جاك دريدا المتمنِّع على الفكر العربي: حوار الاستحالة الممكنة

فريد الزاهي 1 مايو 2018
آراء
جاك دريدا

 

 

 

 

بالرغم من أن جاك دريدا يكتب وينشر منذ بداية الستينيات، فقد كان فكره من التعقيد بحيث إن العرب المتابعين لجديد الفكر الفرنسي، تلافوه ليهتموا بأقل المفكرين تعقيدا كجيرار جنيت وبعض كتابات رولان بارث ومشيل فوكو وتزفيتان تودوروف، وبشكل أقل مارسلان بلينيي وجوليا كريستيفا.  والحقيقة أن حكاية العرب مع جاك دريدا من التعقيد والتشابك بحيث تستحق الحكي والتحليل، من ناحية، وتتصل بسيرة ارتباط الفكر العربي بالفكر الفرنسي في طلائعيته الفكرية والتنظيرية من جهة، كما تتصل بمآسي هذا الارتباط ومطباته وكبواته.

وبما أن هذه الحكاية تدخل في تاريخ الفكر والثقافة العربيين المعاصر، الذي لم يتنطع بعد لكتابته أحد، فإن التطرق إليها، كما تطرقنا من قبلها لحكاية ريجيس دوبريه، سيمكننا انطلاقا من اندراجنا الذاتي في نسيجها، ومساهمتنا بهذا الشكل أو ذاك في نسجها، من حكيها كما لو كانت مذكرات تحليلية.

دريدا والخطيبي، التفاعل النِّدّي

كان لقاء الخطيبي بجاك دريدا، كما برولان بارث، لقاء فكريا وشخصيا. والحقيقة أن علاقة مفكرنا المغربي بدريدا كانت أعمق، لمجموعة من العوامل الذاتية والفكرية التي ترتبط بتكوينهما الفلسفي ولكون المفاهيم الدريدية قد وجدت صدى مباشرا في كتابات الخطيبي.  فالخطيبي ورولان بارث تواصلا بالأساس من خلال علاقتهما بهذا المفكر الشاب الذي يعيد النظر في تاريخ الفكر بكامله من خلال مفاهيم ومسعى نظري تفكيكي، لا يقتصر على الفلسفة وتاريخها، ولا على تاريخ الفكر الغربي وإنما يتجاوز ذلك إلى الأدب والأنثربولوجيا والترجمة وقضايا قَلَّ أن يتطرق لها آخرون كالدين والعنف والضيافة والترجمة.

نجد صدى لأفكار جاك دريدا في كتابات الخطيبي بدءً من أواسط الستينيات، غير أن هذا التواشج المفاهيمي سيظهر بشكل أوضح في مقاله المؤسس: المغرب الكبير أفقا للفكر، حيث سوف يغدو مفهوم الاختلاف مسبارا تحليليا لتفكيك علاقة الفكر "العربي" بالذات والهوية والغيرية... بعدما استثمر الخطيبي سيميولوجيا بارث، ممزوجة بنفحات ديريدية في كتابه الاسم العربي الجريح الذي ترجمه محمد بنيس للعربية (1980، دار العودة).  ويبدو أن الخطيبي انزلق من البارثية الذكية إلى المفاهيمية الديريدية انطلاقا من تعقد القضايا التي يطرقها، ولأنه تأكد أن رولان بارث، رغم انفتاحه الفكري، ظل منغلقا في تمركز فكري وعرقي تؤكده تجربته الخائبة في المغرب. فالخطيبي كان قد عرف بارث منذ الستينيات وصاحبه وكان زميلا له بكلية الآداب بالرباط حين كان يدرّس بها سنة 1970. طبعا لم يكن بارث حديث المعرفة بالعالم العربي، فقد كانت أولى علاقاته المباشرة به في 1949، حين قام بالتدريس في الإسكندرية. وهناك صادف جوليان غريماس صاحب "السرديات" المشهورة، الذي تعرّف من خلاله على كتابات سوسور التي ستمنح نظريته منحى لسانيا وبنيويا.

حين أصدر الخطيبي كتابه "الاسم العربي الجريح"، كتب له بارث مقدمة جاء فيها: "إنني والخطيبي، نهتم بأشياء واحدة، بالصور والعلامات والآثار والحروف. وفي الوقت نفسه يعلمني الخطيبي جديداً، إذ يخلخل معرفتي، لأنه يغير مكان هذه الأشكال، كما أراها ويأخذني بعيداً عن ذاتي، إلى أرضه هو، في حين أحس كأني في الطرف الأقصى من نفسي... وما يسائله الخطيبي هو إنسان "شعبي" كلية، هذا الذي لا يتكلم إلا بالدلالات الخاصة به، ويجد نفسه دائما مغدورا من قبل الآخرين، سواء أكان ناطقا (أي الفلكلوريين) أم مجرد منسي بكل بساطة (أي المثقفين). إن أصالة الخطيبي ساطعة بعلاقته بعرقه. وصوته متميز حتما، ومن ثم فهو متفرد حتما، لأن ما يقترحه بشكل مفارق هو استرجاع الهوية والاختلاف في آن...". يعترف بارث بما يقدمه له الخطيبي، لأنه (مثل مشيل فوكو الذي درّس سنة 1969 بتونس) استُدعي هو أيضا للتدريس في الرباط. غير أن العام كان عام مواجهات بين الطلبة والنظام المغربي، فكان تصور بارث عن مقامه بالمغرب تصورا سلبيا، لم يستفد فيه إلا من علاقته الذاتية برفيقه في هذه الفترة بطنجة.

ولقد أحس بارث بتوافقه مع الخطيبي في استلهام فكر الاختلاف لدى جاك دريدا واعترف بذلك وكأنه يحس بانزلاق الخطيبي المستمر نحو فكر يمنحه التحرر الفكري اللازم: "وهنا يمكن لغربي (مثلي) أن يتعلم شيئا من الخطيبي.إننا لا نستطيع أن نفعل ما يفعله. ليس أساسنا اللغوي واحدا: ومع ذلك يمكن أن نأخذ عنه درسا في الاستقلال، مثلا.إننا واعون مؤكدا بانغلاقنا الإيديولوجي، ومنا من يبحث عن بعض أفكار الاختلاف وهم يسائلون المطلق الآخر، الشرق (أعني:الزن، التاو، البوذية)، لكن ما يجب أن نتعلمه ليس هو استظهار نموذج (تفرق اللغة بيننا فيه تماما)، بل أن نكتشف لأنفسنا لغة "متعددة المنطقة"، واختلافات سيقوض مزيجها الاندماجية المرعبة (لأنها تاريخيا) بعيدة القدم للأنا الغربي"

يكمن الفارق هنا بين بارث ودريدا في أن الأول مفكر متحرر يحس بتمركزيته العرقية التي لن يحرره منها بلد قريب ومستعمر سابقا من لغته وثقافته، بل بلد عريق جدا ومغاير تماما مارس جاذبيته الكبرى على حضارة  فرنسا هو اليابان (كتاب "أمبراطورية العلامات، 1970)، وأن الثاني ولد في بلد متاخم للمغرب، كان في ما مضى منطقة مغربية تنتمي للدولة المرابطية والموحدية المغربية، هو الجزائر. فهو يهودي جزائري عاش صباه في بلد عربي متعدد الأعراق والديانات. وهو من ثم أقرب إلى روح الخطيبي التفكيكية التي تسائل القضايا المحلية بكثير من الذكاء التفكيكي.

دريدا في محك اللغة والثقافة العربيين

اطلعت على جاك دريدا لأول مرة وأنا أنجز بحث الإجازة في الفلسفة عن "الفكر والاختلاف في كتابات الخطيبي". وكان حينها أول بحث في الفلسفة بالمغرب عن هذا المفكر الذي كان يبدو ببلورية تجربته متمنّعا عن التناول الفكري.  وجاءت الفرصة بضع سنوات بعد ذلك لألتقيه مباشرة وأتحاور معه بعدما أنجزت ترجمة لأحد كتبه. ثم كانت لنا مراسلات. وفي أواسط التسعينات، قمت مع عبد الكبير الخطيبي، بتعاون من المركز الثقافي الفرنسي بالرباط، بتنظيم لقاء عن أعماله، بمشاركة الخطيبي وعبد الفتاح كليطو وفريد الزاهي وكاظم جهاد وفتحي بنسلامة وغيرهم.

كان موضوع مداخلتي حينها عن تلقي كتابات دريدا في اللغة العربية. ولم تكن حينها الترجمات تتعدى ثلاثا: ترجمة كاظم جهاد لمجموعة من النصوص المتفرقة، وبعدها ترجمتي لمجموعة من الحوارات مع مفكرين فرنسيين بعنوان "مواقع"، ثم ترجمة أطياف ماركس. ومن حينها لليوم صدرت العديد من الترجمات، بعضها من الفرنسية، لا يصدر فيها المترجم عن معرفة فلسفية، وبعضها الآخر من الإنكليزية. ولا يخفى أن ترجمة دريدا من الإنكليزية تعطل بشكل كبير اشتغاله على اللغة والاشتقاقات والتحويرات والتأويلات التي تنبع من تعامله الكبير، كما هايدغر قبله، على الاشتقاق.

حين نقرأ أغلب ما ترجم من كتابات دريدا، نواجه احتقانا كبيرا في قراءة هذه الترجمات تضاعف أحيانا الاحتقان الذي نحسه في كتاباته باللغة الفرنسية. فالرجل ترك أكثر من سبعين مصنفا، وما يعادلها من الكتابات عنه والحوارات المباشرة معه. ورغم أنه كان يلح، كما أكد لي شخصيا، على مراجعة كل ما ينشر من حوارات معه. فالرجل كان مصابا بالملانخوليا، وإسهاله في الكتابة والنشر كان ضربا من الثيرابيا الشخصية. وكان من الصعب تتبعه، فهو ليس مثل جورج باطاي ذا مشروع فكري محدد. إنه مشروع مراجعة شاملة لتاريخ الفلسفة الغربية، من هوسرل هايدغر إلى فرويد، وصولا إلى الأدب والترجمة وقضايا أنثربولوجية أخرى كالضيافة والغفران.

كتابات جاك دريدا متاهة من التفكير والتساؤل الفكري والفلسفي الذي قد يأخذ صفحات كثيرة لصياغة السؤال المدخلي لقضية ما. إنه غدا أكثر فأكثر شرنقة من التفكير المسائل للسؤال قبل أن ينطلق لمسعى تساؤلي عن جواب يعيش استحالته في سيرورة المساءلة. وهي مساءلة تتم من خلال اللغة وفيها. فحين قرأت مرة ترجمة شاب مصري (وكنت حينها أتحدث عن دريدا في إحدى مداخلاتي في مؤتمر الترجمة بالقاهرة)، تساءلت بكل صدق ومعرفة: كيف نغرّب فكر دريدا مرتين: مرة في ترجمته من لغة وسيطة هي الإنكليزية، ومرة ثانية من خلال لغة مستقبلة هي العربية، بكل ميتافيزيقاها وترسباتها اللاهوتية؟

وأنا أكتب هذا المقال، وبالرغم من أني أومن بالترجمة لأني مترجم محترف، فأنا أعتبر أن أفضل الترجمات لفكر مشرنق ومتاهي كفكر جاك دريدا لا يمكن أن يكون فاعلا من خلال ترجمة كتبه، وإنما من خلال ترجمة (استيحاء فكره). فالترجمة معوق أساس لتبنيه كمفكر خلاق. ترجمة جاك دريدا قريبة للاستحالة. وهو اعتبر أن الترجمة تتم في مستويات عديدة، في النص الأصلي، كما في القراءة، كما في الاستيحاء كما في الترجمة النصية.  وفي حال استعصاء الترجمة النصية تغدو الترجمة الإبداعية، تلك التي دشنها الخطيبي وآخرون، مجالا لتخصيب الفكر بترجمة إبداعية تشكل موروثا شخصيا لا مجال فيه للتقاسم...

أختم هذه الحكاية بقصة مأساوية، أحتفي فيها بشاب جزائري اسمه بختي بن عودة، اتصل بي في بداية التسعينيات (ولنا في ذلك مراسلات) لأنه كان عاشقا لدريدا والخطيبي.  كنت أبعث له بالبريد كتابات الخطيبي. في أواسط التسعينيات قتل في حيه بعد أن بدأ مشوارا فكريا يستوحي فيه الخطيبي ودريدا معا. كانت تلك أفضل طريقة لاستنبات فكر مركب، لتناول قضايا فكرية ليست بأقل تعقيدا.

تغني الترجمة في الكتابة عن الترجمة النصية، حين يتعلق الأمر بفكر تحمله غنى أسئلته إلى ما يتجاوز التنظير. ذلك حال جاك دريدا، فإما أن تقرأه في النص أو تقرأه في هجرته في النصوص التي تستلهمه وتحاوره. وحين يستعصي الأمران، تكون قراءة الترجمة العربية أشبه بمغامرة يضيع فيها الكثير من المعنى وصياغاته في رحلة العبور، إلا في ترجمات قليلة تصغي إلى نبض اللغة والفكر وتكون على نحو ما حوار الاستحالة الممكنة.