اليسار المغربي أمام مجتمع جديد

كمال عبد اللطيف 22 يوليه 2018
آراء
لوحة للفنان مروان نصار

تضاعفت مآزق اليسار في المشهد السياسي المغربي، بعد وصول التيارات السياسية المحافظة إلى السلطة، الأمر الذي ساهم في بلورة الشروط المناسبة لاحتمال حصول معارك سياسية وثقافية جديدة في مجتمعنا. وإذا كان من المؤكد، أن أزمة اليسار في مجتمعنا أصبحت مؤكّدة ومكشوفة منذ سنوات، فإن صعود الأغلبية الجديدة إلى السلطة بقيادة حزب من الإسلام السياسي، ضَاعَف المآلات الخاسرة لتيار سياسي، كنا وما نزال نعتقد أنه مُؤَهَّل أكثر من غيره، ليتصدَّر واجهات العمل السياسي في مجتمعنا، بحكم خياراته التحديثية والتاريخية، إلا أن الرياح لا تجري كما يقال بما تشتهي السفن.

وقبل أن نواصل توضيح الموقف الذي حدَّدنا في الفقرة السابقة، نشير إلى أن حديثنا عن المأزق والأزمة، لا يرتبط بتصوُّرات تنظر إليهما نظرة سلبية، بل إن الأمر يتعلق بمفاهيم تُشَخِّص وضعية التحوُّل التي تشهدها بعض التيارات السياسية في مجتمعنا، حيث تترتَّب عن المآزق والأزمات، مواقف صانعة لتحوُّلات تنتفض فيها التيارات المعنية على عِلَلِها وتعمل على تجاوزها. ويتم ذلك في إطار ما يُعْرَف في التاريخ، بالتفاعل الْمُمْكِن مع جدليات التاريخ الصانعة للأحداث ونقائضها.

تحصل الأزمات في التاريخ، نتيجة لسياقات ترتبط بمعطيات تُفرزها تحوُّلاتُه المشدُودة إلى عوامل متعددة ومُرَكَّبة. ومعنى ذلك، أنه ينبغي النظر إلى الأزمة كعنوان حامل لتفاعلات تقع في التاريخ، وتتَّسِم بكثير من النسبية والقابلية للرفع والتجاوز، وكذا القابلية للاستفحال، في حال انعدام أو عدم تَوَفُّر المساعي القادرة على زحزحتها والتقليص من آثارها السلبية. وضمن هذا السياق، ننظر إلى واقع اليسار المغربي اليوم في مجتمعنا.

وإذا كنا نعرف أن تطوُّر اليسار واكب في مجتمعنا جملة التحوُّلات التي سادت في العالم بعد الحرب العالمية الثانية، حيث انتعشت حركات التحرُّر العربية، داخل ما كان يُعْرَف آنذاك بالعالم الثالث. وقد تصاعد المدّ المذكور في مجتمعنا في ستينيات القرن الماضي، رافعاً شعارات التنمية والعدالة والتقدُّم، وساهمت نزوعاته الفكرية كما ساهمت حركيته في العمل السياسي، في بناء جملة من المعطيات التي ساهمت بدورها في تركيب مواقف وخيارات، لا يستطيع أحد إنكار أدوارها في إعداد العدة اللازمة لتحديث مجتمعنا، والدَّفْع بنخبه وتنظيماته المدنية نحو ما يُعَزِّز بناء الدولة الوطنية، والتمرُّس في الآن نفسه، ببعض أوليات وقواعد المشروع السياسي الديمقراطي.

لم تكن عملية تطوُّر وتَعَدَّد الروافد اليسارية في مشهدنا السياسي مسألة اختيارية، بل إنها حصلت في العديد منها بفعل الضربات الشرسة، التي لحقت مختلف تياراته من طرف النظام االسائد، طيلة الثلث الأخير من القرن الماضي، الأمر الذي ضَاعَف من مآزقه وإشكالاته. وما زاد الأمر تعقيداً، المواكبة التي حصلت بين حملات النظام على اليسار وثقافته، والتراجع الذي لحق فصائل وتيارات اليسار العالمي، بعد سقوط الاتحاد السوﭭﻴيتي وتهديم جدار برلين.

واصلت فصائل اليسار حضورها ونضالها، وذلك رغم كل ما حصل من مآزق مركَّبة. وقد عانت كثيراً من أشكال الانقسام التي أصبحت سمة ملازِمة لها، واصلت حضورها وجهودها بصورة لم تنقطع، مُعْلِيةً من قيم التاريخ، ومُدافعةً عن الحرية والعدالة والمساواة.

يمكن أن نسجل هنا، أن أغلب تيارات اليسار لم تنتبه إلى مقتضيات الشروط التاريخية الجديدة، التي أصبحت تحكم المتغيِّرات الإقليمية والدولية، ولم تتمكَّن طلائعها من تطوير تصوُّراتها وأساليب عملها، بما يناسب التحوُّلات التي حصلت في المجتمع. كما لم تتمكَّن من بلورة الشعارات المناسبة لتحوُّلات جارية في المجتمع، تحوُّلات تستدعي في تَصَوُّرِنا بناء آليات أخرى في التنظيم والمبادرة والعمل. كما تتطلَّب تجديد آليات العمل الحزبي، في مجتمع تجري فيه مثل باقي مجتمعات العالم تحوُّلات في المعرفة وفي القيم، الأمر الذي ساهم في ترسيخ أحوال التراجع التي آلت إليها أوضاعه.
ساهمت فترة التناوب التَّوَافُقِي (1998-2007) التي قاد أغلبيتها حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، بما لها وما عليها، إضافة إلى عوامل أخرى وطنية وأخرى دولية، مرتبطة بالمآزق التي نتجت عن التوظيف السياسي لمبادئ الإسلام في معترك العمل السياسي، ساهم كل ما ذكرنا، في منح تيار الإسلام السياسي ما يسعفه بتعزيز أنماط حضوره في مشهدنا الحزبي والسياسي، فعمل على توظيف الأشكال الدَّعَوِيَّة والتنظيمات الخيرية، مستقطباً العديد من الشباب، والعديد من الفئات الاجتماعية، قصد الاستفادة من حالة التراجع والتشرذم، التي عَمَّت مختلف فصائله في مجتمعنا، وحالة الانشطار التي أصبحت كما وضحنا سمة ملازمة له.
ينبغي أن لا نَنْسَى الإشارة هنا، إلى أن شبكة التنسيق بين تيارات الإسلام السياسي في المجتمعات العربية، ساهمت أيضاً في تقوية هذا التيار، كما ساهم الدعم المادي الْمُوَجَّه من طرف من كان وما زال يعنيهم مبدأ إشراك نخب الإسلام السياسي، في مشروع الإصلاح السياسي الديمقراطي لمواجهة جيوب الإرهاب، الأمر الذي مَكَّنَهُم من دفعة قوية في المشهد السياسي، حيث غاب عن مناصري هذا المبدأ، الخلَل الذي تستوعبه هذه التيارات، في نظرتها إلى التاريخ والإنسان والعمل السياسي.

أصبحنا في واقع الحال أمام تيارات تضم مزيجاً مركَّباً من الفاعلين، وقد تضاربت في قلب مواقفهم وخياراتهم عقائد مُختلطة، جمعت بين لغات يصعب الجمع بينها في مجال العمل السياسي، المحكوم بتناقضات التاريخ في جريانها، فنتجت من ذلك، صَر جديدة لأنماط توظيف الإسلام ومبادئه في حياتنا السياسية. ولا شك في أن صُور الخلط التي نعاين اليوم في مشهدنا السياسي، بين لغة التعاقد والتاريخ وقد امتزجت بالقدر والغيب، تضعنا أمام إشكالات جديدة يمكن التصدي لها، وذلك بدعمِ وتقويةِ منطق الاجتهاد والعقل والتنوير.

لم تستطع أحزاب اليسار في مجتمعنا، وهي في الأغلب الأعم أحزاب اشتراكية مع مجموعات قليلة تتبنَّى الماركسية من منظور عقائدي وُثُوقِي، لم تستطع القيام بالنقد الذاتي بالصورة التي تُؤَهِّلُها للوعي بمقتضيات تحوُّلات عالم تطبعه أزمة القيم، ومجموعة من الثورات التقنية المتلاحقة بإيقاع سريع. ولم تنتبه تياراته بصورة جِدِّية للأجيال الجديدة من المفاهيم التحديثية، التي أصبحت مُتداولة في الخطابات السياسية، فظلت في أغلبها تتحدث لغة لم تعد قادرة على الإحاطة بما يجري في مجتمعنا. وتَرَتَّب عن ذلك، حصول مسافة تزداد اتِّساعاً بين شعاراتها وبين متطلبات المعارك، التي تجري في المجتمع المغربي. ومن هنا فإننا نتصوَّر أن أنماط الصراع الحاصلة اليوم داخل مجتمعنا، تدعو اليسار إلى بلورة مواقف وآليات جديدة في التعبئة، من أجل التَّمَكُّن من مواجهة مختلف التحدِّيات التي نشأت وتنشأ اليوم في المجتمع المغربي.

إن معاينة أحوال اليسار المغربي سواء في تنظيماته، أو في إعلامه ولغته، أو في نمط انخراطه في المجال الافتراضي وصُور استخدامه للوسائط الاجتماعية، تُظْهِر بصورة أو بأخرى، بَعْضَ صُور التَّصَلُّب التي لحقت أنماط حضوره في مشهدنا السياسي. وضمن هذا السياق، نفترض أن جوانب عديدة من مظاهر فقره النظري، تعود إلى إهماله البعد الثقافي، ولمختلف الروافد الفكرية التي نعرف أنها منحته خلال مختلف أطوار تشكُّله الأولى، القوة واليناعة اللتين كان يتمتع بهما.

لم يعد معقولاً ولا مفهوماً أن يظْهر الفاعل السياسي اليساري بالصورة التي هو عليها اليوم في مشهدنا السياسي، ذلك أن الثقافة شكَّلت وتُشَكِّل في تاريخ اليسار المغربي، الرافعة التي منحت قوى اليسار حضورهم النقدي المنتج والفاعل داخل مجتمعنا. ولا ينبغي أن يفهم من سياق ما نحن بصدده، أننا نمنح أولوية أو امتيازاً ما للمعارك الثقافية على حساب المعارك السياسية، بل إننا فقط نُحاول تفسير ظاهرة متصلة بفقر وتصلُّب الخطاب السياسي للمجموعات اليسارية. ونتصوَّر أن بإمكان هذا الخطاب أن يستعيد عافيته وحضوره، عندما يستعيد علاقته المُفْتَقَدَة اليوم مع الثقافة في تطوُّراتها المتلاحقة.

إن الارتباك الذي يُعَدُّ السِّمَة الملازمة لأغلب تيارات اليسار اليوم، يعود في بعض جوانبه إلى استبعادها البارز لِلْمُكَوِّن الثقافي في مستوياته المختلفة، وخاصة في مجالات العلوم الاجتماعية والإنسانية. وعندما نضيف إلى ذلك تشرذمه في حلقات مغلقة مكتفية بذاتها بطريقة لا تاريخية، حلقات حلقية لا تسمح له بتحقيق الحضور التاريخي والثقافي والمجتمعي المطلوب اليوم في العمل السياسي في بلادنا.

استسهل اليسار المغربي في كثير من أجنحته المحفوظات والمفاهيم المسكوكة، ولم يعمل على نَحْت وابتكار المفردات القادرة على الإمساك بأسئلة وظواهر مجتمعنا، ومن هنا نتصوَّر أن تعزيز حضوره السياسي، يقتضي مواصلة العمل على مزيد من تحديث مجتمعنا، ولا يصبح ذلك ممكناً، دون رفع حالة التشرذم وبناء قطب سياسي، يكون بإمكانه بناء مرجعية وأفق في العمل السياسي، لا يفصل فيهما بين مطلب الحرية والحريات، والقانون والمؤسسات، ومطلب العدالة والمساواة، وللحديث بقية..