محمود شقير يلج عتبة الثمانين شابًا.. حارس القدس

راسم المدهون 26 أبريل 2021
آراء
محمود شقير
في وصوله إلى عتبة الثمانين من عمره، يبدو محمود شقير كاتبًا شابًا، وتبدو تجربته الزمنية مع تلك السنوات التي عاشها رحلة مضنية، شائكة، ومحتشدة بالترقب والفعل الإيجابي، حيث الكتابة لا يمكنها أن تنفصل عن الواقع، ناهيك عن أنه لا يريد لها أن تنفصل، بل فوق ذلك حقيقة أنه "صاغ" عيشها بكيفيته الخاصة التي لا تجعلها قابلة للانفصال حتى ولو شاءت.
بهذا المعنى، وفي إطاره، تتجدد صورته في ذاكرته كما عرفته أولًا قبل أن أراه، وكان في تلك المرحلة اسمًا يتداوله كتاب وشعراء فلسطينيون يحدثونك عن قصة قصيرة كتبها يومًا ما من سنوات الستينيات، ونشرها في مجلة "الأفق الجديد"، التي صدرت آنذاك في القدس، وكان عنوانها "خبز الآخرين". ولم تغب من بال كل من قرأها، إذ عاشت معهم تؤشر إلى كاتب مختلف يتابعون صمته مثلما يتابعون كتاباته، واثقين أنه لا يصمت إلا كي يعود.
محمود شقير في الثمانين من عمره يتابع نشر صور أحفاده الذين يحلو لي القول إنهم "قبيلته" الجميلة، التي وحدها تشبه كتبه السردية على اختلاف أجناسها الأدبية وموضوعاته، وهو الذي كتب للأطفال والكبار بالبراعة ذاتها، وبالانتباهات الذكية والعميقة ذاتها، فحقق حضورًا فنيًا آسرًا يضعه ويضع أدبه في مكانة بالغة الخصوصية.
هكذا رأيته خلال العقود الفائتة، ولا أزال: ابن حركة التحرر الوطني الموهوب، ولكن أيضًا المثابر على رؤية الحياة في حركتها وتغيراتها. ومن يعود اليوم إلى "خبز الآخرين"، سيجد كثيرًا من هذا الذي نقول يحضر في أعماله الكثيرة اللاحقة، بتجليات فنية أشد سطوعًا، إذ هي تسلحت بقراءات متجددة للواقع والحياة، واكتسبت خبرة العاشق، ونباهة الحصيف، المدرك لما في الأشياء وحولها من أشياء وصفات وملامح لا ترى بالعين المجرَدة دائمًا، ولكن بالرؤى، وبصيرة الموهبة.



في تجربة محمود شقير السردية تنوع بين القصة القصيرة والرواية وقصص الأطفال والمسرح، وأيضًا الكتابة الدرامية للشاشة الصغيرة، وهي أجناس أدبية نراه يلجأ إليها كخيارات تعكس إدراكه في كل مرحلة، وما تحتاجه وما توجهه إليه، فهو في كتاباته للأطفال نراه يحرص على البعد تمامًا عن فكرة تقصد "حشر" مقولة ما في سطور قصصه، مثلما يحرص على الابتعاد عن أية رغبة في تكريس "حكمة" ما يريدها أن تسكن رؤوس الأطفال من قرائه، إنه "يرسم" لهم عوالم تتعدد، تختلف، تتناقض صورها بحسب الحياة ذاتها، كما بحسب نظرهم الذي يتعدد. يكتب تجربته الحياتية للأطفال، ثم يعيد صياغتها بكيفيات مختلفة للكبار بالصدقية ذاتها، وإن بخطوط وألوان مختلفة. في كتاباته كلها نحس دبيب حركة المجتمع من دون أن يضع صورته بشكل مباشر أمامنا، بل من خلال زج حالات إنسانية في مواقف مختلفة ومتنوعة والتحديق في ردود فعلها واستجاباتها وتناقضها مع تلك المواقف. هنا بالذات نرى "القصة القصيرة" عنده "مشهدًا" دراميًا شائكًا ومحتشدًا بدراميته التي تجعل القراءة توصل انفعالها وحممها للقارئ ذاته.
اللغة السردية هنا تتنكب أساليب السرد التقليدية، وتحتفل بالحدث القصصي في فنية تتجاوز المباشر إلى "اللمَاح"، والواضح تمامًا، إلى شبه الكامن الذي يعلن عن نفسه في صور غير مباشرة، وإن تكن حادة وبليغة طيلة الوقت. هي لغة سردية تتفاعل مع جزئيات الحدث القصصي بـ"حيادية" تتجنب الوعظ والقول المباشر. وهنا، نشير إلى اهتمام شقير الخاص برسم مشهده الفني باعتناء بالغ يعتني بتجسيد الحالة الدرامية للمشهد بجزئياتها وتفاصيلها الأبرز والأشد تأثيرًا. هو "يرسم" مشهده السردي فينتشله من حالة "الإبلاغ" عن "واقعة" قصصية إلى تحقيق "مقاربة بصرية" تزج القارئ في حالة تأمُل ما يقرأ ـ أو ما يشاهد ـ بمخيلته كي يستعيد بدوره لعبة رسم المشهد هو أيضًا. نرى كثيرًا من هذا في قصصه الأحدث، والتي كتبها وأصدرها في زمن سطوة وسائل التواصل الاجتماعي، وهيمنة "ثقافة الصورة"، التي أصبحت طاغية مع انتشار البث التلفزيوني الفضائي: القصص هنا تستعير "قناع" المخيلة السردية فيما يشبه مسرحًا مرئيًا ـ مقروءًا يستفيد من الأحداث والشخصيات الواقعية التي نراها ونسمع أقوالها عبر الشاشة الصغيرة، فتشغل الناس في بلاد العالم كله.



من بين تجاربه الهامة، أيضًا، تجربته التلفزيونية، خصوصًا عمله المعروف "عبدالرحمن الكواكبي"، الذي أخرجه صلاح أبو هنود. محمود شقير هنا يستعيد حياة وفكر وكفاح الكواكبي انطلاقًا من رؤية بؤرتها فكرة التنوير، وحلم الخلاص الاجتماعي والسياسي العربي مع مطلع القرن العشرين، وتواصل هذه الفكرة أهمية تحقيقها هذه الأيام. الدراما التلفزيونية في "الكواكبي" مشاهدة تمزج المتعة البصرية بجدارة الفكرة وحيويتها، وتنتصر لبلاغة الصورة، الحيَة والمحتشدة بالأمل.
أبرز إبداعات محمود شقير وأكثرها حضورًا هي روايته الهامة "مديح لنساء العائلة"، التي وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر للرواية العربية. هي بالتأكيد تجربة مختلفة، فهي عمله "الكبير" الأول والأبرز، خصوصًا وقد حملت وعيًا فنيًا متطورًا بفن الرواية وأساليبها، وذهبت إلى قراءة الحياة الاجتماعية من خلال "نساء العائلة" بالذات، على ما في تلك الرمزية من بلاغة الإحاطة بمجموع "العائلة" المفردة، والتي ترمز بدورها للعائلة المجتمعية الكبرى.
شقير في "مديح لنساء العائلة" تفتنه فكرة التحديق في التفاصيل الإنسانية الصغيرة، أو التي تبدو عادة كذلك، وهو يعود إليها باعتبارها مفردة إنسانية تكتمل بمحيطها من خلال دورها الإنساني والإجتماعي بالذات، خصوصًا أن ذلك كله لا يبتعد عن رؤية السياسي، ولا يتجنبه، بل يراه في تفاصيل الصورة وشقوقها ومنحنياتها. إنها واحدة من أهم وأجمل الروايات الفلسطينية التي قرأتها في سنوات العقد الأخير.
كتبت مرة أن شقير "حارس القدس"، وكنت ولا أزال أعني أنه حارس فلسطين.