الأسود نافذة. نافذة لا تحجب شيئًا. على العكس من الإخفاء يستجمع الأسود المرئي حوله ليطلقه صوب مدى مفتوح، صوب أعالٍ لم تمس بعد.
يلتحم الأسود وروحه. روحه جسده، جسده روحه. من ينتمي إلى الأسود؟ إلى الحميم وقد رقّ، إلى الغائر وقد طفا.
ملمس الأسود إلى اللون كملمس الجفن إلى العين.
أهذه يدٌ اسودَّت! إذًا هي يد البداية يد النهاية.
ما من ستارة سوداء سوى ستارة النفس، هذه الأحجية وقد تحولت إلى صلاة صامتة، إلى رجاء إلى وداع.
الرمادي
الرمادي يتموج. هو التموج الطفيف نفسه. يبدأ من الخفّة، وقد ترك الأثقال خلفه. أهو صديق الأوقات الصعبة، أم قرين اللاأمل!
يتلاشى الرمادي، لكن على الرغم من ذلك، يسحب لنفسه حيزًا، هناك يمكث كأنما ينأى بنفسه عن كل تأثير، يحتمي ناحيًا ظلًا صامتًا ومراوحة لالتقاط النفس.
ما يتنفس ويتكسر من نسيج الرمادي هو ما يؤلف أثره الصغير، الباقي مما انقطع ولم يشفع له مأوى، مما تلاشى واندثر يستجمع الرمادي وجهة أخرى أبعدَ وأبردَ، وجهًا لاستقبال العالم كما لو أن الحياة كلها ضيفٌ على الرماد.
بطيءٌ ظهور الرمادي أعلى شرفات بحيرة العيد، ربما يكون بطيئًا وقصيرًا في آن. خلف هذا الظهور تشرق حكمة، تشرَّبها الرمادي أثناء مرور اللحم بالنار، أثناء شكوى الروح في وجه الروح، وما يعقب العبور ذاك حكمة مطوية داخل النفس كما هي حال الجرح الغائر تحت الجلد.
الرمادي هو ذاك اللون الذي يسير مرتحلًا تحت الجلد إلى أن يصل إلى الكهف مضيئًا الظلام كما لو كان الظلام كنزًا.
لكن ما من أصل ما من عائلة.
هذا الإنشاد الرمادي الحنون، هذه المرافقة الهامسة هي الأقرب من كلمة على طرف اللسان، كلمة يحس بها أي كان، لكن لا تقال أبدًا.
الأزرق
ليس للأزرق عنوان رغم أنه هو البيت هو الليل هو الحلم.
للوصول إلى ما هو أزرق تلزم المرء رحابة من رحابة الماء من سعة البحر.
إن الطمأنينة بعدما أتعبها الخوف والقلق تجد في الأزرق الملاذ.
ينصت الأزرق. يطيل النظر ويثمن الصمت الذي يتغذى على مزيج من النور والظلام، من تلاطم صامت. تعينه الرحابة الملقاة داخله وحوله ليبقى وحيدًا كما لو كان قارة للصمت المصغي.
من داخل صمته يولد الأزرق ويتكاثر من خلاله. كل شيء يسقط في مدى الأزرق، الهواء والحجر، الصباح والمساء. قد يكون الأزرق غطاء الأغنية الكاملة، حتى لو جاءت الأغنية من أرض سوداء من شوق أخضر.
يتجدد الأزرق كلما لمس كائن نفسه. كلما أصغى واستعاد ما ظنه منسيًا وبعيدًا.
الأزرق يستعيد البعيد ويغمره. وعبر تأليف الألفة يخيط رداءَ الأيام ساعة إثر أخرى.
البنفسجي
هل البنفسجي ظل أم أصل، خيال أم حقيقة.
أهو النبع الذي يكشف عن لونه، لون جريانه أمام العين، أم هو ما أثمر عن الغياب، فقد الصفة الأولى من اللون.
أليس البنفسجي لونًا صغيرًا من حيث عمره وقوامه ونسبه إلى عائلة الألوان، أليس لونًا عابرًا، أليس ضيفًا مفاجئًا وحلولًا جديدًا للتراب والماء.
يدنو البنفسجي من الهواء، يكاد أن يلمسه. البنفسجي هو أثير هذه اللمسة. ترتعش اللمسة الوشيكة.
إنه هذا الدنو المبهج، في اللحظة التي لا نعرف فيها الحاضر من الماضي، ولا نميز الوجه عن المرآة.
الأصفر
ما من مكان خاص بالأصفر، شيءٍ مكانٍ يمكن القول انه للأصفر وحده. الأصفر لا يملك ولا يضع حدودًا. غير أنه يضفي ضوءًا على الأمكنة كلها. وهذا يقتضي منه أن يكون لونًا بلا أنا خاصة، لونًا فرادته في أنه لا يريد أن يملك أي شيء.
حتى الحب الضوئي الذي يهبه للموجودات يهبه بلا انتظار رد أو مقابل. هكذا يكون للأصفر المقام الذي للشمس. هل والحال هذه، يكون الأصفر لونًا من ألوان الملائكة فرحين بالعدم المضيء اللاشيء. لكن الأصفر لون الحيرة أيضًا. وعلى الرغم من كونه لونًا لا يجد فرقًا بين الفكر والعاطفة، تراه أحيانًا راكعًا دامعًا كما لو أنه لون الندم، الندم كله.
الأبيض
ما الأبيض إزاء العين المراقبة. العين التي هي الميزان العدل.
أليس هو ذاك المزيج المذهل من القلب والألم. لا يغطي الأبيض سوى القلب سوى الألم. إنه الغطاء الوحيد الممكن. الغطاء الذي يكاد يشبه المحو.
ينظف الأبيض أعماقه الخائفة البريئة، ينظفها من البرد من الضيق من النور المخيف.
بعد ذلك ماذا يبقى من وعاء الروح؟
تبقى النظرة الملقاة وحيدة مالكة رحلات العزلة حتى أقاصي المدى، المدى الموشك على الظهور في مسرح العين.
الأبيض يصبر، يصبر ويصمت وينتظر، موحيًا بالحياد والنقاء، الحياد الوهمي، النقاء المحال. لكن الأبيض يبث أحيانًا شكواه، يبثها بصمت كما لو كانت الشكوى هي الخجل نفسه.