فرنسا الملونة والدرس العالمي

مها حسن 20 يوليه 2018
آراء
Jack Taylor/Getty

 

توصف بأنها أجمل جادة في العالم. الشانزلزيه، التي تحولت، يوم الاثنين، إلى عرس حقيقي لم تشهد فرنسا مثيله منذ سنوات طويلة. على الأقل، لم أر فرنسا هكذا منذ مجيئي إليها قبل خمسة عشر عاماً.

قبل يومين فقط من هذا العرس، كانت فرنسا تحتفل بعيدها الوطني، وفي الجادة نفسها، حضر الرئيس الفرنسي عروض العسكر، ولكن الجادة ذاتها راحت تشهد عروضا مدهشة بعد يومين، حيث تجمع عشرات الألوف من الفرنسيين بانتظار عودة فريق فرنسا، بطل العالم لكرة القدم، الذي غادر موسكو ظهيرة الاثنين متوجهاً إلى الشانزلزيه.

كانت كاميرات التلفزة تتابع احتفالات الفرنسيين في باريس، عبر رصد طقوس الاستقبال في مطار شارل دوغول، ثم تابعت الباص الذي نقل اللاعبين حتى تلك الجادة ذائعة الصيت. وكذلك لم يتغيب الفرنسيون في باقي المدن عن الاحتفال والابتهاج، منذ لحظة تتويج الفريق بعد ظهيرة الأحد وحتى مساء الاثنين. كثير من الفرنسيين لم يناموا أكثر من عدة ساعات، مواصلين الفرح والاحتفال.

لم يكن الفرح وحده ما دفعني لكتابة هذا الكلام، بل ثمة دروس كثيرة يجب علينا نحن المتفرجين على الضفة الأخرى، استخلاصها من هذا المشهد الفاتن، الملوّن. لا أتحدث فقط عن ألوان الفرح الثلاثة الرئيسية التي ملأت سماء باريس، عبر عبور طائرات تطلق الدخان الذي يحمل ألوان العلم الفرنسي : الأزرق والأبيض والأحمر، بل عن تلون الشعب.

بتتبّع بعض التعليقات العربية في مواقع التواصل الاجتماعي، نجد أغلبها تتوقف عند هذه النقطة مطولاً: تواجد الأفارقة والمسلمين والعرب في فريق ديديه دوشامب، وتحمل هذه التعليقات وجوهاً متعددة من الغيظ والتشكيك بمهارة فرنسا، عبر الغمز بتاريخها الاستعماري من ناحية، متهمين هذا البلد باستثماره لطاقات شباب المستعمرات القديمة، ومن ناحية ثانية، ثمة غيظ معاكس، يحمله أبناء النظرة الصافية للعرق، هؤلاء ورثة تفكير عنصري، تؤذيهم رؤية فرنسا بوجه مختلف عن النمط المُنتظر والمرسوم للأوروبي: الأشقر ذو العينين الزرقاوين!

هذا السجال لم يُعنى به المواطن الفرنسي، الذي اعتاد رؤية هذا التلوّن في جميع أنحاء فرنسا. ولكن الصدمة هي عند فريق آخر، أبناء الثقافة المغايرة، التي لم تعتد هذا الاندماج اللوني، ولا أيضاً هذه التلقائية في الفرح. فقيام ماكرون مثلاً بمعانقة أعضاء الفريق، وتقبيل رؤوس بعضهم، كما مع مابيه، الأسمر الوسيم المتحدر من أصل كاميروني وجزائري. بل حتى إنه من الصادم للعقلية التقليدية رؤية تكسير البروتوكول لأعضاء الفريق، حيث قام بوغبا بالغناء والتفرد بأخذ الميكرفون ليدعو رفاقه للاحتفال مع الشعب، تاركين ماكرون ينظر إليهم بفرح، كأخ سعيد بعائلته، لا كرئيس يفرض نفسه.

قامت شركة المواصلات الفرنسية بتغيير أسماء محطات المترو، مؤقتاً، لتضع أسماء جديدة تناسب هذا الفرح، وتضم بعض أسماء الفريق: كديديه دوشامب، وحارس المرمى ليوريس. وابتكر الجمهور أغاني خاصة ألفوها باسم بعض أعضاء الفريق، كبنجامين بافار وغيره...

ماكرون ذاته كان مبتهجا بشجاعة، وخاصة وهو يصحب إلى غرفة تغيير الملابس في موسكو جنديا فرنسياً مجروحاً في القتال في مالي، ليحدث الشباب عن هذا العسكري، الذي كان يمكن له أن يموت من أجل البلد، وقد فقد ساقه وذراعه، وكان مجروحاً في كل أنحاء جسده. تعرف عليه ماكرون في شهر حزيران/ يونيو، والتقى به مجدداً في الثالث عشر من تموز/ يوليو، كان يتنقّل على كرسي متحرك، قال للرئيس: الشخص الذي أقدره أكثر هو ديديه دوشامب، يعلق ماكرون مداعباً (الأمر الذي آلمني في البداية..). طلب الجندي من الرئيس إسداء خدمة له: "غداً حين تقابل اللاعبين، أخبرهم بأنهم يجعلون فرنسياً صغيراً مثلي يحلم"، ويتابع ماكرون القصة للشباب: لهذا أحضرته معي، حتى تدركون أهمية ما تفعلونه. 

صور أعضاء فريق كرة القدم الساخرة والمرحة تملأ الصحف الفرنسية والغربية، وصور ماكرون يعبّر عن سعادته غير متقيّد بالصورة النمطية المُنتظرة من رئيس البلاد، تملأ وسائل التواصل. ماكرون يقوم بحركة واحدة متماهياً مع الفريق، وخاصة مع أولئك الشباب أصحاب البشرة القاتمة، الذين يخلقون البهجة كيفما تحركوا. الشاب الطويل الأسمر بول بوغا، بروحه المرحة، لا يكف عن خلق الضحك والفرح كيفما تحرّك. أما كيليان مابيه، فقد تحول إلى أسطورة، وظهرت صورته شبه ثابتة وهي موجّهة بالأضواء فوق قوس النصر، حيث تكاد شعبيته تتجاوز باقي أعضاء الفريق، ليصبح مدلل الجمهور الفرنسي، وهو اللاعب الأصغر سناً على الإطلاق.

ضمن الاستطلاعات الكثيرة التي يجريها الصحافيون والمذيعون، وفي إحداها، تسأل المذيعة صبية شقراء محاطة بوالدتها وصديقات الوالدة، الصبية لم تكن قد ولدت حين فازت فرنسا بالكأس سنة 1998: من هو لاعبك الأقرب؟ مابيه.. تجيب الشقراء وتهتف حولها صبايا سمراوات، وعربيات ومسلمات، يضعن الحجاب ويرسمن العلم الفرنسي على وجناتهن، تصرخ جميعهن بصوت واحد: مابيه! هذا الشاب الذي يكسر اليوم الصورة النمطية عن الضواحي التي ترتبط سمعتها بالعنف والجهل، تذهب الكاميرا إلى ضاحيته وتسأل أبناء الضاحية هناك، ليقدّموا صورة مبهجة تكسر السائد والرائج عن الضواحي، ليتحدث أبناء (بوندي) عن الأمل والعمل. وترد إلى مخيلتي سريعاً حكاية السيدة في إحدى البلاد العربية، التي احتجت لدى إدارة المدرسة، بسبب وجود طالب قاتم البشرة في المدرسة وهددت بإخراج ابنها (الأبيض) من المدرسة. أتمنى أن ترى هذه السيدة حجم الحب والاحترام، والنموذج الذي يريد الشباب اليوم أن يحتذوا به: الشاب الأسمر الوسيم المبتسم، مابيه، ابن السيدة فايزة، المرأة الجزائرية، التي آمنت بابنها، فأدخلته إلى العالمية، وأدخلها هو إلى قصر الأليزيه، حيث استقبل الرئيس وزوجته أهالي الفريق الفائز، الذي منح فرنسا فرحاً ستحظى به لأربع سنوات قادمة.

الحب إذن، والاحترام، شرطا المواطنة، الدرس الذي يجب أن نتعلمه، حتى نصل إلى القمم، ونحقق أحلامنا التي قد تبدو مستحيلة، هذه هي الحكاية التي أفكر فيها منذ إعلان نتائج فوز الفريق الفرنسي المتعدد الأصول، والذي يرفع عالياً اسم بلده: الجمهورية الفرنسية.