"رباعيات نساء فاس".. متعة الغزل بصوت المرأة

فريد الزاهي 25 يوليه 2021
آراء
كتاب "رباعيات نساء فاس" بنسختيه الفرنسية والعربية



جرت العادة أن نعتبر التغزل شعرًا بالمرأة خصلة ذكورية، والحال أن شعر الغزل ليس ذكوريًا حصرًا، ولم يكن قطّ كذلك. فإذا كان الغزل والتشبيب بالنساء أحد الأغراض الشعرية الأكثر ورودًا في تاريخ الشعر العربي، حتى إن المقدمة الغزلية كانت تتصدر الشعر الإسلامي أحيانًا (كما هو حال حسان بن ثابت)، فإن ما بلغنا من شعر النساء في التغزل بالرجال قليل. ولعل ليلى الأخيلية كانت من رواد هذا القول الشعري، ولم تحذُ حذوها إلا بعض الأسماء في العصرين الأموي والعباسي، من قبيل أم الكرام بنت المعتصم بن صمادح، وهي من شاعرات القرن الخامس الهجري، وليلى العامرية صاحبة قيس بن الملوح، وعلية بنت المهدي العباسي، أخت هارون الرشيد، وغيرهن... والحقيقة أن أغلب هذا الشعر نجده في موسوعات من قبيل الأغاني (للأصفهاني)، والعقد الفريد (لابن عبد ربه)، وأخبار النساء (لابن الجوزي)، والنساء الشواعر (لابن الطراح)، ونزهة الجلساء في أشعار النساء (للسيوطي)، والإماء الشواعر (للأصبهاني)، أو في رسائل القيان والجواري، كما جاءت لدى الجاحظ.
أما في الأندلس، فقد ظهرت شاعرات كثيرات ارتدن مجال الغزل إلى جانب أغراض أخرى، كولادة بنت المستكفي، وغيرها. ومع انتشار شعر الملحون في المدن التي استوطن فيها الأندلسيون في مدن المغرب الكبرى، تطورت ثقافة شعبية راقية تتداول شعرًا نسويًا في الأوساط الحضرية، توازي ممارسات غزلية تمارسها النساء البدويات والصحراويات، يتغزلن فيها بالمحبوب من غير أن يجد هذا الشعر الشفهي طريقه إلى التدوين.



نساء يتغزلن بالرجال
حين كنت صبيًا في البادية المحاذية لمدينة فاس، وبمناسبة العقيقة بالأساس، كانت النساء يجتمعن ويمارسن الغناء بترديد عبارات الغزل في الرجال. وكان هذا الغزل المحتشم أحيانًا يتحول لدى بعضهن إلى ضرب من الهجاء، في تبادل مضحك تمارس فيه النساء هواية قرض الشعر والارتجال الشعري. أما الغزل الذكوري فكان مخصوصًا بالأعراس يمارسه الرجال المتخصصون في ذلك، وخاصة مجموعات الأهازيج والرقص التي كانت تُستدعى لذلك.
وسنوات طويلة بعد ذلك، سمعت من أحد المتخصصين في الأدب الحساني (الصحراوي) عن تقليد تمارس فيه النساء في حلقات مغلقة، وعلى إيقاع الآلات الموسيقية التقليدية، تبادلًا لشعر الغزل. تقوم امرأة بقرض بيت شعري فتجيبها الأخرى، على القافية نفسها، وهكذا دواليك. إنه شعر متداول في جنوب المغرب، كما في موريتانيا، ولا شك أن له مقابلًا أيضًا لدى قبائل الطوارق.




وفي الفترة نفسها، عثرت بالصدفة على كتاب شعري أصدره محمد الفاسي (1908 ـ 1991) في بداية الستينيات، وهو أحد المتخصصين المغاربة الأوائل في التراث الشعبي، بعنوان "رباعيات نساء فاس (العروبيات)"، وقد حاضر الرجل عن هذا الشعر باللغة الفرنسية في فرنسا، وعمد إلى ترجمته إلى اللغة الفرنسية. وهذا الرجل الذي كان من أوائل المغاربة المتخرجين من جامعة السوربون عام 1932، كان من رواد المحققين لتراث الرحلات والتاريخ، ومن أوائل المهتمين بالأدب الشعبي، كالملحون. وقد شغل في بدايات الاستقلال منصب وزير للتربية والتعليم.
ضاع مني الكتاب، إلى أن عثرت على نسخة منه مؤخرًا بكثير من الفرح والحنين. والغريب في الأمر أن ظاهرة من قبيل هذا كان يُنتظر منها أن تحظى مبكرًا باهتمام الإثنولوجيين الفرنسيين، غير أن انغلاق المجتمع النسوي، واستغلاقه على الذكور، كما على الأجانب، جعل تداول هذه الأشعار الغزلية ينحصر ويتوارث بكتمان كبير في مجتمع النساء. ويذكر محمد الفاسي أنه انتبه إلى هذه الأشعار في طفولته، حين كانت النساء في البيت يتداولنها، فبادر الرجل إلى جمعها وتدوينها وحفظها من الضياع، مع التحولات الاجتماعية الحداثية التي كان يعيشها المغرب حينئذ، والتي بدأت تعصف بمكونات الذاكرة الشفهية.
وحين نشر محمد الفاسي ترجمتها إلى الفرنسية، تلقى رسالة من ليوبولد سيدار سنغور، العاشق للأدب الشعبي والفنون الأفريقية، من جملة ما جاء فيها: "والآن وقد عرّفتنا بهذه الأشعار نحن جميعًا شعراء وأصدقاء الثقافة، تقشعر أبداننا عندما نفكر في أن مثل هذه التحف الشعرية كانت معرضة للتلَف المُبيد".



رباعيات النساء، بوح بالعشق

محمد الخامس (يمين) مع محمد الفاسي حين كان وزيرًا للتربية والتعليم


يَعدُّ الفاسي أن رباعيات النساء هذه لا تشبهها في العالم إلا أشعار "الغايشات" اليابانيات. والأكيد أنه راح بعيدًا جدًا، لجهله بشعر النساء الحسانيات الصحراويات، وربما بأشعار النساء الأمازيغيات، التي ننتظر البحث فيها. إنها أشعار كانت تشكل جزءًا من مرح النساء، ومن عالمهن الذاتي، إذ كانت تُنشد أو تُقرَض خلال النُّزَه التي كانت تقيمها العائلات الفاسية يوم الجمعة وفي الأعياد، وبالأخص في فصل الربيع، في البساتين المحيطة بالمدينة؛ "حيث تعلق الأرجوحات وتأخذ كل فتاة تطيش فيها بدورها، وتغني هي أو النساء الواقفات حولها، "عروبيات" (أي رباعيات)، إما من نظمهن، أو من محفوظهن. وقد كانت هذه الأشعار تنتقل بالرواية والحفظ من الأمهات والجدات إلى بناتهن. إنما لا يُعرف اسم الناظمة، بل كانت تسعى كل من نظمت شعرًا في إخفاء نسبته إليها لأنها تخشى القيل والقال، حيث كان من الحياء أن تعلن فتاة، أو امرأة، عن حبها، ولو لخطيبها، أو بعلها" (ص3). كما تتخلل حلقات الشعر هذه الزغاريد، مما يدل بعمق على كونها لحظة خلوة نسوية ومرح الهدف منها تبادل العواطف والمشاعر، من عشق وهجر وشوق وعتاب.




ومع أن هذه الأشعار الشعبية تسمى رباعيات، إلا أنها كانت تتجاوز الأربعة أبيات، إلى خمسة أو أكثر، كما هو الأمر في شعر الملحون. وهي لا تلتزم بالقافية، أو الرويّ، كما هو الحال في الشعر الفصيح المنظوم، لأنها كانت تُقرض على السجية، وترتجل في الغالب ارتجالًا. وأغلب شعر نساء فاس تعبير عن الحب لشخص لا يسمى، وعتاب على الفراق، وتعبير عن الشوق. وهو في ذلك، كما في التعابير المستعملة، يقارب أحيانًا شعر الملحون، سواء في عربيته الوسيطة، أو في عباراته ومجازاته وصوره. فهو يصف طبيعة الحب ومخاطره وآلامه ومصاعبه:
"مثّلت الحب لواد غارق فيه الما (أتصوّر الحب مثل واد عميق المجرى)
والقلب عشيق تا يبادر يقطع فيه (وقلبي العاشق يبادر إلى قطعه)
ورمى رجله بغير مشرع في الظلما (يرمي برجله بلا تفكير في الظلمة)
وغباه الما وشير لي بيديه (فغرق في الماء وصار يشير لي بيده)
محبوبي بغا يسلم وأنا ما بغيت نسلم فيه (محبوبي أراد الاستسلام وأنا لا أريد التسليم فيه)
خوفي من العمى أما البكا عولت عليه" (أخاف من العماء أما البكاء فقد عولت عليه).

وهو تارة يعلن الحب والشوق لوصال الحبيب:
"يا برج من الذهب وعليك نسنّد (أيها البرج عليك سأسند جسمي)
وعليك طاح الزين يا ضي القمرة (فضوء القمر تجلى بالجمال)
واش من نهار نفوز بك ونتهنى (في أي يوم سأفوز بحبك وأطمئن)
وندركك يا مليح تحت شواري (وأدرك حبك يا مليح وتكون لي)
ونبرّد عشقي من بعد غياري" (وأطفئ نار عشقي بعد شوقي).

وهو في أحيان أخرى يبكي غدر الحبيب وفراقه:
"سألتك يا حمامة فوق السور (أسألك يا حمامة حطّت فوق السور)
جنحك مكسور راك زدتي ما بيّ (جناحك مكسور وزدت ما ألمّ بي)
انتين تبكي على جنحك اللي مكسور (أنت تبكين جناحك المكسور)
وأنا نبكي على حبيبي اللي غدار في (وأنا أبكي حبيبي الذي غدر بي)
الولف صعيب والمحبة زغبية" (الألفة صعبة والمحبة أليمة).

أو يصف عذاب البعد، وألم الشوق، والتعبير عن الوفاء في الحب:
"يا محبوبي كل يوم نقول اليوم (يا محبوبي في كل يوم أقول)
يلا بات أيام الحبيب توافيني (إذا هو فات فأيام الحبيب ستأتيني)
خوفي من هاذ الحال عليَّ يدوم (أخاف من دوام هذا الحال)
ويلا دام عليَّ يقتلني ويفنيني (فإذا دام سيقتلني ويفنيني)
غيرك ما نوالفه ولوْ يغنيني" (لن آنس بغيرك حتى لو أغناني).
كما تقدم بعض الأشعار نصائح في العشق، وقواعد يلزم اتباعها، مادحة الصبر وسعة الصدر حتى الوصال:
"اللي تهواه ساعفه حتى تلقاه (من تهواه انصعْ له حتى تلاقيه)
واصبر لجفاه ولا يغيظك تيهانه (واصبر لجفائه ولا يغيظنّك تيهه)
واشرب من ماه يا الفاهم كيسانه (واشرب من مائه أيها الفاهم لكؤوسه)
واش المغلوب تايعاند سلطانه" (فهل يعاند المغلوب سلطانه).

وأحيانًا تتحدث الشاعرة عن سياق قرض ذاك الشعر في البساتين، وهن يتمايلن في الأرجوحات، ويتذكرن بُعد الحبيب:
"الدوح الدوح وبالهوى قلبي مجروح (عليَّ بالأرجوحة، الأرجوحة، فقلبي مجروح)
لا عقل لا بال لا ما يزهى لي (لا عقل لي ولا سكينة ولا ما يفرحني)
لو كان صبت اسمك نكتبه في اللوح (تمنيت أن أكتب اسمك في لوح)
ومحبتك في السطر الفوقاني (ومحبتك في أعلى سطر فيه)
ومناين نتفكرك نجبد ذيك اللوح (وحين أتذكرك أخرج ذاك اللوح)
نحقق في الحروف كان تبرد نيراني" (لأتأمل في الحروف علَّها تطفئ نيراني)...

بيد أن بعض الأشعار تتجاوز الغزل العذري، لتفضح الرغبة في الوصال واللقاء الجسدي المحبوب:
"لو كان صبتك يا مليح تعمل لي غرضي (تمنيت يا مليح أن تقضي وطري)
وتأمل لي بالوصال وتجيني للدار (وتؤمّن لي الوصال وتأتيني للدار)
ولا يفطن واحد بك غير أنا وحدي (ولا يفطن بك أحد غيري)
وتتفاجى غمتي ويذهب عني كل غيار (فينقشع غمّي ويذهب عني الشوق)
ما تدوم شدة على من هو صابر" (فمن يصبر لا يدوم شوقه طويلًا).

تفصح كثير من القصائد عن اسم المحبوب، غير أن الاسم يكون إما محمدًا، أو أحمد، لا غير مما يشير إلى أن الشاعرة تبتغي أن يتعرف الناس على كونها أنثى تتغنى بذكر. وبعض القصائد تحاكي قصائد الذكور، فتصف الشفاه، والقدّ، والعيون، وتمسرح متعة اللقاء، وتكاد تصفها بالتفصيل. كما أن شعر نساء فاس يفصح عن ثقافتهن، فهن يعرفن القراءة والكتابة، ولغتهن قريبة من الفصحى، ويعرفن قصة قيس وليلى... وحين تمزج هذه القصائد بين الخطاب والحكي تكون صورة لحالات نفسية لا تختلف عما عهدناه في الشعر الذي نحفظه ونتداوله. إنه أرشيف يمنحنا متعة اللغة، وروعة الفصاحة الشعبية، وقدرة المرأة على ارتياد عوالم عهدناها، عوالم الغانيات والجواري فقط.