجلة "إبداع" المصرية 2019. وهذا هو فصلها الثالث.