المسافات التي يختصرها الشعر

إبراهيم قعدوني 28 يوليه 2019
آراء
(فريدا كاهلو)
ثمّة صورة شعرية اتخذت مقاماً أبدياً في ذاكرتي منذ قرأتها أول مرة في قصيدةٍ لأمجد ناصر بعنوان "نجوم لندن" من مجموعتِه "حياة كسرد متقطع". كنتُ قرأتُ القصيدة قبل نحو عقدٍ أو يزيد بعد أن تدحرج اسمُ هذا الشاعر على طاولةٍ كنّا نجلس إليها أنا والصديق المعلّم سلام حلوم ذات مساءٍ حلبيّ بعيد في مقهى اسمه "مقهى رمسيس". كنتُ آنذاك في بواكير سِنيّ الجامعية أتلمّس دروب الشغف بمجسّات الشِّعر باحثاً عن قراءات تُشبِعُ نهمَ الشباب إلى المُفارِق والخارج على الأنساق في غمرة ازدهار الحداثة الشعرية العربية وقلقها المُزمِن. كان جيلي، على الأقل، مُحاطاً بوهج الطواطم الأبوية الشعرية وثِقَلها على رفوف المكتبات وواجهاتِها، وكان على المرء أن يراهِن على شغفه أولاً وحظِّه ثانياً ليقع على جائزةٍ من الشعر تُرضي توقه إلى قصيدةٍ بعناصر تُمسك بأسرار الكيمياء.
في جلستنا الوثيرة تلك، أذكر فيما أذكر اسمَي مجموعَتَين اقترحهُما سلام علَيَّ لقراءتهِما وقتذاك، وهُما "مديحٌ لمقهى آخر" و"رعاةُ العُزلة". بالفعل، لم يطُل بي الوقت قبل أن أنهمِك بقراءة أمجد بحبورٍ ما فَتئتُ أستعيده كلّما قرأت نصاً لهذا الشاعر المسكون بالأمكنة والروائح والأخيلة وهو 'يجوسُ' خرائط الكلام باحثاً عن طرائد أغوت من قبله قوافل من الشعراء والهائمين. كان أبرز ما شدَّني في كتابة أمجد (التي سأنقطع عنها لأعود إليها بعد حين مذهولاً بتلك البراعة في مزج السرد بالشعر في شعرية لم تنتقص من كيان القولَين ولم تتخلَّ قط عن توتّرها الملحمي)، ذلك "الانحياز إلى الشعر في النثر" والتعبير الأخير هذا للناقد السوري صبحي حديدي الذي وضع مقدّمةً نقديةً غنيّة للكتاب الذي احتوى الصورة إياها وهو كتاب "حياة كسردٍ متقطع".
أعودُ إلى الصورة قبل أن أُطنِب في سرد تفاصيل لا يتسع المقام للإحاطة بها في هذا المقام، في الصورة المُزمِنة التي لطالما رافقَتني، يتحدّث أمجد عن لحظةٍ تستحضر زمناً بأكمله
بالنسبة إليّ، يقول أمجد في نصّه "نجوم لندن":
"نفَساً وراء نفسٍ تدفعني الأيامُ قُدُماً لكنَّ عينيَّ ظلتا ورائي تبحثان عن علامةٍ تراءتْ وأنا مستلقٍ ذاتَ ليلةٍ على سطح بيتِنا في “المفرق” أعدُّ النجوم وأخطئُ ثم أعدُها غيرَ مبالٍ بالثآليل التي تطلعُ في يدي وتنطفئ.
العلامةُ، التي تطاردُها عيناي مذاك تدلُ على ساقيةٍ تؤدي إلى نبعٍ ونبعٍ يقودُ إلى سفحٍ حيثُ غصنٌ وأفعى، تحتَ الغصنِ مفتاحٌ، المفتاحُ للغرفة التي نُهيتُ عن فتحها، الغُرفةُ مظلمةٌ، في الغرفة المظلمِة صندوقٌ به صدفةٌ في الصّدفة ورقةٌ مكتوبٌ عليها: لا تلتمسني في المِثْلِ أو الشبه فكلُّ من هو مثلي ليس أَنا وكلُّ من يُشْبِهُني هو غيري، لستُ بعيدةً ولا قريبةً، علامتي أقربُ إليكَ من حبل الوريد".
ستُذكِّرني لحظةُ الاستلقاء على سطح بيتٍ في بلدة المفرق الأردنية -التي سيقودُني ترحالي أنا الآخر للمرور على شاخصاتٍ وعلامات طُرقية باسمها- وذلك الانشداد الشعري إليها؛ سيُذكِّرانني دوماً بمشهدٍ مشابه لا يغادرني كنّا نستلقي فيه أنا وإخوتي على سطح بيتنا الكبير في ليالي الصيف الوادعة إلى جوارِ أبي الذي يرسم بإصبعه مسار الدُّبَّين الأكبر والأصغر، أتذكر أيضاً كيف كنا نتداول خرافة الثآليل بيقينٍ لا يأتيه الباطل! تلك براعة الشعر في القبض على الأجمل في الحكايا، أقول في نفسي، ذلك الكونيّ بنكهته الذاتية ولغته شديدة الأناقة تليق بعواطف من تلك التي يحفل بها نصّ أمجد.
ستمضي بي السّنون بعيداً عن سطح بيتنا وعن أماسي حلب ولياليها إلى الخليج العربي، ومن هناك سأتواصل مع أمجد ناصر الذي ألقى رحاله في لندن حيث يعمل مشرِفاً على القسم الثقافي في صحيفة القدس العربي، وعلى خِلافِ أنصاف الآلهة مُحرِّري الملاحق والصفحات الثقافية العربية "المستألِهين" يردُّ أمجد ناصر على  الرسائل التي تصل بريده الإلكتروني ويتفاعل معها بمنتهى المهنية واللطافة، ومثلما لم يخِب ظنّي بنصّ أمجد الدمث، كانت هذه هي الحال مع شخصِه أيضاً، لعلّه الشغف، قلت في نفسي، ما يحقق هذا الانسجام النادر الذي تُرجِمَ من خلال
الحضور اللافت لتجربة "ضفة ثالثة" التي أشرف عليها أمجد ورعاها بشغفه ودأبه على مواكبة الجمال. ومثلما يليق بسليل تجربةٍ نضاليةٍ وأدبية رائدة، كانت فلسطين التي نشأ جيلنا على قضيتها، في صُلبِ سيرة أمجد معاشاً وأدباً، "فلسطين نجمتنا الهادية" كما يقول أمجد في حفل تكريمه الذي نُظِّمَ مؤخراً في عمَّان، كان هذا سبباً آخر من الأسباب التي دفعت كاتب هذه الكلمات إلى إجلال هذه التجربة وتقديرها.
على الطريق البريّة من الرياض إلى سراقب، سأعبرُ الأردن أنا المغترب المستجد بسيارتي حيث نسيرُ لمدة ساعتَين تقريباً بسرعةٍ متدنيةٍ إلزامية على طريقٍ صحراوي مهترئ لكثرةِ روّاده وقلة صيانته، سأمُرُّ على شاخصاتٍ تُشير إلى بلدة المفرَق التي عرفتُها أول ما عرفتها في نصوص أمجد لتقفز الصورة إلى ذِهني طازَجةً ولأستغرق في سيلٍ من الخواطر والذّكريات عن ليالي الصيف مستحضراً قول أمي (كان هذا يحدث بالتفصيل في كل مرةٍ أعبر فيها ذاك الطريق) "بني آدم متل الطير يا ابني". تتوارد إلى خاطري جُملةٌ من الصور والكلمات التي مررت بها في غير موضِعٍ ممّا قرأته لأمجد.
أنا الآن في ليل لندن أعيدُ قراءة "حياة كسرد متقطع"، أمّا أمجد، وبعد ترحاله المديد، ذهب لائذاً بنجومه الأُوَل في ليالي المفرق حيث بيت "محمد وفضة وتسعتهما" وحيث مُبتدأ السيرة التي جلَبت كل هذا الشعر، فليكن هواء المفرق برداً وشِفاءً لقلبه الشفيف. أفتحُ الباب فلا أرى نجوماً في سماء لندن، أُغمِضُ عينَيَّ وأنظر في قلبي فأسمع صدى كلماتٍ من نصّ "نجوم لندن" استقرّت في الذاكرة مثل وشم:

"... في زمنٍ آخرَ، أو في حياة أخرى، كمغربيٍّ على الأغلبِ، سمعتُ في مقهى شعبيٍ بفاس القديمة رجلاً يقول لمجُالِسِه المهموم:

لا تبحثْ عن العلامةِ
لا تعترضْ طريقَها
دعكَ من الشقوقِ والخرائبِ
لا تتَّبع أنجماً ضللتْ قبلَك رعاةً وعاشقين
فالعلامةُ تأتيكَ من حيثُ لا تحتسب
أو يخطرُ لك على بال.

***

في لندن التي أقيمُ فيها الآن بقناعِ شخصٍ وهمي فارّاً من نبوءة أمي التي يرنُّ فيها اسمي الأولُ كذكرى مفزعةٍ "يا يحيى لن تعرفَ نَفْسُكَ الراحةَ" من الصعب، على كل حال، أن يستلقي المرءُ على سطحِ بيتهِ القرميديّ المائل ويعدُ نجوماً هجرتْ مواقعَها".
ما أقصر المسافات حينما يكون الشِّعرُ حِصانَك، أقول في نفسي وأنا أغلِق باب ليلتي اللندنية هذه فيما أفكِّر بالطريق الصحراوية، حيث ثمة علامةٌ زرقاء مكتوبٌ عليها "المفرق".