التغيير: من أين يأتي؟

شكري المبخوت 19 فبراير 2018
آراء
لوحة الفنان أبو زيدون حنوش

كلّما تأمّلنا واقعنا العربي، بموضوعيّة، لا نجد من أجناس القول المعتّق الذي يليق به إلاّ الرثاء والتفجّع. المشكلة أنّ الأمر يتجاوز الانفعال الذي يقتضيه الشعر (فهو لم يعد، على كلّ حال، ديوان العرب). والوقائع كما يطلع بها علينا هذا أو ذاك من الدارسين المدقّقين المحقّقين، كلّ في اختصاصه، عنيدة صارخة صادمة دامغة.

يقول لنا رجل الاجتماع إنّ العرب الذين يعيشون تحت خطّ الفقر بلغوا من الملايين الثلاثين وإنّ الفقر الكافر ينمو في عالمنا العربي بمعدّلات مخجلة.

يقول لنا رجل الاقتصاد، متجهّما، إنّ خمس دول عربيّة تتصدّر قائمة الدول العشر الأكثر فسادا في المعمورة ولهذا تكلفة تقدّر بتريليون دولار.

يقول لنا الخبير التربوي إنّ حوالي خمسة ملايين طفل عربيّ لم يلتحقوا بالمدارس في السنة المنقضية وأنّ سبعة وخمسين مليون مواطن (لنحمل العبارة على المجاز) أمّيّون.

يقول لنا المختصّون في الجغرافيا السياسيّة إنّ ثلاثة أرباع اللاّجئين في العالم من بني جلدتنا وما يقارب هذه النسبة هم ضحايا الحروب ومنهم نصف عدد الذين يتعرّضون إلى الهجمات الإرهابيّة.

ولنا أن نواصل التذكير بمفردات جحيم الدم والفقر والجهل والعنف والإرهاب في شتّى المجالات ولكنّ ذلك لن يزيد مراثينا إلاّ طولا. ويتردّد السؤال ثمّ ماذا؟ هل نحن موعودون بالخروج من التاريخ الذي لم نعرف كيف نكون داخله وما زلنا نمانع في القبول بمقتضيات الإنسانيّة الجديدة؟

"لا بدّ لهذي الأمّة من درس في التخريب!" صرخ مظفّر النوّاب يوما. ولكن هل من خراب بعد هذا الخراب الشامل البادي للعيان؟

لسنا نشكّك في هذه المعطيات الصادمة، وأنّى لنا ذلك، ولكنّ الثابت أنّ مجتمعاتنا عجزت عن أن تصوغ المؤسّسات والنظم الكفيلة بالتصرّف العقلاني في الموارد والتخطيط الرصين ظرفيّا واستراتيجيّا والعمل المستمرّ لتحقيق الأهداف الجزئيّة والكليّة للتنمية. ولا يحتاج هذا إلى كثير من الاستدلال. وهذا جوهر عطالتنا التاريخيّة. لسنا نبحث في الأسباب ولكنّنا نحب الإشارة إلى أمر أساسيّ. ففي غياب المؤسّسات المعبّرة عن الإرادة الشعبيّة العاملة على تحويل الرغبات إلى أفعال تظلّ مجتمعاتنا قائمة على نخبها ومدى وعيها ونضجها ونجاعتها. فممّا أثبته الربيع العربيّ أنّ التغيير الجماهيريّ، استنادا إلى مبدأ من الأسفل إلى الأعلى، كان تجربة أكّدت مرّة أخرى  أنّ المسألة ترتبط بالنخب.

فكلّما كانت هذه النخب حاملة لتصوّرات حديثة مستوعبة للواقع على قدر استيعاب مواصفات البناء الجديد الذي تتّجه نحوه الإنسانيّة قاطبة أمكن لها أن تجد أقلّ الحلول تهافتا. ولكنّها نخب تحتاج إلى أن تكون في موقع القرار على أساس الجرأة والكفاءة. فيبدو أنّ التغيير لا يكون إلاّ إذا وجد له أنصارا داخل جهاز الحكم.

ليس علينا إلاّ أن نتتبّع عوامل التغيير واقعيّا كيف نشأت؟ وكيف نجحت؟ فتعليم المرأة ودخولها مجال الحياة الاجتماعيّة مثلا لم يكن يوما مطلبا شعبيّا بل هو ممّا اقتضته التحوّلات الاقتصاديّة الرأسماليّة (الحاجة إلى قوّة العمل) وتبدّل النسيج الاجتماعيّ وتحوّل النظرة الثقافيّة العامّة عند غيرنا من الشعوب المهيمنة فصاغت بعض النخب مطلب تحرير المرأة. وقس على ذلك تأسيس التعليم الحديث وتجاوز ضيق التعليم الدينيّ أو الصحّة ومنظومتها الحديثة.

فوراء هذا كلّه تصوّرات وتخطيط وتنفيذ مرتبط بالدولة ونخبها رغم ما نشاهده اليوم ضمن منظومة ليبيراليّة متوحّشة من نزعة إلى خصخصة قطاعات استراتيجيّة كالتعليم والصحّة وبقيّة الخدمات الاجتماعيّة.     

نسمع اليوم، هنا وهناك، نقدا للنخب التي لم تقم بدورها، وعودة إلى مفاهيم الشعب والجماهير أحيتها روح الاحتجاج على مختلف الأوضاع. بيد أنّ المفارقة في هذا تكمن في أنّ أفضل ما أنتجته مجتمعاتنا هو هذه النخب تحديدا. ومن هذه المفارقة تتولّد مفارقة أخرى وثيقة الصلة بها إذ يرتبط التغيير بموقع هذه النخب في جهاز الدولة.

بقي أن نشير إلى تضييق ضمني في مفهوم النخب وما تضمّه من أصناف وأفراد. إننّا نتحدّث عن كتلة متجانسة تتميّز بالوعي بمقتضيات التاريخ وتتمتّع بإدراك مستلزمات الإنسانيّة الجديدة ومواصفات المجتمعات المقبولة عالميّا وتتحلّى بروح التجديد والجرأة.

سيسمّي البعض هذا الأسلوب في التغيير نخبويّا، وسيراه البعض الآخر يعقوبيّا وسيكشف البعض الثالث مخالفته لإرادة الشعوب وسيعتبره البعض الخامس تحديثا منقوصا مشوّها... فليكن! لقد بلغنا الحضيض ولا حاجة بنا إلى ألعاب التسمية والبلاغة الغثّة.