التوحيد الصوفيّ بين الشهود والوجود: نحو أيديولوجيا مُعارِضَة

حسام أبو حامد 4 أكتوبر 2018
آراء
لوحة للفنان العراقي هاشم حنون

كرّس الإسلام الرسمي هوّة أنطولوجية (وجودية) لا يمكن تجاوزها بين الله والإنسان، وكان بلوغ الحقيقة مشروطا بالشعائر الدينية وقيودها الصارمة، أما دار البقاء، فليس بالإمكان بلوغها فوزا دون المرور بدار الفناء عملا وتعبدا.

وعلى أساس القطيعة المطلقة بين الله والإنسان، رسمت أيديولوجيا الخلافة الإسلامية (منذ الأمويين) صورة العلاقة بينها وبين المجتمع لتكرّس انفصالا بين خليفة الله والجماهير، وفرضت سلطتها المطلقة على المجتمع باسم الإرادة الإلهية، وبوصفها ممثلا للشريعة، فحكمت المجتمع بجبرية استمدتها من قضاء الله، واستبداد الحاكم.

مرجعيات التصوف

لم يكن للتجربة الصوفية الإسلامية، بوصفها أيديولوجيا اجتماعية معارضة لأيديولوجيا السلطة، أن تتجاوز تلك الهوة من أجل بلوغ اللامتناهي والاندماج به على الطريقة المسيحية (تجانس الطبيعة)، أو البرهمية البوذية (الرجوع إلى حال الوحدانية الخالصة). وإذا كانت الغاية من اليوغا الهندية عزل الذات، والتوصل إلى تحقيق وجود دائم خارج الزمان والمكان، لا الاتحاد بالله، فإن غاية المتصوف المسلم هي بلوغ حالة من الفناء الذاتي، استعدادا لرجوعه إلى حالته الأصلية من البقاء الأبدي الذي سلبه إياه حدوثه في الزمان.

بداية، نضع يدنا هنا على خصوصية التصوّف الإسلامي الذي كان عليه مراعاة محاذير الخروج عن الفهم المُكرّس اجتماعيا وسياسيا للقرآن والسنة، وفي الوقت نفسه أن يدفع بعض رجالاته ثمنا باهظا لهذا الخروج.

طويلا يدور التصوف الإسلامي في دائرة المرجعية الإسلامية المركزية، أي النص. الذكر، والصبر، والزهد، والحب الإلهي، وتأمل الذات الإلهية... تلك وغيرها، نتائج منطقية لتشديد القرآن على الجانب الأخروي، أما تلمس تأثيرات غير إسلامية فيجوز الحديث عنها فيما يتصل بنزعة الصوفية إلى تجاوز الشريعة لمعرفة الحقيقة، إلى جانب الاستغناء عن النبي، وسيلة الوحي الأولى، بداعي رغبة المؤمن بالاتصال المباشر مع الله ومناجاته. مع ذلك استوعب التصوف الإسلامي تلك التأثيرات من خلال واقعه الاجتماعي السياسي الذي نما فيه وطبعها بطابعه الخاص.

ونلمس هذا الاستغناء الأولي عن النبي عند رابعة العدوية التي أجابت النبي محمد حين أتاها في المنام يسألها: "أتحبينني؟" فقالت: "وهل ثمة من لا يحبك! لكن حبي لله تعالى قد ملأ قلبي إلى حد لم يجعل هناك مكانا لمحبة غيره أو كراهيته". لكن مع ابن عربي، يبرز النبيّ ماهية مجردة سابقة لوجود الزمان، لا شخصية تاريخية تولّت مهمّة التبليغ في زمان ومكان محددين.

مقدمات التصوّف النظري

تمسك الحسن البصري (642- 728م) بمفهوم زهدي للحياة الدينية الفاضلة، تقوم على التقوى والتقشف، وتَرَك لأتباعه منهجا يقوم على التفكّر، ومحاسبة النفس، والوفاق التام بين الإرادة الإلهية والإرادة الإنسانية، للوصول إلى حالة الرضى الداخلي التام.

ازداد أتباع حركة الزهد المنطلقة من البصرة، التي كانت في أصلها بمنزلة رد فعل سلبي على الصراع الاجتماعي السياسي المتعاظم منذ مقتل الخليفة الثالث، عبّرت عن رغبة (وحاجة أيضا) في اعتزال هذا الصراع، وهجر التعامل مع شؤون الحياة اليومية. مع تلك الرغبة، تغيرت النظرة إلى مفهومي الحياة الدنيا والآخرة، ليشترط الزهاد في صحة زهدهم الإمعان في كره الدنيا، التي كان حبّها أكبر الخطايا، فمن ابتلي بحب أفخاذ النساء لن يفلح، بتعبير سفيان الثوري.

نتيجة هذا الموقف النظري العام اندفع الزهاد نحو اجتهادات خاصة في تفسير القرآن والسنة، وفضّلوا العبادات الخالصة على النشاط الاجتماعي، لتشكّل هذه الاجتهادات الزهدية الأولى نواة منهج التأويل الصوفي.

من الزهد إلى التصوف

أصبحت حركة الزهد رمزا لمعارضة النظام الاجتماعي السياسي القائم، ليتطور الزهد إلى موقف فكري معارض بوجهين: ديني عبّر عنه التأويل، وسياسي تمثّل في استنكار الظلم والاستبداد. مع ذلك، حصل تداخل بين الزهد والتصوف لمئة عام ما بين القرنين الأول والثاني الهجريين، ورغم استخدام تعابير صوفي وصوفية ونحوهما (يذهب السراج الطوسي في "اللمع" إلى أن اسم صوفي عرف أيام الحسن البصري) فإن معناه لم يتعدَ المعنى الذي يَدلّ عليه مصطلح الزهد بخصائصه المعروفة، قبل أن يتبلور التصوف بمعناه الاصطلاحي النظري، فأطلق لقب صوفي على شخصيات لم تضف شيئا الى خصائص الزهد التقليدي يشير إلى تطويره نوعيا باتجاه التصوف النظري الفلسفي (جابر بن حيان، أبي هاشم الكوفي، عبد الواحد بن زيد).

لقد غابت عن الزهد التقليدي رؤية اجتماعية، لاستغراقه في الطقوس الدينية في أجواء اغتراب وعزلة. لكن مع القرن الثامن الميلادي ستبدأ الطبيعة السكونية لحركة الزهد بالتحرك الداخلي، لتبرز أمامنا نماذج عدّة، كداوود الطائي، وعبد الله بن المبارك، وإبراهيم البلخي، الذين سيكون مسلكهم وآراؤهم مقدمة لمفهوم الولاية الصوفية، التي حاولت انتزاع الزعامة الدينية من بين يَدَي دولة الخلافة.

مع نهاية القرن الثامن الميلادي سينتقل مركز الحركة الصوفية من البصرة إلى بغداد، وعلى يد شخصيات عدّة ستتبلور مفاهيم صوفية، كمفهوم الحب الإلهي عند رابعة العدوية، ومفهوم المعرفة لدى الكرخي.  

الأخلاق الصوفية:

العشق ومجاهدة النفس

إن الأساس النظري للتصوف، كحركة فلسفية، يبدأ من فكرة الوصول إلى المعرفة مباشرة عن طريق المشاهدة، أو الكشف، أو الإشراق، أو الحَدْس، وهو ما تسمّيه الصوفية مجاهدة النفس. على هذا الأصل السلوكي، مجاهدة النفس، بدأت الصلة الفعلية بين الزهد والتصوف، إلا أن التصوف، مدفوعا بالحاجة إلى بعث شيء من الذاتية في العبادة الشكلية، انطلق متجاوزا الزهد، محلقا في أجواء التجربة الروحية الفسيحة.

يصف السرّي السقطي (من القرن التاسع الميلادي) حاله فيقول:

لا في النهار ولا في الليل لي فرح / فما أبالي أطال الليل أم قصرا

لأنني طول الليل هائم دَنِف / وبالنهار أقاسي الهمّ والفكرا

ولقّب الحارث بن أسد بالمحاسبي (ت 857 م) لشدة محاسبته لنفسه، ورأى أن العمل بحركات القلوب، في مطالعات الغيوب، أشرف من العمل بالجوارح. ومع أنه لم ينكر قيمة الشعائر الظاهرة في العبادة الدينية، إلا أنه شدّدَ على الشعور الداخلي في الإيمان، الذي متى اقترن بروح الطاعة والتفاني، انتهى صاحبه إلى حال روحية تتناسب مع نقاوة هذا الإيمان.

وكانت رابعة العدوية (717- 796م) السبّاقة إلى الترويج لفكرة الحب الإلهي المغايرة لعرف إسلامي يرى أن الإنسان لا يقوى على الاقتراب من الله إلا بروح التعبد والرهبة. فينسب إليها قولها: "اللهم إن كنت أعبدك مخافة النار فأحرقني فيها، وإن كنت أعبدك رغبة في الجنة فأبعدني عنها، وإن كنت أعبدك لذاتك فلا تصرف عنّي جمالك السرمدي".

مفهوم التوحيد عند الجنيد

فتح القول بالظاهر والباطن للصوفية طريق معارضة الفكر الديني الرسمي، عقيدة وشريعة، فهناك للنص ظاهر تؤديه الدلالة اللغوية المباشرة، وباطن (حقيقته) لا يعرفه إلا الراسخون في العلم. مضمون الظاهر هو الشريعة، ومضمون الباطن هو الحقيقة.

يرى أبو القاسم الجنيد (القرن التاسع الميلادي) أن نقطة انطلاق التصوف هي الميثاق الذي عقده الله مع الإنسان قبل خلقه له (سورة الأعراف: 171)، وغاية الإنسان الروحية هي إدراكه التام لوجوده من حيث هو فكرة في الذهن الإلهي قبل خلقه في الزمان، وللفرق الشاسع بين ماهيته وبين الذات الإلهية. أما دليل المعرفة الحقّة للتوحيد ولكل معرفة صحيحة للذات الإلهية فهو إفرادٌ للأزلي عن العرضي الزائل، بذلك يترقى الإنسان ما وراء أحكام الشريعة ويقترب من الله، ويعود المخلوق إلى وضعه السابق كفكرة في الذهن الإلهي، فيغتني عن نفسه ويحيا في الله، متحولا هباء، يُقتل ويُدفن، ثم يعود بعد ذلك إلى الحياة إذا شاء الله.

يلقى توحيد الجنيد قبولا لدى خصوم الصوفية لتماشيه مع السنة، فهو توحيد يقوم على إفراد الموحد بتحقيق وحدانيته بكمال أحديته، وبأنه الواحد الذي لم يلد ولم يولد، وبنفي الأنداد والأشباه وما عبد من دونه بلا تشبيه، ولا تصوير، ولا تمثيل (ليس كمثله شيء...). وهو توحيد يخرج الصوفي من ضيق الرسوم الزمانية إلى سعة فناء السرمدية، بفنائه عن الإرادة وعما سوى الله بذهاب الحس والحركة، مع ثقة كاملة بأن الله يقوم للعبد بكل شيء، إنه الفناء عن السوى من حيث الإرادة ومن حيث الشهود.

الفناء عند البسطامي

اعترت حالة الفناء بعض السالكين ليغيب أحدهم، كما يشرح ابن تيمية، عن شهود نفسه وغيره من المخلوقات، وقد يسمّون هذا اصطلاما وفناء عن شهود تلك المخلوقات، حتى يتوهم أحدهم أن الأشياء قد فنيت، وأن نفسه قد فنيت، وأنه الله، وأن الوجود هو الله.

يفتّش أبو يزيد البسطامي (القرن التاسع) عن الله، حتى إذا بلغ العرش وجده خاليا، فيقول "وهكذا ألقيت بنفسي عليه وقلت: ربي أين أجدك؟ فارتفعت الحجب... فإذا هو أنا الذي كنت أنشد، وليس آخر سواي". تعني حالة الفناء الغالبة على البسطامي انجذاب العارف إلى الله انجذابا تاما، بحيث لا يعود يشهد غيره تعالى فلا ينطق العارف عن ذاته وإنما عما يشاهده، أي الله. فما يميز فناء البسطامي هو قوله بسقوط كل ما سوى الله شهودا، فلا يشاهد العارف سوى حقيقة واحدة التي هي الله، ولا يشاهد نفسه التي تتلاشى في مشهوده "الحق مرآة نفسي، لأنه هو الذي يتكلم بلساني، أما أنا فقد فنيت".

ولعله من الخطأ أن ننسب الى البسطامي قولا بوحدة الوجود، الذي لم يعرفه التصوف الإسلامي قبل ابن عربي، فهناك فرق بين القول: فني عن كل شيء فلم يعد يستشعر وجودا سوى وجود الله (البسطامي) وبين القول بحقيقة وجودية واحدة تسمى تارة الله وتارة أخرى تسمى العالم (ابن عربي). فسقف التصوف عند البسطامي هو وحدة الشهود، أي فناء العبد، وبقاؤه في الحق، وشهود كل شيء به، وهي تجربة وجدانية داخلية لا يمكن نقلها للغير، وهي لا تدوم (يطلب الحلاج من الناس أن يقتلوه لكي يضمن دواما لهذه التجربة: اقتلوني يا ثقاتي/ إن في قتلي حياتي).

رسم البسطامي بشطحاته الصوفية عوالم السماوات والأرض، ومنحها بعدا بشريا يروي تواصله مع الخالق، وتوجهه إليه محبة وعشقا، لا طمعا ولا رهبة، لكن أهميته لا تكمن في شطحاته، وإنما في كونه أوّل من استخدم كلمة الفناء بمعناها الصوفي الدقيق، الذي يعني محو النفس الإنسانية، وآثارها، وصفاتها.

جرأة البسطامي في القرن التاسع وشطحاته (نحو "سبحاني ما أعظم شاني" و"إني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدوني") اضطرته إلى الدفاع عن نفسه بادعاء الجنون، ليفلت من العقاب، لكن ثبوت سلامة عقل الحجاج وثوريته أودتا بحياته.

الحلاج: عين الجمع

معنى الحلول (Pantheism) امتصاص المبدأ في تجلِّياته بحيث يصبح الخالق أسير مخلوقاته؛ فهي هو من كل وجه، وهو هي من كل وجه.

مبكرا توجس أستاذه الجنيد من تطرّفه، وغرابة أطواره، وسوء فهمه للسرّ الصوفي، وتقاعسه عن أداء الفرائض، وكان ذلك سببا لفراق الرجلين. على إثرها، تخلى حسين بن منصور الحلاج (858-922م) عن حياة العزلة الصوفية، ليقوم بمهمة الوعظ والإرشاد الاجتماعي، ليتّضح لديه أكثر فأكثر شعور الاتحاد بالله الذي لا يستتبع فناء الذات الكلي، كما عند البسطامي، بل تسامٍ بهيج تتصل فيه الذات بالمحبوب الحقيقي. هذه الحالة من الترابط الشخصي بين الأنا والأنت يسمّيها الحلاج "عين الجمع"، حيث ينطق الله بلسان الصوفي، ويكتب بيده، فيقول الحلاج: أنا الحق والحق للحق حق/ لابس ذاته ما ثم فرق

وكذلك: أنت بين الشغاف والقلب يجري/ مثل جري الدموع من أجفاني

وتحل الضمير جوف فؤادي/ كحلول الأرواح في الأبدان

وأيضا: مزجت روحك في روحي كما/ تمزج الخمرة بالماء الزلال

اتهامه بادعاء الألوهية، وبسقوط التكاليف الشرعية عن المؤمن الصوفي، والتحريض على العصيان، كانت كافية لإدانته، فجلد، وصلب، وجزّت رأسه، ومثّل به، ليحرق، ويذر رماده فوق نهر دجلة.

انتصر أبو الحسن الأشعري (874- 936م) لمذهب أهل السنة والجماعة الكلامي ضد غلو أصحاب الشطح، ليظهر تصوف "إصلاحي" قاده كل من القشيري، والهروي، وأبو حامد الغزالي، انطلاقا من القرن العاشر الميلادي. لكن غاية التصوف بردم الهوة بين الله والوجود تبلغ ذروتها مع وحدة الوجود عند ابن عربي.

الخروج من المأزق:

ابن عربي في وحدة الوجود

تقيدت المذاهب الصوفية بفكرة التوحيد، ولم تستطع سوى خروج غير مباشر عنها، مما أوقعها في تناقض يخرجها إما من دائرة الإسلام، أو من التجربة الصوفية ذاتها، تجربةً وجوديةً معرفيةً، وكأيديولوجيا معارضة. نجم ذلك عن إصرار تلك المذاهب على الجمع بين نقيضين في وقت واحد، الوحدة المطلقة للذات الإلهية من جهة والاتصال العرفاني الحَدْسي بالذات الإلهية من جهة ثانية. حصيلة ذلك كانت إفراغ التوحيد الكلاسيكي من مضمونه، دون قدرة على الخروج منه كأيديولوجيا مكرّسة رسميا.

تنبه محيي الدين بن عربي (1164- 1240م) لهذا المأزق الصوفي فقال: "وبالجملة فالقلوب به هائمة والعقول فيه حائرة، يريد العارفون أن يفصلوه تعالى بالكلِّية عن العالم من شدة التنزيه فلا يقدرون، ويريدون أن يجعلوه عين العالم من شدة القرب فلا يتحقق لهم؛ فهم على الدوام متحيِّرون: فتارة يقولون: هو، وتارة يقولون: ما هو، وتارة يقولون: هو ما هو".

للخروج من المأزق يذهب ابن عربي للقول بمفهومه الجديد للتوحيد المعروف بوحدة الوجود، فما دام لا يوجد طرفان، فلا يوجد اتصال ولا انفصال، لأنه ليس من وجود حقيقي سوى واحد هو الله، أراد الواحد أن يتجلى بوجود العالم عن طريق أسمائه وصفاته (لا عن طريق ذاته)، وكان الإنسان أول تجليات الله يرى فيها نفسه فيعرف نفسه بها، وبها يُعرف.

كانت الخليقة قائمة أصلا في الذهن الإلهي كنماذج أولية (أعيان ثابتة) لكن الله الذي كان مخفيا في الأصل أراد أن يعرف (يكشف عن ذاته) فأبدع الخليقة بأسرها. فالتعدد يدخل على الله من خلال صفاته أو تعيناته المتعددة، فالله في حد ذاته هو الحق، أما إذا نظرنا إليه، من خلال صفاته وتجلياتها في الذوات الممكنة، فهو الخلق.

بداية كان الإنسان مرآة غير مجلوة لا تعكس وجود الله. لاحقا، أصبح وجود الله وجودا صافيا، لأن المرآة أصبحت مجلوة صافية حين قبل الإنسان/ المرآة الفيض الإلهي أي التخلي الدائم. وهذا الوجود ابتداء من الإنسان ليس سوى شكل من أشكال وجود الله. وصلة الله بالعالم هي صلة أسمائه وصفاته بذاته، لأن الموجودات تعبّر عن الوجود الخارجي لأسمائه وصفاته.

إذًا، ليس ثمة وجودان: وجود الله والعالم، بل وجود واحد وحقيقة واحدة، وجود الله وحقيقته، وكل ما عدا ذلك تجلياتهما. لكن وجود العالم والإنسان هو غاية الله، بسبب افتقار أسمائه إليهما فوجودهما وجود ضروري، والذات البشرية أسمى تجليات الألوهية، ويدعوها الكلمة الآدمية أو الإنسان الكامل الذي هو علة وجود العالم وعلة بقائه أيضا.

الإنسان عند ابن عربي

وضع ابن عربي حلّا يقوم على الفصل بين ذات الله من جهة، وأسمائه وصفاته من جهة أخرى، لكن ذلك أبقى على تعالي الذات المطلق عن العالم، فتجليات الله في الوجود هي تجليات الأسماء والصفات لا تجليات ذاته. وهنا يُبقي ابن عربي على الفصل بين الله والعالم، التي سعت التجربة الصوفية أساسا إلى إثبات أن هذه العلاقة مع الله هي علاقة مباشرة. رغم هذه الاستحالة الجديدة عند ابن عربي (تصور وجود فاصل بين الذات وبين أسمائها وصفاتها حفاظا على التنزيه المطلق، مع التأكيد على خرقه) يصل التصوف مع ابن عربي إلى غايته القصوى.

عقدت الصوفية صلة معرفية مباشرة بين الله والإنسان، مخترقة بذلك فكرة التنزيه المطلق التي تمنع أي اتصال بين الله (مطلق) والإنسان (محدود)، ثم تجاوزت الصلة المعرفية إلى الصلة الوجودية، فقالت بلقاء الإنسان مع الله بالحضور المباشر، ورغم اشتراط تجرد الإنسان من العلائق المادية، فلم يغير هذا التجرد من كونه إنسانا يمشي على الأرض.

يمنح ابن عربي الإنسان وضعا جديدا، فيصبح أصل العالم، محققا الغاية النهائية من التصوف النظري عبر تاريخه الطويل الحافل بالمجاهدة القاسية، وهي الارتقاء بالإنسان عن الوجود المادي (بدون إنكار ماديته)، ليتصل بالله، ويصبح صورته، ووجهه، ونسخة عنه، ومرآة لوجوده في العالم.

هكذا تنتقل قضية الإنسان من مجال الواقع إلى الفكر تحت عنوان أيديولوجيا الفئات المسحوقة من قبل النظام الاجتماعي السياسي الاستبدادي المطلق، لكن الاستغراق في الميتافيزيقا، وتمويه الأفكار بستار ديني خشية الاضطهاد، لم يدفع بتلك الأيديولوجيا إلى نتائجها القصوى في تحقيق التطابق بين قضية الإنسان في الواقع الاجتماعي وبين صورتها في العملية الفكرية.

كلمات مفتاحية

ابن تيمية ابن عربي التصوف الحالة الصوفيّة السنة الصوفية