في فضاء الاحتفال بسيد الفنون: دورة زمن الشعر تتواصل
زمن الشعر والأبدية
من أبرز ما جاء في كتاب أدونيس هذا، هو حديثه عن زمن الشعر والأبدية، وهو في إطار التنظير لخطابه الشعري الذي يجب أن يخلق واقعه، لا أن يحاكيه، أو يعيد رسمه، ليكون هناك عالم فني، غير العالم الواقعي، وفي هذا قفز فوق الواقع، ودعوة للتنصل من وظيفية الشعر، هذا من جهة، بيد أنه من جهة أخرى خطاب مبطن، متفائل بمستقبل الشعر، بل يعد عدم الاستغراق في رؤيته هذه نتاج ثقته المطلقة بديمومة روح الشعر، لا سيما أن فصول الكتاب أنجزت في أهم مرحلة تألق فيها الاهتمام بالشعر، وهي مطلع سبعينيات القرن الماضي، حيث أثر هذا الكتاب ولا يزال يؤثر في أجيال شعرية كاملة.
وإذا كان أدونيس يكتب نصوصه الإيمائية، في مقاطع شبه فيسبوكية، بلا توقف، فإن هناك حضوراً معرفياً في هذه النصوص، وإن كانت تقدم هويتها كمسرودات، لا كشعريات، بل إنه توقف عن تقديم نصوص مهمة بوزن قصيدة "قبر لأجل نيويورك"، على سبيل المثال، رغم أن نصوصه التي يكتبها الآن باتت تتوجه إلى معرفيتها، على نحو جلي، وتفوق الكثير من نصوصه الأولى التي كتبها في بداية تجربته. يقول في نص "كيركيغارد، وجهٌ مرسومٌ على الهواء":
كوبنهاغن، أعندك ما تضيفين؟
ليس فيّ غيرُ الأجنحة، وقلّما أحطّ. لا أعرف أين وكيف؟ وليست
هذه هي وحدها مشكلتي، مَن أسأل؟
ما تقول، أيّها النّورس الذي أراه للمرّة الأولى في مدينة أراها، على الأرجح،
للمرّة الأخيرة؟
- لكن، ماذا تنتظر أيُّها الشّاعر، من وطنٍ لا رأسَ له،
وله ملايين القرون؟
(جريدة "الحياة"، 27-11-2014)
ما جعل كثيرين يتشاءمون وهم في سياق استقرائهم لمستقبل الشعر، انطلاقاً من واقعه، ويرون أننا لم نعد على موعد - بحسب طروحاتهم - مع قصائد مدوية كالتي كان ينتجها بعض رموز الأجيال السابقة، ناهيك عن عدم مقدرة الشعر على أن يكون الحامل الوحيد ليوميات ثورات "الربيع العربي"، بسبب تسيد الصورة، والمقال، و"البوست"، بل عدَّ بعضهم رحيل محمود درويش إعلاناً عن موت الشعر، لا سيما أن ذلك ترافق مع ظهور أجناس أخرى، في المشهد الثقافي، بزخم غير مسبوق، من قبل - كما هو شأن الرواية - بل إن وسائل النشر الإلكتروني باتت تبتلع على مدار الساعة، من اليوم، ملايين المقالات - وبغض النظر عن تقويمها الفني العام - وفي ذلك تقويض بيّن لأطروحات أدونيس - عراف القصيدة العربية، بلغة د.عابد إسماعيل - كأحد أئمة النقد المتحمسين للشعر، وإن ضمن توصيف أدونيسي خاص، بيد أن النص الذي بشر به أدونيس، ومعه جماعة شعر من أمثال يوسف الخال - أنسي الحاج - فؤاد رفقة - شوقي أبي شقرا (1957-1959) وغيرهم من رواد الحداثة بات يزدهر، ويسجل
حضوره، وإن كان هذا النص يحقق بعض الرؤى المستبشر بها، أدونيسياً، مقابل أخرى أسقطت من الحساب التقويمي لهذا الشاعر الناقد.
وإذا كان توصيف ملامح النص الفيسبوكي، الأكثر انتشاراً الآن وهو نص لم نتفاجأ به بل كان دارجاً قبل انتشار حمى الإنترنت وما جاء به من فتوحات تقنية، اتصالاتية، هائلة، بيد أنه بات يسجل نقلته الهائلة، إذ صار يقدم ناصين فيسبوكيين، على نحو عفوي، تمتلك نتاجاتهم مقومات شعريتها، من دون أن يكتشف كثيرون منهم قيمة ما ينتجون، إلى جانب أعداد كثيرة من المدونين الذين عرفوا بإنتاجهم الشعري، من قبل، أو بعضهم ممن بات ينشر نتاجاته لأول مرة عبر عالم الإلكترون.
ثمة ردة نشهدها الآن إلى الشعر، في ما إذا كانت هناك هجرة في الأصل عن عوالمه، ولعل في عدم ظهور أصوات خاصة هو لأن من كان يكتب في مرحلة ما قبل انتشار شبكات التواصل الاجتماعي لما يزل نصه مستمراً، بل إن الضجيج الذي يرافق هذه النقلة العظمى على صعيد النشر، واختلاط الأصوات، وغياب المعايير، وما يمكن أن أسميه بـ"صدمة الناقد" إزاء هذا الزخم من الأصوات المتكاثرة، المتشظية، المتصادية، واستمرار مواظبته على محض أدوات تدوينية تعود إلى زمن النشر التقليدي، بل مفاجأته، بالكثير من التنظيرات غير المستوعبة من لدنه، من قبيل: النص القصيدة التفاعلية، كما الرواية التفاعلية، أو القصة التفاعلية.. إلخ، جعله في مرحلة ذهول تمام، ما عدا استثناءات عديدة، وإن كان لا بد أن نكون أمام مرحلة "الورش النقدية" و"المؤسسات النقدية" لأن هذه التحولات الجديدة باتت تستوجب جهوداً مشتركة، بدلاً من الجهود الفردية التي اعتدنا على مواظبتها على نقد الأدب والفن عامة.