هل الهولوكوست جزء من ذاكرة فلسطين؟
لماذا هذا الشعور بالإثم؟
إذا كانت التعاطف الإنساني مع اليهودي المقتول ظلماً واجباً إنسانياً، يدركه الضحايا قبل غيرهم، فلماذا هذا الشعور بالإثم إزاء جريمة صنعها التاريخ الأوروبي الحديث؟ كان هتلر اتجاهاً ثقافياً ـــ سياسياً، لم يكن فرداً وحيداً يهوى إراقة الدماء، وخاصة دماء اليهود، ولم تكن اللاسامية شأناً ألمانياً خاصاً، كان قد سبقها أكثر من "بوغروم" في "روسيا وأوروبا الشرقية، وكان الفرنسيون يتحدثون عن قضية "دريفوس" في مطلع القرن العشرين. وكان العرب في ذاك الزمان جماعات خاضعة للاستعمارين الفرنسي والإنكليزي.
والأرجح أن "الاعتراف الضروري بالهولوكوست" عنوان لفتنة المنتصر، إذ على الأضعف أن يحاكي الأقوى، وعلى الفقير في بلدان الأطراف الخاضعة أن يبرهن عن "تحضّره" بترديد ما تقوله أطراف متحضّرة، حتى لو كانت هذه الأطراف هي التي قتلت العرب واليهود معاً. فلولا الطائرات الإنكليزية لما هُزم الفلسطينيون في ثورة 1936 ـــ 1939، ولولا الصناديق المحملة بالمواد المتفجرة التي كانت تلقيها الطائرات على القرى لما وصل الفلسطينيون إلى هزيمة 1948، ولولا الإنكليز، بعامة، لما قامت إسرائيل.
والأرجح أيضاً أن الهولوكوست، الصادر عن فتنة الأقوى، محصلة لصناعة متينة الأطراف دعاها اليهودي الأميركي نورمان فنكلشتاين "صناعة الهولوكوست" ـــ نشرته دار الآداب اللبنانية ــــ ترجمتها كتب لا متناهية وجوائز أكاديمية لدراسات كاذبة- "بيترز وكتابه: منذ زمن سحيق"- وسينما هوليوودية ورأس مال هائل وكفاءة في الإعلان والتسويق ودعاية وترهيب متواتر، بل إن الفيلسوف الشهير ثيودور أدورنو كتب "ماذا ما بعد أوشفيتس؟"، كما لو كان التقويم الإنساني يحتاج إلى ميلاد المسيح، بداية، وإلى الهولوكوست كبداية جديدة. لذا حاول الصهاينة اختصار الشر الإنساني الجذري في "الهولوكوست"، واحتكار الاضطهاد والضحية، ونسوا أن الحرب العالمية الثانية حسمت حياة خمسين مليون من البشر، من بينهم ثلاثة ملايين أو أربعة من اليهود ـــ استلمت الصهيونية مقابل حياتهم ملايين الملايين من الليرات، كما لو كانوا مشروعاً تجارياً مزدهراً، واجب الاستمرار.
وإذا كان لليهود "ضحاياهم" التي زهقت أرواحها في فترة محددة، فإن مجازر الفلسطينيين مستمرة منذ وعد بلفور ـــ 1917 ـــ إلى اليوم، عرف منها الفلسطينيون عشرات قبل 1948، ومنها مجازر الطنطورة واللد ودير ياسين وغيرها، وعرفوا ما يوازيها في منافيهم، أشهرها تل الزعتر وصبرا وشاتيلا، التي دفعت باللاجئين إلى جهات العالم الأربع. ولا تزال مجازر الفلسطينيين مستمرة حتى اليوم، تشهد على ذلك غزة العظيمة قبل غيرها، وتشهد عليها فلسطين أرضاً وتاريخاً وآثاراً ومكتبات وبيوتاً ومزارع وآمالاً متمادية.
هل الهولوكوست جزء من الذاكرة الفلسطينية؟ وإذا كانت الذاكرة توقظ التاريخ وتلوذ به، فما علاقة صناعة الذاكرة الصهيونية بذاكرة الفلاحين الفلسطينيين وبهؤلاء الذين ماتوا اختناقاً في "رجال في الشمس"؟ وإذا كان غسان كنفاني وجبرا إبراهيم جبرا وحسين البرغوثي توقفوا أمام الصهيوني، كنقيض لصاحب الحق الفلسطيني، فما ضرورة أن "يتبارك" روائيو جيل آخر بنقيض تصادر آلته القمعية حياة الفلسطينيين كل يوم؟ لم تبدأ الصناعة الصهيونية الإعلامية الخاصة بفلسطين مع الظاهرة النازية، ولا مع وعد بلفور، بل إنها متواترة وعريضة المنكبين منذ زار الأديب الأميركي مارك توين فلسطين في القرن التاسع عشر، وصولاً إلى كاتب بولوني هامشي، ذكره فنكلشتاين في كتابه، انتسب، زوراً، إلى زمن الهولوكوست كي يحظى بجائزة أكاديمية. بداهة أن كل أدب حقيقي يدافع عن قيمة الإنسان في كل مكان، ولا ينسى السياق، الذي يفضي نسيانه إلى تقديم الإجابات على الأسئلة.
كان إدوارد سعيد "المثقف اليهودي الأخير"، كما قال عن نفسه، قد طرح "المسألة الفلسطينية"، في سياق أميركي يعرفه ويجتهد في أخباره معنى الحقيقة، دون أن يفلح في جهده العظيم كثيراً في بلد ألزم اللغوي اليهودي الشهير ناحوم تشومسكي بنشر مقالاته المدافعة عن الحق الفلسطيني في بريطانيا، ذلك أن "الأوساط الأميركية الأكاديمية المتنفذة" لا تقتنع من دون برهان ملموس، لا يتوفر في حالة اللاجئين الفلسطينيين!!!.
قال الفيلسوف الفرنسي جيل ديلوز الذي قضى منتحراً: "ظُلم الفلسطينيون حين أخرجوا من بلادهم، وظلموا في المنفى، وظلمتهم من جديد اقتراحات سياسية تجردهم من حقوقهم..". وتحدّث ديلوز عن الظلم والحق، ولم يأتِ على ذكر الهولوكوست!