يوميات من غزة: أتنفس الموت!

طلعت قديح 3 سبتمبر 2024
يوميات
(Getty)

 

أخرج من الحبر كي أتنفس الموت!

 

بين ضوء اللَّهب، وعتمة المكان، نعيش نحن الساهرون في غزة.

نقترب من الله كلما لاح اللَّهب قبل سماع صوت الانفجار "يا الله"، هي الكلمة النداء الأقرب للسان كل فلسطيني في غزة، لا يهم أن يكون لسان رجل، امرأة، أو طفل، تنقبض كل الأطراف، وتلهج الألسن بذلك الاقتراب، فخير الاطمئنان الخفي ذكر الله... 

ونواسي أيام العتمة في حرب غزة 2023 وما بعدها؛ بأضواء محدودة من المحمول، نتجاوز الظلام القابع فينا منذ أوهام السطوع، لكن خيباتنا تتفاوت بين الساعات، حتى انقطع الاتصال مع الضوء، وبقينا أسرى لمجهول العتمة!

نجرُّ الحَزن في جهاته الأربع، نحدق في المكان، نستنفر لقاحات الأزمنة، تيه أسفار أرهقت أمكنة الجسد المرتحلة في الرحى!

وكأن زخارف الموت لا تكتمل إلا بالبحث عن مجهولات المكان، بانشطار ما تناثر من حمأ غزة.

الحبر تلبَّس لون السواد، كشيخ أدرك أن شيخوخته لا يأتيها الحظ إلا في زقاق واحد.

في ليل غزة؛ لا تهدأ المخيلة، فالصراع باق على أشده بين الأرض والسماء وما بينهما، صار الصراع وجه غزة الجديد، يملأ ما بين الشاطئ، وحدود اكتشاف الآخر الذي هو لي!

في نهار غزة؛ مخلوق الضوء ابتكار بدون ثمن، كي نرى بدون ثمن، ومنه نكتشف، نرى، نتبين.

تكثر رؤية الدماء بلونها الأحمر، ترى الصرخات في وجوه الرجال وصرخات النسوة اللاتي ما كان لهن أن يقطعن أيديهن! تتحسس ألم الصبية المتلهفين لرؤية سرير المشفى، فهذا يعني أن هناك سريرا يتسع للألم!

نعبر هوة الخوف بشيء من رجفة الرؤى، نمشي ونحن نرى مكان المقبرة!

حين يعاود الظلام هجومه على أية سلالة من ضوء؛ يصيبه عنفوان التوحش لممارسة تلقف ما صنع من أطواق نجاة كمنمنمات غرباء يتنفسون رغمًا عنهم من سرير خديعة النفس، بأن كل ما يحدث هو مسرح، ولا بد للستار من أن يختتم العرض الكارثة.

وتشع أضواء المسرح في عتمته، ونسمع تصفيق الأدمع الحارقة بدون توقف!

والعين الثالثة تؤَّمر رياح التَّصبر، كيف ينتهي العرض بدون الإعلان عن موعد عرض آخر!

في غزة؛ للجرس صوتان: صوت للحياة وصوت للموت، والحياة تُسابق بين الضوء والعتمة، والموت لا احتضار فيه كباقي الأمكنة، يكفي أن تعرفه في مكان واحد يقال له: غزة.

في غزة تُختبر الحياة والموت، كلاهما في الوقت نفسه، هو اختبار قاس، تغضب الطبيعة فتلفظ الميناء العائم الذي أقامته القوات البحرية الأميركية على شاطئ غزة بتكلفة مئات ملايين الدولارات! على الرغم من أن كلمة "ميناء" هي إحدى الأمنيات التي نتمنى حدوثها في غزة!

تُختبر الإنسانية - وقد سقطت- في غزة، وهنا لا نعني بها المساعدات الغذائية وغيرها مما يعين الغزيّين على محاولة التّعايش مع ظروف الحرب، فلا كهرباء ولا ماء ولا حتى أرض تتسع لأعلى كثافة سكانية في العالم! الإنسانية تعني أن يتوقف الدم السيّال المتدفق منذ أشهر طوال وباتت تقترب من إكمال عام! 

وتعني أن تتوقف أصوات الموت التي تصدح ليل نهار، وتعني أن نُصغي لصوت العقل، فلطالما غُيب هذا الصوت في دهاليز مزاجية التّغول، والتغوّل كلمة تناقض الوعي والحِلم، وهي بذلك تخرج عن دائرة المسموح والمعقول والعقلاني.

لن يكتب ولن يستطيع أحد أن يكتب ما حل بغزة سواها، ولن يمسك بيدها سواها، هناك فقط من سينظر إليها من دون أن يتدخل، سيرى كل ما يحدث، وما سيحدث، ويراقب ما يكون... إنه التاريخ.

 

كونشيرتو غزَّة


تتهامسُ الأوتار، تفكُّ جَدائلها، تُمرِّرُ أربعَة انتقالاتٍ لِعرضٍ لا عنوانَ له، تبدو ملامحهُ متوافقةً مع ستائرِ العتْمةِ، سَرجًا للعيشِ بدونَ أنْ تَتفوَّهَ أحزمةُ الزَّمنِ بكلمةٍ تستحقُ عناءَ لفظِها بتشديدِ النُّطقِ وولادةِ الهمزةِ المتكوِّرةِ على نفسها للمكان، واسمه "غزة".

1

نقطةُ البدءِ توهُّجٌ لانفتاحِ طاقةِ احتفاءٍ بالحياةِ الملوَّنة في شَكلٍ فضائيٍّ يُلامسُ أسرارَ النُّدرةِ في سَطرِ الحبِّ، وبساتينَ ربيعٍ يجتزئُ فراسةَ الفُصولِ، قبل أن تهربَ حِراسةُ الأقْفاص.

حين أتْلو سورةَ الصَّمتِ؛ تَتبسَّمُ أرضٌ لا تَعبأُ بمَصبِّ الأيامِ الثِّقال، تتعربشُ على نافذةِ الخطواتِ قرب ورقة تتقوَّس كلما تَحبَّرت بالدَّم!

والقوسُ طرفاه من غَينِ الكلام، يتناوبان في إغراقِ الفم بالثَّرثرةِ دون ارتسام غرغرةٍ في حِبر الذّاكرة.

لا انطلاقَ للضَّوء فوق رماد الأفق، والوقت يعزف في مقلتيِّ الزَّمن المُغطّى بعجينةٍ لا تنطفئ!

والجبُّ يحكي عن سهول الرِّئات؛ يحكي عن تفاصيل الأطراف الذَّاهبة إلى شتاتِ جسدها كالنخيل، وكم منه يموتُ وقوفًا!

وحنجرةٌ لها نشيجُ كحصحصةِ التَّمر في يدِ صائمٍ ينظرُ صَوب الغيابِ المرصوفِ بتصاعدِ أنفاسِ توابل الأيام.

2

الدَّمع دم، لا اسم له في صرخاتٍ يفتنُ لِحاء نبتِ الموت، كيف نلقِّن الكونَ خَتم الحياة، والمقابرُ تزيد مساحتها على أنقاضِ موتنا.

وبين المقاعد تزداد شراهةُ احتساءَ القهوةِ ونحن ننتظر نتيجة اللَّهب من دون إثمارها إلا من رؤوسنا المقطوعة.

لا خوف من الكلام أو الصمت، خوفنا من تسرِّب دَمنا، ليسقيَ غابةَ وشراهة الإبادة.

3

غزّة... تململُ الشرق والغرب نحو الجنوب، وسيقانُ الخيام باتتْ تلهث أمام أبناء الموت، وخاصرةُ الأماكن تنتظر الجنازة وشهودها إخوة يوسف.

يأتي كلّ من النَّهار واللَّيل بدون أسنان، ليمضغا أبناء الحياة في خدعةٍ بعنقٍ مُلتوٍ في حجةٍ واهيةٍ في يومٍ طافَ سبعًا من شهرِ السَّكب.

وفيه تسلقتْ الظهورَ أجنحةُ الكرابيجِ، فصارت تعتلي أسنانَ التاريخ!

وردَّد كلُّ من سمع صوت السَّابع أن الموتَ استلقى ضَحكًا، لناحيةِ الشَّرق، بدَّد ليومٍ واحدٍ عنقَ الدَّم الأحمر بدون الغرب.

لا بدّ للَّغة أن تُوسِّع حدودها، لترتطمَ بغيمِ الأسئلةِ، تَسَّاقط صورُ تصحيح الأجوبة!

عندما يستيقظ الفجر في عنقِ غزة؛ يُمَنجلُ زَرعه الأخضرَ ليتقن الإصغاءَ للماء ومسألته العبقرية في كيفية دَلقه بدون المسِّ أو التحديقِ في خطرِ فقدان الذَّاكرة.

4

كيف لي أن أتصفَّح كلَّ الوُجوهِ المُتَّشحةِ، وهي من قذفَ منْ عينيها ابتكارَ العزفِ الغامضِ وانكشافِ هِرم الأوركسترا المتحركةِ لكونشرتو غزة.

وأسماعُ الضَّحايا تتنسّم يومَ احتضانِ الورقِ لحبرٍ مُهاجر إلى السماء!

وغزَّةُ تنامُ في سرير اللّهب، والهَبوُ من حناجرِ الموت، يوقظُ أحلامَ الحواراتِ المتأتئة على أطراف أفهامها.

ينبتُ فضاءٌ سابحٌ على رفَّة جَذرٍ بدون سِقاء، متى ينزرعُ الهواء دون غربال!

متى يتعلمُ الطينُ أن ارتطامه بطينٍ آخرَ لا يعني سوى سقوطِ طينٍ لا غير، لن يتحوّل إلى نار أو شيء من لهب!

غزَّة...

تلفُّتُ القلبِ لذهول البحر لِتخثُّر الملح!

فجيعةُ التَّاريخ أمام صدر الخنادقِ وأضغاث الفنادقِ

كلاهما صِمام أمان لانهدامِ الذَّات

وفنُّ الوصول الخاطئ

حين أقرأ غزَّة؛ أرى كل الأمكنة تُسافر للاغترابِ، تفتحُ زوايا الحقيقة، حيث تَقاسُم النقائض وتَفاوتُ النقائص في قائمة هواجسٍ لا تنتهي.

لماذا علينا أن ننبشَ كل العاداتِ والذاكرةِ وطوامسِ الحِرفة، وعماوةِ الفصلِ العنصري، حتى تصل إلى حدودِ العقلِ والحقيقةِ والتاريخ.

نحن الغائرونَ في التُّراب، العالمونَ بمواطنِ خطواتِ الأثرِ الحميد، نعزفُ من دونَ أوتارٍ؛ سرَّ الجِسر ما بين التّراب والسَّماء!