قبل أن يُرثى المسرح الحيّ!

آراء
ممثلون يقدمون مشهدًا مسرحيًا في شارع في باريس(18/3/2021/فرانس برس)
يحتاج رصد حالة الفنون هذه الأيام إلى سنين قادمة، حينما تقف البشرية وتقيّم المرحلة الفنية وقت الوباء، أما قول اليوم فهو طارئ مثلما زمنه، يتعلق بنقد وقراءة حركة الفن (الآن/هنا)، تلك الثنائية التي يقوم عليها المسرح، عرّاب الفنون وقيدومها. المسرح، الفن الذي قد يكون فعل صناعته اليوم، هو أكثر الأعمال الفنية صعبة التحقق أمام شبكة قوانين الوباء الجديدة. كل الفنون تعرضت لقدر من المنع والإبعاد والعزل والحظر، إلا أن هذا القدْر بقي متفاوتًا بين فن وآخر، استطاعت بعض الفنون إيجاد منافذ افتراضية تطل منها على المتلقي، كذلك لم يتأثر سياق الفنون الفردية، مثل تلك الفنون التي تتطلب عملًا جماعيًا. أثر الوباء وقوانينه كان ثقيلًا على الفن بصفة عامة، بيد أن المسرح، الفعل الفني الجماعي، كان أكبر المتضررين، إن لم يكن قد بدأ بالاحتضار بعد توقف دام عامًا، ولا أحد يعلم متى ينتهي. (هناك تكهنات بإقامة بعض المهرجانات المسرحية الحية في الصيف).



المسرح وخطيئة التجمع
ما إن نسجت الجائحة شبكة قوانينها، حتى حُكم على المسرح بالتوقف إلى أجل غير مسمى. وعُدَّ واحدًا من أكثر الفنون خطورة في نقل العدوى. حجة العلم في ذلك ما يحتويه هذا الفعل من تجمع لفاعليه ومتلقيه في مساحة محدودة. خلت الخشبات من أي عرض حي، وأخليت المسارح من جماهيرها. نزحت بعض فنون المسرح إلى الفضاء الافتراضي، وجدت الموسيقى والغناء بعض النوافذ للاتصال مع المتلقي، وتاهت عروض الرقص الحي وفنون الأداء بكيفية الوصول إلى متلقيها. أُطفئت أضواء المسارح حتى إشعار آخر، وأُسدلت الستائر بعد أن أصبح التجمع واحدًا من الخطايا الكبرى.
منذ فجره، ارتبط المسرح بالتجمع والتجمهر، وليس ذلك ببعيد عن فن ولد من رحم الطقوس والاحتفالات اليونانية، ونشأ بين المجاميع المحتفلة والمتعبدة. لا يمكن للفعل المسرحي أن يتم من دون تجمعٍ حاضر وعيونٍ ترى، هو فعل يقوم على التجمهر، يحيا على المشاهدة، ولا يقدّر له الحدوث من دون أن يُرى، لحظةَ تقديمه. على اختلاف تعريفاته النقدية، وتحوراته الفنية التي لا تنتهي، يبقى جذر المسرح راسخًا بما هو حدث اجتماعي. حدثٌ دامَ رغم تعاقب الأزمان والسنين، ولم يمحه انفجار فنون المشاهدة منذ انطلاقة الصورة ـ الحركة (السينما)، وصولًا إلى عصر انفجار الصورة الذي نعيشه اليوم.

كونه حدثًا اجتماعيًا، تعرض المسرح، كما الأحداث الاجتماعية الأخرى، إلى التقييد والتباعد والتوقف التام، وشُمل بما شمل فيه أي فعل اجتماعي يتطلب التجمع، قيد في حدود، ومنع سبب وجوده. من جهة أخرى، أصيب المسرح، على اعتباره واحدًا من الفنون المتضررة من توقف عجلة الإنتاج الفني، وتباطأت حركة إنتاجه حتى كادت تتجمد تمامًا. هو ليس بالفن الفردي القادر على الاستمرار في العزل، ولا يمكن خلقه بمزاج فرداني إلا في حالة الكتابة المسرحية، وبناء النص المسرحي، تلك العملية التي تبقى أدبًا مسرحيًا ما لم تذهب إلى العروض المسرحية الحية، قد يكون أدبًا مسرحيًا رفيعًا وخالدًا، لكن يبقى مسرحًا خامًا ما لم يأتِ إلى (الآن/هنا) شرط المسرح الأكبر، وثنائيته المستحيلة.



فاوست وثنائية الآن/ هنا المستحيلة
عند الحديث عن المنافذ الافتراضية التي وجدتها الفنون، لا يُقصد أن تلك الفنون تمكنت من الوصول إلى متلقيها، كما كانت الحال قبل عام الوباء، وليس في استطاعتها ذلك في ظل حجرها الإجباري، وعزلها الإلزامي، لكن تمكنت الفنون البصرية، من سينما، وتلفزيون، وميديا، وفيديو آرت، من الوصول إلى المشاهد عبر الشاشات الصغيرة والمتوسطة التي تحتل حياتنا اليومية المعاصرة. توقفت المهرجانات السينمائية، وتجمد العرض السينمائي، لكن عجلة السينما لم تتوقف، لا بل وصلت عبر قنواتها الحديثة إلى كل البيوت. ذات الحال كانت مع التلفزيون، وفضاء عمله، ورغم إيقاف بعض عمليات التصوير، لكن العرض استمر، وبغزارة أكبر من السابق، بسبب عودة البشرية إلى المنزل، والجلوس أمام الشاشات طوال الوقت.
وحده المسرح من تاه في سبل الوصول إلى متلقيه، شروطه تفرض عليه أن يصل إلى مشاهده مباشرة، من دون وسيط، هو فن حي لا يمكن أن يقوم وراء الشاشات، مهما تغيرت أساليب إخراجه وتطورت، لن يكون مسرحًا طالما كان بعيدًا، يجري في زمن غير زمن المشاهدة، لن يكون مسرحًا ما لم يكن يسري ضمن ثنائيته الأزلية، ما لم يجرِ (هنا) أمامنا، و(الآن) في هذه اللحظة بالذات، خاليًا من شوائب النقل المباشر، صافيًا من أخطاء التكنولوجيا الحمقاء. لا يعني ذلك الطلاق بين المسرح والتكنولوجيا، على العكس، غدت المسارح، بخشباتها وأعمالها، في مكان مختلف بسبب التكنولوجيا، وفضل الأخيرة على الخشبة كبير، من تطوير أنوار المسارح، وصولًا إلى الشاشات العملاقة، والتجهيزات البصرية الضخمة، لكن حينما دخلت التكنولوجيا إلى المنطقة الخاصة بتكوين المسرح وخلقه فشلَت، وهوى فيها المسرح.

ليس النقل التلفزيوني للمسرح بجديد، ولطالما سجّلت الكاميرا عروضًا مسرحية كانت ستموت لولا أن حفظتها أشرطة الفيديو، وكثيرًا ما استخدمت المسرحيات المصورة كمادة للبحث الأكاديمي والنقد التطبيقي. علاقة الكاميرا مع المسرح معقدة وممتدة لأكثر من قرن، ولا يمكن الفصل فيها بمقال، أو بحث، لكن يمكن القول عن هذه العلاقة الآن، في ظل الوباء، أنها اختلفت كليًا، تغيرت من الجذر، لم يعد التصوير المسرحي خيارًا، خاصًا بالأرشفة والنقل التلفزيوني اللاحق، أو عنصرًا ضمن الرؤية الإخراجية، بل أصبح إجباريًا، إلزاميًا، صار لزامًا على صناع المسرح نقله، وبثه عبر الكاميرات، والعدسات حصرًا، هذا تحوّل جذري في علاقة الكاميرا والمسرح. لأول مرة، يضع التصوير نفسه بوصفه شرطًا لتكوين المسرح، لا خيارًا. خرجت الكاميرا من حيزها الفني، لم تعد واحدًا من وسائط المسرح مع متلقيه، بل هي الآن، في إغلاق المسارح، الوسيط الوحيد، وكأن المسرح أقام معها معاهدة شيطانية، يدفع ثمنها اليوم، معاهدة كتلك التي وقّعها بطل المسرح الأشهر، فاوست.



صانع المسرح

فريق تمثيل يتدرب قبل تقديم أداء مجاني لروميو وجولييت في نافذة متجر شاغرة في شارع جانبي غربي في مانهاتن/ نيويورك (13/ 3/ 2021/ فرانس برس)                 


لم تهز الجائحة مخيال الفنانين وحسب، بل هزتهم اقتصاديا أيضًا، ونال الحقل الفني كاملًا حصته الوفيرة من الأثر الاقتصادي العام للوباء، لكن في النظر تحديدًا إلى صنّاع المسرح وشغّيلته، تجدهم محاصرين بين عجلة إنتاج اقتصادية، ارتباطات وعقود ومواعيد، وبين شروط تحقيق فنّهم صعب المنال والتحقق. في البداية، رفض الجميع شكل مسرح الـ(أون لاين)، واليوم، بعد عام، جل المسرحيات تعرض في بث مباشر على وسائل التواصل، بل هناك مهرجانات مسرحية قدمت عروضها افتراضيًا. في الوقت ذاته، لا يمكن القول لصناع المسرح اليوم: توقفوا عن العمل، فنكم أصبح ترفًا، ولا يمكن أن يصل إلى الجمهور عبر هذه القنوات المشوشة. ليس لأنهم مهمومون بفن يحتضر (ولا يمكنه الموت بالطبع) وينازع من أجل الحياة والاستمرار، بل لأنهم هم الآخرون داخل عجلة الإنتاج الطاحنة، لا يمكنهم أن يتوقفوا، ليس أمامهم خيار، إذ يختبئ خلف هذا الكم من التنظير مهنةٌ، حالها حال أي مهنة أخرى، مهنة تعاني في سبيل استمرارها.

إذًا، لا يمكن للعمل المسرحي أن يتوقف، ولا منفَذ له إلا هذا الفضاء الافتراضي، لكن هل هذا مسرحٌ حَقْ؟ هل لأثر المسرحية التي بنيت لغرض عرضها الحي، في مساحة حقيقية معينة، ذات الأثر وهي تطل من شاشات الموبايلات والكومبيوترات المحدودة؟ هل يمكن القول بهذا الشكل من المسرح المصوَّر إنه نوع مسرحي معاصر؟
لا يمكن أخذ قيمة فنية من هذا النوع من المسرح، إلا في حال كان اختيارًا فنيًا، أو لعبة مسرحية ما، أما ما نشهده اليوم من مسرح مبثوث هو مسرح مظلوم (لا علاقة له بمسرح المظلومين بالطبع)، من غير الممكن إطلاق حكم قيمي عليه، مهما تدرج هذا الحكم بين الدهشة والمتعة، وبين الملل المطبق. كيف لعين ناقدة أن ترصد حكمًا نقديًا من زاوية رؤية محددة مسبقًا، وليس من مقعد عشوائي في المسرح؟ كيف لها أن تقرأ عناصر العرض المسرحي كاملة بعد أن تأكلها كوادر الكاميرات؟ تسلِب العملية الافتراضية من المسرح متعته، قد يكون فيها الزمن ـ زمن المسرح يهترئ ويتململ، بينما قد يكون على خشبة المسرح، أمامكَ، لحظةً مشدودة من المتعة واللذة.
يرتبط العرض المسرحي الحي بالمكان، مكان عرضه وإحيائه، لا يمكن أن يكون العرض في مدينة ما هو ذاته في مدينة أخرى، العرض في المدن الكبرى يختلف عن العرض في مدينة صغيرة، قرية، أو بلدة. لكل عرض مكانه الجديد، ولحظة خلقه المرتبطة بالجمهور، طبيعته وتنوعه. أن تقدم عرضك المسرحي في دمشق لا يشبه أن تعرضه في بيروت، أو أن تقدمه في برلين. أن يقدم صانع المسرح مسرحه أمام ألف شخص، ليس مثلما يقدمه أمام مئة، أو عشرة، أما عن عرضه من دون جمهور، من دون طاقة المشاهدين، ولو كانت آلاف العيون الافتراضية تشاهده (الآن ـ هناك)، فهو ضربٌ من العبث، ومحاولة أخرى تُسجّل في تاريخ المسرح الطويل.