مصطفى خضر.. الشاعر ليس حجراً

أنور محمد 3 يناير 2020
آراء
"الشاعر أو الشعر عنده نداءٌ ملحمي، بيانٌ بطولي"
لا يمكنُ تلمُّسُ مقدار الألم الميتافيزيقي في أشعار الناقد والشاعر مصطفى خضر (1944- 2019) الذي فارقنا في مدينة حمص السورية، بعد أن ترك لنا عشر مجموعاتٍ شعريّة وثلاث مجموعات للأطفال وثلاثة كتب نقديَّة، ولا قوَّةَ صوت الصراخ الخاوي في أعماقه من هذه الحياة، ولا سخرية أسئلته الفلسفية عن قلق الإنسان ورعبه حيال وجوده من (قوَّة) لا تستحي.

مصطفى خضر شاعرٌ ظلمه انضباطه السياسي، واحتكامه إلى القانون غير العادل لقوَّة حكَّام الأرض، ومعاونيهم ونوابهم من أشباه المثقفين والمفكِّرين والأدباء. لكن هذا لم يمنع أن نرى إيماءاته الثائرة- ثورته ونَقَمته وسخطَه وحتى اهتياجه وهو يعرِّي في أشعاره كلَّ الحكايات الساخنة التي ينسجها الأنصافُ عن النصفِ وعن عدالته:

 كلُّ شيءٍ هو ضدُّ الشعرِ:

تاريخُ القنانهْ

ونضوجُ الديكتاتورياتِ، تلقيحُ النفاياتِ، نظامُ الفضلاتْ

دولٌ تغلي بأرقامِ الولادات وأرقامِ الوفياتِ،

محطاتٌ، طقوسٌ ورموزٌ.. شبكاتْ!

رغبةُ التسعيرِ والتصديرِ، إفلاسُ التقانهْ!

مشيخاتٌ وإماراتٌ.. حروبٌ، فلسفاتٌ..

نظرياتٌ وشعرٌ.. قيمٌ في سلةٍ للمهملاتْ..

بورجوازيونَ للبيعِ وصرافونَ، تجارٌ، مغنّونَ،

وأعضاءٌ من المعدنِ، نفطٌ..

وقوى صاعدةٌ، هابطةٌ.. مصطلحاتٌ. هندساتْ..

دبلوماسيونَ من حبرٍ، عبيدٌ، نخبٌ، دولارُ نثرٍ،

سلطةٌ، آلهةٌ منفيةٌ، سوقٌ وثرواتٌ،

عباداتٌ وأنسابٌ، قصورٌ وبيوتْ..

ثورةٌ، مؤتمراتٌ، طبقاتْ..

كائنٌ يحيا وحيداً، كائنٌ حيٌّ يموتْ!

شدٌ ورخي، اشتعالٌ وإطفاء- اشتعالٌ من نصف (مخبول) يساوي وزنَ وحجمَ ومساحةَ النصف المرتبك؛ النصف الكلُّ الذي يحكمه. وهذا ما كان يؤرِّق الشاعر مصطفى خضر؛ كيف لسبعة، ثمانية آلاف؛ سبعين، ثمانين ألفاً؛ سبعةُ، ثمانية ملايين من المخبولين يحكمون ويتحكَّمون بمصائر سبعةِ، ثمانية مليارات من البشر؟!.
حماسةٌ وتحليق، عواصف جامحة، ألحانٌ مأساوية، إشاراتٌ أسطورية، صورٌ حرَّة وعارية، فكرٌ حيّْ. هو ما يتدفَّق من أشعاره، فالشاعر ليس حجراً:

كيف لا أبتدىءُ التشكيكَ والتفكيكَ من سنبلةٍ أو من حجرْ؟

ما الذي يمتلكُ الروحَ؟

وللشرقِ، الذي يمتلكُ التاريخَ، أنقاضٌ تتوَّجْ!

والفتى من حجرِ يخلو بأنثى من حجرْ!

أيها الوقتُ المضرجْ:

ما الذي يبقى لمن يحيا إذاً، كي يُحتضرْ!

آهِ، لو أني حجرْ!

الشاعر أو الشعر ببساطة عند مصطفى خضر نداءٌ ملحمي، بيانٌ بطولي، حدسٌ يحاكم العقل: ماذا فعلتَ بالإنسان؟.. حروبٌ ومجاعات، أقنعة وأصباغ، أوثانٌ تُسلمُنا لأوثان، دماءٌ تغتسلُ بالدماء، تكوينٌ لا تصوير، حيٌّ لا ميِّت، سامٍ لا مُنحط. وهذا ما جعل بينه وبين جيله من الشعراء تلك القطيعة الاجتماعية والسياسية؛ إنَّه لا يُخاتل. الأعور أعور، والأعمى أعمى حتى يُبصر، والنوم غيرُ اليقظة، والرؤيا غير التخييل.
في حمص- قلب سورية- سكنَ ولم يتحرَّك باتجاه الانعدام الوجودي لمثقفين يزعقون؛ يُهوْبِروُنَ  شعراً ونثراً وألواناً؛ يؤلِّهون ويؤبِّدون وقد انفكَّت قواهم ورؤاهم عن الحاضر، فيما حربٌ كافرةٌ تذهبُ بالناس إلى غياب الوجود أو اللا وجود. حيث تعطَّلَ فعلُ الحواس عندهم وضاعت البوصلة، فلا الشرقُ شرقٌ ولا الغربُ غربٌ، ولا الحيوانُ حيوانٌ، ولا الإنسانُ إنسانٌ:

إنها السوقُ إذاً... مدخلنا للورقاتِ الساحرهْ

لشعوبٍ هُشِّمت غائبةً أو حاضرهْ!

إنَّها اللعبةُ!

ولتنقلبِ الأدوارُ، ولتختلطِ الأدوارُ..

فاللعبةُ، تبقى بيننا زائفةً: رابحةً أو خاسرهْ!

ومن النقطةِ خطٌّ، ومن القوسِ شعاعٌ، وترٌ، قنطرةٌ، أو دائرهْ..

تزحفُ الأشكالُ بالأشكالِ والأوراقُ بالأوراقِ والأدوارُ بالأدوارِ.

تمحو كلَّ شيءٍ.. ثمَّ تلغي الذاكرهْ!

 مصطفى خضر مع ذلك بقيَ مؤتلفاً مع الحياة لأنَّه العارفُ الأسمى؛ لأنَّه بقي في صيرورة الوعي يتخطَّى ثوابت الهوية ويكسرها بأسئلةٍ مفتوحةٍ على ذاك المُتناهي وعلى ذاك اللا متناهي، فنرى اللغة عنده تنفجر انفجاراتٍ تكشفُ عن حدسٍ شعري يتخيَّلُ الألمَ الإنساني لا يُصوِّره، باعثاً إرادة القوَّة عند الإنسان:

للتعرِّي برهةٌ مبتكرهْ!

تغلبُ الساحرَ والمسحورَ والسحرَ، وتنفي السَحَرهْ

سقطتْ أقنعةٌ فيها،

اهتدى اللحمُ إلى سرِّ سريرٍ غامضٍ أو موحشٍ،

ثمَّ أضاءتْ عرباتٌ، عتباتٌ، وخيولٌ خطرهْ!

وانتمى اثنانِ إلى الواحدِ!

حنَّتْ، ثم أنَّتْ كوةٌ أو قنطرهْ!

واحتمى الجسمُ بجسمٍ.. آهِ، ما أرحبهُ! ما أكثرهْ!

 مرئيٌّ يذهبُ إلى اللامرئي وقد فكَّ قيد اللغة، فالشعرُ كما الحياة؛ لغةٌ، كتابةٌ، تحولٌ وانوجاد، بياضٌ بياضْ، صحوٌ صحوْ. فجدلية الحريَّة تعني أن يتمرَّد الشاعرُ وعياً وفعلاً، وهذا ما طبَّقه مصطفى خضر على نفسه، فيُحرجنا بلغته، بجملته الواعية؛ بإيقاعاتها الموسيقية التي تتحكَّم بالفكرة وبأثيرها الوطني؛ أثيرها الإنساني، وقد صارت تتدفَّقُ مثل ينبوعٍ تهدرُ وتنطلقُ وتعصف؛ لكن رقيقة وهي تصدح لتُحقِّق (انوجادها) وسيادتها، فالقصيدة عند مصطفى خضر ذات إيقاعاتٍ من مَهابةٍ وجلالٍ وحماسة:

إنَّ شعباً بين أجزائي وأعضائي يُقيمْ

يولدُ الكائنُ فيهِ، ثمَّ يحيا، ثمَّ تحيا أبجديهْ

دَوَّنتها منذُ آرامَ عبارهْ

واهتدتْ فيها خليةْ

هُشمتْ بين رقيمٍ ورقيمْ

وبشرقِ الأرضِ شمسٌ وسماءٌ وحضارهْ..

لِمَ لا يمتلكُ العالمُ رؤيا؟

لِمَ لا يطلعُ في نصٍ جديدٍ وقديمْ؟

 لحنٌ مأساوي لكن من ينبوع لغوي فيَّاض متدفق، لا نظريات شعرية مُسبقة الصنع يطبقها على قصيدته؛ بل قصيدةٌ شعرٌ، تشُقُّ ثوبَ المعادلات والنظريات الرياضية حيث لا جنس ولا تجنيس للإبداع، بل انبعاثٌ كما النُطفة المنوية حين تقذفها بالرحم يحبلُ ويحبلُ بالحياة، فتنشرُ عبيراً روحياً احتفالياً لا يُبقي ولا يَذَرْ:

أتريدُ الآنَ أنْ أحيا، فأحيا لأريدكْ!

كلَّما غبتُ، وما غبتُ، ستلقاني شهيدكْ! 

*ناقد سوري

كلمات مفتاحية

شعر عربي حديث أدب سوري أدب سوري حديث