سارة

قص
(فريد بلكاهية)
نعم تذكرتها الآن.
شابة متوسطة القامة وبيضاء، جسد شاحب يقاوم الإرهاق والحظ العاثر في مدينة عملاقة. جمال مسجون، ذابل وبريء حد الاستسلام.
دون توقف أو لحظة تفكير فيما سوف يأتي به الزمن، هي سليلة المواجع وغدر الأيام. تقضي معظم الوقت خياطة في ورشة صغيرة مهملة تديرها سيدة أرملة تمشي بكرسي متحرك، في شارع يزدحم بالعمال الموسميين والمهاجرين المتعبين، وفي الزاوية هناك محطة بنزين وطابور من سيارات أجرة، سائقون مشوشون وغاضبون طوال الوقت.
ترفع البصر قليلا إلى الأعلى، هناك كتاب لتعليم القرآن أخذ شكلا مستطيلا به باب ضيق يفضي إلى فناء صغير وحوض تتوسط به شجرة يتيمة. وعلى بضع خطوات، بيت قديم خرب ومحل بقالة وحوانيت متجاورة وصغيرة مغلقة كلها. في نهاية الممر، حيطان مشوهة بعبارات تشتم وتتوعد كتبها مراهقون غاضبون وعابرون يائسون من كل شيء. ثم الدرب المترب المفتوح على السكة الحديدية والخلاء العاري المخيف.
وقفت عند المقهى في ركن الشارع العريض وسط ضوء الليل المنبعث من حانة تلتصق بكشك قمار ومتجر حلويات عريق يأتي إليها أثرياء أنيقون في نظرتهم استعلاء وتوجس دفين من الحشود والناس العاديين أولئك الذين يهيمون في المدينة بحثا عن صدقة أو عمل تافه، لكن هؤلاء الأثرياء الجدد سرعان ما يرمون بمشترياتهم وحاجياتهم الثمينة بداخل السيارات الفارهة ويهربون إلى بيوتهم الوديعة المسيجة محاطة بالأشجار الباسقة والأسوار المنيعة.
سقط مطر خفيف ثم توقف واكتست باللون الرمادي الغامق المحير. خفتت الموسيقى شيئا فشيئا بداخل المقهى، وتعالى إلى الخارج صوت ضحكات متقطعة، ثم خرج شبان وشابات الواحد تلو الآخر، يودعون بعضهم بعضا، رمى الشاب الذي كان يمشي في المقدمة بعقب سيجارة على الرصيف، اقترب أكثر من دراجته النارية الضخمة، نادى أحدهم ملاطفا صديقتهم سعاد.
التفتت ببطء وهي تبتسم.
ماذا؟
رفع الشاب يده ملوحا وقال لها: هل آخذك في طريقي؟
ابتسمت الشابة مرة أخرى بوداعة وأجابته: لا شكرا.
تحرك الشاب من المكان. بينما سارت سعاد هادئة بمحاذاة سياج الحديقة. ثم اختفت عن ناظري باتجاه طريق به منحدر يفضي إلى ساحة صغيرة بها أوساخ ونفايات وأطعمة قطط وكلاب.
في الطريق حل المساء الخريفي المعتاد والسماء ملطخة بالغيوم السوداء، ولمعت الأضواء فجأة في شرفات بعيدة. وأضاءت مصابيح الشارع وجهها الخائف وشعرها المبعثر. تأبطت حافظتها الصغيرة بهدوء، دوى صوت الرعد وعادت السماء تمطر بقوة وغزارة، وهبت الريح أكثر قوة هذه المرة، تتلاعب بجسدها المنهك وعقلها التائه. بين الممرات وعلى الرصيف المبلل وبين الأغصان الهرمة راحت تحدث نفسها، هل تبكين لأجلي أيتها الجدران الشاهدة أيتها الأشجار الحزينة، وفي جنبات المحلات والمتاجر لاح ظلها مثل شبح غريب وهارب على الواجهات الزجاجية.
جرحها هواء الوحدة والاحتمالات القاتلة. ألقت بدمعتها المكتومة العصية في قلب الصحراء الخالية. واكتفت بالنظر إلى السماء وتذكرت الشمس التي غابت وأمها التي لم تعد هنا في هذا العالم.
عدت إلى مشهد مساءات ديسمبر الباردة، قبل أن يفتك بي التردد وأهرب من هنا، فكرت بالمنديل الأسود، وسائق سيارة الأجرة المرح وسعاله المتقطع، وتلويحه اليد الأخيرة، كنت أتحاشى النظرة الأخيرة. لم أعد أحتمل مشهد الوداع. كانت العتمة تخترق القلب والخطوات والأيام الهشة القادمة...
مضت أيام وشهور، كانت ملامحها بدأت بالاضمحلال في ذاكرتي، حتى فوجئت برسالة في بريدي بعبارات قليلة، وثلاث صور لها، اثنتان منها بجانب نهر صغير يخترق مدينة مضيئة. والثالثة في شرفة فسيحة لقصر أثري، وبعد أيام وصلتني هدية جميلة كانت قريبة من ذوقي، ورقم هاتف جديد. لكني لم أتصل بها، أرجأت تلك الفكرة مرارا بذرائع كثيرة. في أحد الصباحات وقد بدأ الطقس يزداد حرارة هنا، أخذت الهاتف وبدأت أجرب الاتصال دون جدوى، وعاودت الأمر بعد الظهيرة وفي آخر الليل، لكن الهاتف ظل خارج الخدمة طوال الوقت.
وعند تخوم الفجر سمعت هاتفي يرن دون توقف، خبأت رأسي تحت الوسادة لكن المتصل استمر في محاولاته دون يأس، وظل الصوت يتردد في أرجاء الغرفة إلى أن أخذني التعب إلى حلم به أضواء وشرفات وكؤوس نبيذ ونهر صغير هادئ حوله أشجار وطيور أليفة وساحرة...

*كاتب من المغرب.