محنة السجع
* * *
اختبرتُ في شبابي سطوة أن يقول المرء كلامًا مسجوعًا بلسان الأوائل والأولياء والمشاهير، وألَّفتُ أمثالًا عديدة هزَّ كثيرون رؤوسهم على وقع سجعها رغم إشكاليات منطقها.
أعرف جيدًا نمطية تسجيع الأمثال، وكان من السهل عليَّ تبكيل الأمر، وتكبيل من يخلب لبَّهم السجع.
ضمن هذه السياقات ورَّطتُ أمي في أحد "مقالبي". كنت حينها في الصف التاسع، أشتغل معها، خلال العطلة الصيفية، في حقول الآخرين.
حافظة أمي من الأمثال لا تنضب، وقد أرهقتني بكثرة ما رشقتني به من أمثال لم أرَ فيها معنى مهمًا أو فكرةً تستحق التأمّل. لم تكن حصيلة أمثالها سوى كلام مسجوع ركيك في غالبه وينطوي على معاني لا تلقى صدى في نفسي. فكَّرتُ أن أضع حدًّا لتدفّق أمثالها، فقلتُ كمن يحدِّث نفسه ولكن بصوت مسموع: العمى على هذا الشهر الخانق، فعلًا صدق أهل المثل حين قالوا تموز.. شهر البرد والنمّوز.
قالت أمي كما تقتضي العادة وبداهة المتعارَف عليه: اي والله يا ابني. الله يرحم أهل المثل، ما من شيء إلا قالوه.
تمالكت ابتسامتي وسألتُها إن كانت فهِمتْ معنى المَثل فتردَّدتْ. قلت لها: تعرفين أننا في شهر تموز، وقلتِ لي منذ ساعة مَثَلًا ملخصه أنه في شهر تموز يغلي الماء في الكوز (أي في إناء الفخار الذي يحمله معهم الفلاحون إلى الأرض ليرطّب جوفهم بماء بارد في الحر اللاهب)، ثم أضفتُ: كيف تقبلين أنَّ تموز في مَثَلك يجعل الماء يغلي في الكوز، وأنا قلت في مَثَلي إنه شهر البرد؟
انتبهت أمي إلى المفارقة وبدا عليها الإحراج، فقررتُ الإمعان في التبكيل والتكبيل: هو شهر حارٌّ إذًا، تحرق فيه الشمسُ ذنب العصفور كما تقولين، وليس شهر البرد كما ادّعيتُ أنا في مَثَلي، ثم بربك هل تعرفين ما معنى النمّوز؟
قالت إنها لم تسمع بلفظة النمّوز من قبل. قلت وأنا أيضًا لم أسمع بها، ولكني اخترعتها من أجل التسجيع مع لفظة تموز.
ثم حاولت أن أبسِّط لها قصة الصاحب بن عبّاد وزير أمير البويهيين الذي كتب رسالة إلى قاضي بلدة "قُم" فبدأها بالقول: أيها الوالي بقُم. وحين بحث عن عبارة تالية ذات سجع مناسب، فإن أوّل ما قفز إلى ذهنه كان فعل الأمر "قُم" فأكمل الرسالة بقوله: قد عزلناك فقم.
يومها قال القاضي: إنما أنا معزول السجع من غير جرم ولا سبب.
لو افترضنا أن رسالة الصاحب بن عبّاد كانت موجهة إلى قاض بنجد مثلًا، فأي مصير يمكن أن يرسمه السجع لذلك القاضي؟
أحد الاحتمالات وربما أقربها متناولًا أن يكتب ابن عبّاد:
أيها القاضي بنجد.. لك منّا كل مجد
ويمكننا أن نلهو بهذه اللعبة طويلًا ونحن نرسم مصائر ما كانت لتخطر على بال من قبيل:
أيها القاضي بمصر.. سوف نجزيك بقصر
أيها القاضي بجوبا.. أنت مخلوع وُجوبا
وهكذا إلى آخر ما تستطيع محنةُ السجع في جميع المقامات والمجالات.