لا شرعية للتحرش

مها حسن 15 أكتوبر 2019
آراء
"القانون الذي ساد حتى اليوم يتم بطريقة معكوسة:فضيحة الضحية!"
اختراق الحياة الخاصة

تعاني أغلب النساء المتواجدات على مواقع التواصل الاجتماعي من اختراق حياتهن الخاصة، والتدخل في خصوصياتهن، وخاصة إذا كانت هذه النساء من نوعية المشتغلات بالأدب والفن والشأن العام، كأنه توجد قاعدة في أذهان أغلب الرجال، بأن المرأة المتعاملة مع الآداب والفنون، وهي تعرض أفكارها ومشاعرها، وأحيانا صورها، عبر مواقع التواصل، متاحة للجميع، ويسهل الحصول عليها.
حين يكون هذا الاختراق للحياة الشخصية، والتحرش الواقع على المرأة، من شخص عادي، يبدو الأمر مفهوماً إلى حد كبير، متطابقاً مع ظاهرة التحرش التي تعاني منها النساء في الشوارع العربية خاصة، لكن اللافت للنظر، أن يقع هذا التحرش من مشتغلين في الوسط الثقافي والفكري.
وكامرأة مشتغلة بالشأن العام، فشلت في الانعزال عن وسائل التواصل هذه، كأغلب الكتاب والكاتبات العرب، الذين قاوموا طويلاً، وانتهى الأمر بأغلبهم بالانضمام إلى هذه المواقع، التي سهّلت التواصل بين الكاتب والجمهور، وكذلك سرّعت من تأمين المعلومات المتعلقة بالكتب وأخبار تنقّلها في المعارض وأماكن بيعها والندوات والتواقيع التي يقوم بها الكتّاب في جولاتهم في العالم.
وعدا عن دورها في تأسيس شبكة علاقات اجتماعية، وإعادة الغائب ـ كما تفعل المنجمات ـ عبر عثور أغلبنا على أصدقاء طفولة ضائعين، أو أقارب بعيدين، فقد ساهمت الشبكات الاجتماعية هذه في تأمين الخبر طازجاً، والحصول عليه من موقع الحدث، قبل التعرف عليه من قبل كبرى وكالات الأنباء.

كثيرة هي المرات، التي لا تحصى، حين عرفت بوقوع نبأ انفجار في مدينة عربية، أو حريق، أو اعتقال، أو اغتيال... قبل أن تتعرض للحدث نشرات الأخبار، لوجود أشخاص في مكان وقوع الحدث، ينقلون لنا بطواعية ما يشاهدونه.
لكل هذه الأسباب المختصرة، صارت هذه المواقع أحد أهم مصادر المعلومات والعثور على الأشخاص، يكفي أن أذكر أن ترجمة روايتي وقعت عن طريق رسالة وصلتني عبر الفيسبوك من المترجمة الإيطالية التي لم تعثر على عنواني الإلكتروني، وكذلك اللقاء الذي أجرته معي مجلة إيطالية، إذ راسلتني الصحافية عبر الفيسبوك، والعديد من النشاطات الأخرى المتعلقة بكتابتي، تمت عبر الفيسبوك، آخرها من مخرجة تعمل سلسلة أفلام وثائقية عن النساء الكاتبات.
لهذا، حين تتلقى إحدانا نحن النساء المشتغلات بالوسط الأدبي والصحافي والثقافي، رسالة من رجل يظهر على صفحته بأنه رئيس تحرير مجلة، أو يعمل في محطة تلفزيونية، أو صحافي أو ناقد.. فإن أذهاننا تذهب على الفور إلى النشاط المهني، لنقع أحياناً ـ أتردد أن أقول غالباً ـ فريسات رجال يبحثون عن التسلية، رجال متحرشين بمعنى الكلمة.
منذ أسابيع وردتني رسالة من شخص يذكر على صفحته في الفيسبوك بأنه: شاعر، ناقد، مترجم، أستاذ جامعي، ليكتب لي: إطلالتك تعجبني، أنا شاعر ومترجم، أريدك ملهمتي، تبعاً لغناك الروحي.
ذهبت الى صفحة الرجل، لأرى صورته مع ثلاث فتيات صغيرات، غالباً هن بناته، ويبدو شاباً في الأربعينات، موفور الصحة، وسيماً، يعيش في مدينة عربية غير متزمتة، أي أنه يستطيع الحصول على علاقات واقعية، واللقاء بامرأة من لحم ودم، بدل اللف والدوران، واقتحام حياة امرأة تعيش في بلد بعيد عنه، لا يمكنه الوصول إليها.
تعاطفت بداية مع الرجل، وتساءلت بيني وبين نفسي، عن المرض النفسي الذي يجعل شخصا مثله، يلجأ إلى أوهام الفيسبوك، تحت مسمى: الإلهام الأدبي، ونعرف جميعاً، أن هذه مجرد خدعة للدخول في علاقة مع المرأة، علاقة افتراضية، لن تقود إلى أية حقائق، بل قائمة على أوهام وأكاذيب من جميع الأطرف المنخرطين في هكذا علاقات.
فكرت أن أصور رسالة الرجل، الذي لم أرد على رسالته، بل قمت بحجبه دون تردد، وأن أنشر الرسالة على الفيسبوك، كما فعلت بعض الصبايا لتأديب المتحرشين.
لكنني لم أفعل، حيث سأفتح على نفسي باب الهجوم من قبل هذا الرجل، ومن مجموعة الرجال المماثلين الذين يعتقدون بأن المرأة الإلكترونية مباحة لهم، لا بل سأتلقى الهجوم من نساء "ذكوريات" يعتقدن بـ"الستر"، وهذا ما حصل مع شابة، نشرت على صفحتها رسالة تحرش تعرضت لها من  موسيقي طلبها للزواج، بمجرد أن ضغطت على زر قبول صداقته عبر الفيسبوك، لتتلقّى الشابة ذاتها، وهي سيدة متزوجة ولديها طفلتان، رداً عنيفاً من امرأة، يُفترض أنها ستقف إلى صفها، لكنها تقول لها بأنها مغرورة ومتعجرفة وتقوم بفضح رجل متزوج وتُعرّضه للسخرية من أصدقائه، وتتسبب بطلب زوجته الطلاق. ولم توفّر السيدة كمية كبيرة من الشتائم أهالتها على رأس السيدة المتعرضة للتحرش، على أنها المُذنبة والمُخطئة. هكذا صارت السيدة التي حاولت تلقين المتحرش بها درساً في احترام النساء، مسؤولة عن النتائج الوخيمة التي طرأت على حياة ذلك الرجل، لأنها أعلنت ما قام به.

لوم المرأة.. هي المذنبة!

في الوقت ذاته، يلوم الكثير من الرجال والنساء أية امرأة تتحدث عن تعرضها للتحرش عبر وسائل التواصل، بل يحلل البعض الدوافع السيكولوجية لهذا الفعل، على أنه محاولة ترغيب ولفت نظر.  والتهمة الموجهة دائماً للنساء ضحايا التحرش، بأنهن المسؤولات عن الأمر، وفق عدة ذرائع، منها مثلاً إثارة الرجال، وعدم الاحتشام.
في هذا السياق، فإنه من السهل تأثيم النساء الناشطات في الفعل الثقافي، حيث المرأة التي تضع صورها في وسائل التواصل، أو تكتب عن الحب، أو عن الرغبة، أو عن الأحلام، فهي بطريقة ما تشحذ همة الذكور، للقدوم إلى أرضها. إذاً المرأة هي المذنبة، وعليها تحمّل النتائج، أو الانعزال والجلوس في الظلمة، إذا كانت تريد الستر والأمان.
هنا تكمن بذرة العنف النفسي المُوجّه إلى المرأة، ومن هنا تطالب المؤسسات المدنية والحقوقية في الغرب خاصة بكسر قانون الصمت، سواء حيال العنف الموجّه صوب النساء، أو حالات التحرش ضد الأطفال، بحجة حماية الضحية من الفضيحة. قانون الفضيحة الذي ساد حتى اليوم بطريقة معكوسة: فضيحة الضحية!
أذكر أنني تعرضت لموقف مماثل، من تحرش مباشر في إحدى وسائل المواصلات في مدينة حلب، كانت تجلس خلفي سيدتان، وإلى جواري شاب مراهق، أخذ يقوم بحركات مريبة، وحين طلبت منه التوقف قال لي: اخرسي أو أفضحك!
بعد أن نزل الشاب من الحافلة، سمعت صوت المرأتين اللتين راحتا تشتمانه، لكنه كان قد غادر، ولم يسمع، بينما سكتتا حين كان يضايقني. قانون الفضيحة ذاته، جعلهما تتواطئان معه بحضوره، وتنقلبان عليه في غيابه، إذ لم يعد قادراً على إثارة الفضيحة بحقّهما.
من هنا يأتي السؤال المنطقي: من أين يكتسب المتحرش شرعية القيام بفعله، وثقته بحماية المجتمع له، كونه رجل يحق له الخروج وانتقاء ضحيته، مطمئناً إلى صمتها، وتعرضها للفضيحة في حال اعتراضها ودفاعها عن نفسها؟
هذا الاتفاق الجمعي، على ضرورة احتشام المرأة، واعتبار ظهورها إلى الحياة العملية بمثابة خروج على العقد الاجتماعي الذي يحقق لها الأمان في حال الطاعة والدخول في تجمّع "الحريم" الذهني، هو الذي يعرّض كل امرأة مشرقية على الأخص، لاستباحة حقّها في الظهور، ومنح الذكور السلطة لتأنيبها، أو ابتزازها، أو مشاركتها في ظهورها، لأن الرجل هو صاحب القرار النهائي في منح "الدمغة" الآمنة، إذا كانت فلانة تستحق الكلام والتصرف والكتابة والنشاط الاجتماعي، أو عليها أن تتوقع الرد منه، في حال عدم موافقة سلوكها لعقلية السيد المالك الشرعي لحياة النساء جميعهن، بوصفه الأخ والأب والمعلّم والقائد الذي يحق له فرض سلطته وحمايته، وسحبهما أيضاً، وفق تواطؤ عام، متفق عليه، من الذكور والنساء معاً.

كلمات مفتاحية

التحرش التحريم الانترنت المرأة المرأة الشرقية العلوم الاجتماعية علم الاجتماع