الجميل والمقدّس.. تحوّلات العلاقة بين الفن والدين

حسام أبو حامد 8 يوليه 2021
قيل إن الفرزدق مرّ برجل ينشد بيتًا للبيد ابن ربيعة: "وَجَلَا السيولُ عنِ الطُّلولِ كأنها/ زبر تُجِدُّ مُتونَها أقلامُها" (1) فسجد الفرزدق واستنكر الناس عليه ذلك وقالوا له: "لم سجدّت"؟ فقال: "أنتم أعلم بسجدة القرآن وأنا أعلم بسجدة الشعر". السجود هو فعل ناجم عن حضور المقدّس وما يقتضيه حضوره من شعور بالخوف والرهبة والجلالة والضآلة. يثير فينا الجميل ما يثيره المقدس. الجميل والمقدس يتداخلان، فحين يهز كياننا لحن أو غناء نصيح "الله"، وحين نرى ما هو جميل في الكون والإنسان نقول "سبحان الله"، حتى دون أن تعبّر تلك الكلمات عن حقيقة إيمانك.

يقوم التعامل مع المقدس والجمالي في الكون على أساس الإحساس بالمطلق، فحدْس المطلق مباشرة أو رؤية اللانهائي بالنهائي أو المطلق في النسبي هو أساس التجربة التي تهز كيان ووجدان الإنسان، ويتخذ هذا التواصل المباشر مع المطلق شكل تجربة دينية وحدس نبوي أو تواصل مع الله في الدين، وقد تتخذ محاولة الإحساس بالمطلق أو تأمله أم محاولة تصويره أشكالًا مختلفة في الأدب والفن وغيرها. وموضوع الفن هو الجميل الذي يقابل القبيح، وموضوع الدين هو المقدّس الذي يقابل الدنيوي أو المدنّس.

المقدّس هو ما يمتلك صفات مستمدة من علاقته بالإله، فالمصطلح الإنكليزي Sacred مشتقّ من الجذر اللاتيني Sacer، الذي يستخدم للدلالة على ما يقابل مدنس Profane وباللاتينية Profamus التي تعني حرفيًا؛ ما هو خارج المعبد، أي ما هو مشاع ومباح. بهذا المعنى تكون كل الأشياء مقدّسة، وكذلك الأمكنة والأزمنة والحوادث والأفعال والأشخاص والمجتمعات، وحتى الحياة تصبح مقدّسة Holy بسبب تعلقها ببعض الموضوعات المقدّسة وتصبح موضوعا للخشوع Devition، لكن لا يعني ذلك أن كل ما هو دنيوي خارج المعبد يكون مدّنسًا، بل يشير فحسب إلى كل ما هو متجرّد من علاقته بالديني والإلهي أو المقدس. ويبقى للمقدس كثير من تجلياته في حياتنا وخبراتنا الإنسانية، والشعور به هو ملكة روحية أو سمة من سمات الوعي البشري. ويؤكد مرسيا الياد أن المقدّس ليس مرحلة من مراحل تكوّن الوعي بل هو عنصر في بنيته، والحياة الإنسانية، حتى في مستويات الثقافة البائدة، هي في حد ذاتها فعل ديني؛ فالحصول على الغذاء والعمل والحياة الجنسية هي أمور كان لها قيمة قدسية، وإن كان رودلف أوتو قد ذهب إلى أن المقدس هو "الآخر كليّة" فذلك لا يعني أنه غير قابل للتجلي في عالمنا وخبرتنا الإنسانية، بل نظر إلى الجميل باعتباره قادرًا على التعبير عن المقدس وعن المشاعر المقترنة به. إلا أن التعبير عن المقدس لا يمكن تناوله بالفكر المحض وإلا نجم عن ذلك استحالات منطقية، لارتباطه بالخبرة الدينية؛ الخبرة بالخارق للطبيعة Numinous، حسب أوتو، فالدين أبعد غورًا من أن يخضع كليّة للعقل.

هل يتعارض الجميل مع المقدس بوصفه قيمة عليا؟ هل يتداخل الدين بالفن على مستوى التجربة الإنسانية أم يتعارضان؟

 

يؤكد مرسيا إلياد أن المقدّس ليس مرحلة من مراحل تكوّن الوعي بل هو عنصر في بنيته



جذور العلاقة بين الدين والفن

قد يبدو هناك نوع من التناقض المتأصل في ماهية كل من الدين والفن باعتبار أن الأخير يتعلق بالخبرة بما هو محسوس، بينما تبدو الخبرة الدينية خبرة بما هو روحاني، وبينما يتذوق الإنسان الجميل من خلال ما هو محسوس يتطلع المؤمن إلى الإلهي القائم خارج عالم الحس، وإلى ما هو غير قابل للتجسيد في صورة حسّية والمعبر عنه بوساطة "الكلمة"، لكن فان دى ليو يبين أنه إن كان صحيحًا أن الفن لا يبلغ المستوى الروحاني الخالص، لكونه يتحقق في المرئي أو المسموع أو الملموس، فإنه صحيح أيضًا أن الدين بسعيه للتحقق من خلال ما هو فوق الحس فإن شأنه في ذلك شأن الفن، يحتاج إلى وسائط مادية، فبدون الأسطورة والرمز وبدون الطقوس لا يمكن للدين أن يوجد.

التحمت سائر الفنون في أصولها بالمقدس، فالدراما كانت ذات أصل ديني، سواء من ناحية الموضوع أو التاريخ، وكانت المعابد هي المسارح الأولى بممثليها وملابسها ومشاهديها، وكانت أوائل المسرحيات الدرامية طقوسًا في معابد مصر القديمة، وانبثقت الدراما الإغريقية من أغاني الكورال في تكريم الإله ديونيسوس، وأقيمت المسارح قرب معبده، كانت الرسوم والأولى والتماثيل والأغاني والرقصات جزءًا من الشعائر، قبل أن تنفصل عنها مستقلة بذاتها. فحين رسم الإنسان البدائي الحيوان الذي يريد صيده، كان ذلك "سحر الصيد" أو صلاة كي يتحقق مراده.

تجلى الاتحاد بين الروحي والمادي في الرقص لدى الإنسان البدائي، إذ كان بالإمكان التعبير عن الشعور بالمقدس من خلال الفعل الإنساني، وكان الجسد قادرًا على التعبير عن انفعالات الروح من أدناها إلى أعلاها كما يتبدى في سائر الأفعال الدنيوية، الصيد، الزراعة، الحب، الموت... إلخ. مورس الرقص داخل المعابد كفعل من أفعال التطهير النفسي، الذي اتخذ طابعًا جماليًا قبل أن يظهر الرقص الثنائي بوصفه اختراعًا حديثًا وضع حدًا للاتحاد بين الجميل والمقدس، حين وضع ممارسة الحب الجنسي موضع الطقس التعبيري ليصبح الرقص "مدنسًا"، مهما بدا أنه يحتفظ بطقوس داخل بنيته. الرقص في صورته الحالية يؤكد استقلال البدن وقدرته على التعبير عن مهاراته الخاصة كحرفة لإبهار جمع من المشاهدين.

 

الاستحواذ على الجميل لإنتاج المقدس

ليس مستغربًا أن نجد في ممارسات كثير من الديانات وطقوسها حضور فنون الرسم والموسيقى والتمثيل أو مزيجًا منها، لأنها جميعها، كما يذهب المفكّر عزمي بشارة، تعبّر عن العلاقة الإنسانية مع السحر الكامن في الأشياء أو لأنها الطريق إلى التعامل مع الكلية الكامنة في الجزئي، ومع المطلق في الجزئي. وفي بعض الديانات يضيع التمييز بين الديني من الحسّي المتعين، فتحوّلت الطقوس الدينية إلى نوع من الاحتفال باللذة وبالجميل حسيًا. ويعتقد بشارة أن ديانات استخدمت هذه المؤثرات لإثارة الشعور بالمقدّس في طقوسها أو في تبجيل الخالق وتوليد الشعور بعظمته في أبنيتها وفيما تقدّسه من أماكن ومواسم. وفي المقابل، ليس مستغربًا أن يتخذ الدين حين يصبح ظاهرة موقفًا من التمتع بالجمال والفنون والآداب وغيرها لأنه غالبًا ما ترافق عملية التمييز الواعي الاجتماعية لظاهرة من الظواهر الأقرب مواقف حادة من هذه الظواهر، التي إن مورست خارج الدين قد تسلب أو تخلب أو تفتن مشاعر المؤمن، وتقلل من ولائه، ويتم تحديد الهوية بتشديد الفرق والاختلاف عن الظواهر الأقرب، وهذا لا يمنع أن تستخدم هذه الظواهر أدوات في إنتاج الشعور بالمقدس لاحقًا، لأنها الأقرب إلى إنتاج تصورات المقدس وانفعالاته، لكن استخدامها يجري بعد تثبيت الفرق.

تجلى الاتحاد بين الروحي والمادي في الرقص لدى الإنسان البدائي


من هنا يمكن فهم تحولات العلاقة بين الجميل والمقدس في الديانات المختلفة، ففي المسيحية وجد الفن نفسه مطالبًا بتبرير شرعيته في ثقافة الفترة المتأخرة من عصر القدماء، التي تميّزت بخصومتها للفن التصويري التمثيلي، وقد قيّدت الإمبراطورية الرومانية في تلك الفترة فن الخطابة والتعبير الشعري، ونشأت داخل الكنيسة في القرنين السادس والسابع مطالبة بتحريم الأيقونات في العبادة التي ميزت الفن البيزنطي المسيحي، وقد وجّهت هذه الحملة بالأصل ضد الكنيسة الشرقية، خصوصًا البيزنطية والأرثوذكسية الروسية واليونانية والتي سادها الاعتقاد أن تلك الصور المتخيّلة تسهّل عملية الاتصال بين المتعبد والشخصيات المقدسة. وبينما رفضت الكنيسة الشرقية بناء التماثيل شجعته كنائس روما، والكنائس التابعة لها، وجسّد عصر النهضة الأوروبي هذه الموافقة الدينية فظهرت في القرن الخامس عشر أعظم أعمال دافنشي ومايكل أنجلو ورفائيلو، التي زيّنت أهم الكنائس الكاثوليكية، لتتواصل الوحدة بين الجميل والمقدس، وكان إنجيل الفقراء عاملًا حاسمًا في استمرار مشروعية الفن حيث كان لا بد من قصص تصويري للإنجيل يقدم للشخص الفقير الذي لا يعرف اللاتينية، لغة الكنيسة آنذاك، وسيلة لفهم الرسالة المسيحية فهمًا تامًا. ورغم أن البروتستانتية انقلبت على الفن البصري إلا أنها خلقت تقاليد ترتيلية وموسيقى خاصة بها. واليوم تضمّ معظم كنائس الولايات المتحدة فرقًا موسيقية تتسع لكل أنواع الموسيقى بما فيها الروك، وأضافت بعض الكنائس لطقوسها الرقص ووشم الأجساد برموز وصور دينية.
 

علمنة الفن أم اغترابه

لم يكن الأمر مجرد تناوب للحقب التاريخية بين الانفصال والالتحام بين الفن والدين إذ تأرجحت التقاليد الدينية بين قبول أشكال فنية معينة ورفضها فكان الدين لأمد طويل مناصرًا للأيقونات ومعاديًا لها، وتقبّلت بعض الحركات الدينية أشكالًا فنية ورفضت أخرى، ولم يسمح الإسلام بالخيال البصري، لكنه أنتج روائع من الفن التجريدي المصحوب بالخط. مع ذلك، كان الانفصال بين الدين والفن أحد الاتجاهات الرئيسية في الحضارة الإنسانية، بدأت في العصور القديمة، واكتسبت قوة دافعة في عصر النهضة، ونشأ كثير من الفن من النوع الذي لم يعد مخامرًا للرمزية الدينية، ولا عاد راغبًا في أن يحسب على أنه متمم للتقاليد الدينية، وكل الذي لا يزال في حوزتنا مزيج ظاهراتي من التقاليد الدينية والأدبية في حالات بعينها وحسب.

في عصر النهضة تم استبعاد الدين من مملكة الجميل بسبب إرهاصات الروح العلمانية الأوروبية قبل أن تتوطد هذه الروح في العصر الحديث بفعل فلسفة التنوير، حيث نزع الفن إلى تأكيد الاستقلالية التامة عن الدين، فاعتبر هيغل الفن شيئًا من الماضي؛ كفّ عن تمثّل الروح المطلق وتمثّل الحقيقة الموضوعية. لقد انصرف الفن إلى تأكيد ذاتية الفنان، وأصبح ميالًا إلى الاستغراق في تجريد خالص أو نزعة شكلانية تقوم على التلاعب بالوسائط المادية، تحت شعار "الفن من أجل الفن". استقلال الفن تمامًا عن الديني والمقدس بدا عند فان دى ليو "علمنة للفن" إلا أن ذلك عند هانس جورج جادامر بدا حالة اغترابية للفن المعاصر الذي لم يعد قادرًا على تمثّل المقدس والأسطوري، وحطّم الوحدة الأصلية بين المادي والروحي، التي كان يعبّر عنها دون إشكال.

يعتقد عزمي بشارة أن ديانات استخدمت مؤثرات فنية لإثارة الشعور بالمقدّس في طقوسها أو في تبجيل الخالق وتوليد الشعور بعظمته في أبنيتها



أسلمة الفن

بدأ الصراع بين الجميل والمقدس في الإسلام، باكرًا، فمنذ نزول القرآن وصفه المعارضون للدعوة المحمدية بالشعر، ووصفوا النبي بالشاعر، وقامت مجموعة من الفقهاء والمفسرين بتثبيت فارق شاسع بين ظواهر الفن وظواهر الدين، حرصًا على المقدس الديني، وشنّوا حملة على الشعر والشعراء، ووصفوا الشعر بـ"رقي الشيطان" والشعراء بـ"كلاب الجن"، وجاء في الأثر "لا تنثروا القرآن نثر الدقل، وتهذوه هذّ الشعر"، وفسروا لهو الكلام المنهي عنه في القرآن بأنه الغناء. تطورت الأمور عند هؤلاء إلى تأسيس موقف تمسّك بتحريم كثير من الفنون احتياطًا وخوفًا على العقيدة والتوحيد من أي وسيلة تفضي برأيهم إلى الشرك أو البدعة، حتى لو كانت متخيّلة، فتوسعوا في المنع وسدّ الذرائع. وابتعد الفن الإسلامي عن نحت التماثيل المجسّمة وكذلك اللوحات الفنية المستقلة استنادًا إلى أحاديث تنسب إلى النبي، والقصد منها البعد عن الوثنية وعبادة الأصنام. في المقابل اعتمد الفن الإسلامي على أسس من الفنون التي كانت سائدة في البلاد التي فتحها العرب والتي أصبحت جزءًا من الدولة الإسلامية، وهي الفن الساساني والبيزنطي، والروماني والفن الهندي وفنون الصين وآسيا الصغرى، على اختلاف نصيبها في بناء الفن الإسلامي الجديد. كما لم يبتكر الفنان المسلم وحدات نباتية أو حيوانية جديدة، بل رسم الأزهار والأشجار والأوراق وأيضًا الطيور والحيوانات بعد أن حوّرها تحويًرا كادت تفقد معه شخصيتها. كذلك نفر من الفراغ، فكرّر الوحدات الزخرفية تكرارًا يمكن أن يستمر دون أن يقف عند حد. ظهر هذا الأسلوب الفني واضحًا في القرن الثالث الهجري، وفي مدينة «سامراء» والذي سمي "أرابيسك". ومن الواضح ما في هذا النمط الفني من تجريد وإنكار للذاتية.

هناك موقف مقاصدي إسلامي تحرّز من منع ما ينسجم مع الفطرة البشرية الباحثة عن الجمال، واستثنى ما ورد به نص شرعي أو ما كان وسيلة لمخالفة يقينية، ماعدا ذلك جعله على أصل الإباحة، كالإنشاد والشعر والرقص والتمثيل والموسيقى، وحتى التصوير، لعدم وجود نصّ في القرآن يحرّم الصورة في الفن، وأن ليس هناك في نصوص السنّة ما يحرمها قطعا، فالسنّة حرمت تعليق الصورة أي تقديسها وتشريفها لا استخدامها، ورأى هذا الموقف المقاصدي أن موقف القرآن من التصوير والتماثيل للأحياء ليس واحدًا، وليس عامًا وليس مطلقًا، فحيثما تكون سبيلًا للشرك بالله فهي حرام، والواجب تحطيمها، لأن معركة الإسلام الرئيسة كانت ضد الشرك، أي عبادة الأوثان...أما عندما تنتفي مظنّة عبادتها وتعظيمها والشرك بواسطتها، فهي عندئذ من نعم الله تعالى التي يجب على الإنسان أن يقصد إليها وأن يتخذ منها سبيلًا لترقية حسّه وتجميل حياته وتزكية القيم الطيبة وتخليدها. وذهب الإمام محمد عبده إلى أن تحطيم النبي للتماثيل لم يكن أبديا، بل معللا بسياق قرب العهد بالشرك، وحيث أنه لا خوف من العودة للشرك فإنه لا مجال للتحريم. وكان القرافي أحد فقهاء المذهب المالكي قد ذهب إلى أبعد من الإفتاء بإباحة فن النحت والتصوير، بأن اشتغل به، وتحدّث عن ممارسته لصناعة الدمى والتماثيل. تراجع هذا الموقف أمام موقف التحريم الذي تشدد أصحابه وتطرفوا في رفض الفنون أو تقييدها.

قطع مسلحو جبهة النصرة رأس تمثال لأبي العلاء المعرّي في مدينته معرّة النعمان 


إذا كانت أزمة الفن المعاصر بحسب جادامر تتمثل في اغتراب الوعي الجمالي، فإن اغتراب الوعي الديني عند هؤلاء يبلغ ذروته في روح العداء للفن التي تكشف عن همجية هذا الوعي الاغترابي التي تجسّدت في تحطيم حركة طالبان في أفغانستان لتماثيل بوذا وتحطيم "داعش" لتماثيل سورية والعراق. شعار "أسلمة الفن" أو "تديين الفن" الذي يرفعه بعض أصحاب هذا الوعي هو أبعد ما يكون عن تأكيد "الطابع الديني للفن" الذي ساد العصور الوسطى المسيحية، أو "الفن الإسلامي" الذي ازدهر في العصور الوسطى الإسلامية، وهو لا يؤدي إلا لخنق روح الإبداع الفني باسم أيديولوجيا دينية تحاكم الفن من منظور أخلاقي، مما يؤكد قصورًا في فهم طبيعة الجميل في الفن وتهافت ما يدعون إليه تحت مسمى "علم الجمال الإسلامي"، إذ أن علم الجمال لم يبدأ كعلم مستقل إلا حينما أصبح الجميل يشكل مبحثًا مستقلًا عن مباحث الأخلاق والميتافيزيقا، وحين أصبحت القيمة الجمالية متمايزة ماهويًا عن قيمتها الأخلاقية، لكن هؤلاء يصرّون على الخلط الساذج بين الظاهرة الجمالية والظاهرة الأخلاقية بحيث يفهم الجميل والأخلاقي معا بوصفهما سلوكًا مستحبًا يحثّ عليه الدين، فيرتبط الجمال بالإيمان والخير، ويرتبط القبح بالكفر والشرّ، فيؤول جمال المرأة مثلًا وفق هذا المنطق الذي يربط بين المتعة الجمالية والشهوة الجنسية إلى شرّ ما ينفكون يحذروننا منه، مع أن علم الجمال (غير الإسلامي) يقرر أن شرط المتعة الجمالية هي متعة متحررة من كل رغبة وشهوة، وفي هذا يقول سارتر في معرض حديثه عن دور الخيال في الخبرة الجمالية: "إن الجمال الفائق لامرأة ما يُذهب الرغبة فيها، فلكي يرغب فيها شخص، يجب أن ينسى أنها جميلة إلى هذا الحد".
 

خاتمة

في آذار/ مارس 2001 قامت حركة طالبان في أفغانستان بتفجير وتدمير تمثالين نادرين لبوذا يعود تاريخ بنائهما إلى النصف الأول من القرن السادس الميلادي في منطقة باميان الّتي كانت تقع على طريق الحرير التاريخي، وذلك تنفيذًا لقرار صدر بإجماع 400 رجل دين من مختلف أنحاء أفغانستان بأن التماثيل حرام في الإسلام. قبل ذلك بعام، حظرت حركة طالبان جميع أشكال الصور والرياضة والموسيقى بما في ذلك التلفزيون. ورغم اعتراض عالمي انضمت إليه دول إسلامية وعلماء دين مسلمون، صرّح الملّا عمر أنه "يجب على المسلمين أن يفخروا بأننا حطمنا لهم التماثيل ويحمدوا الله". وفي شهر شباط/ فبراير 2015 أذاع تنظيم داعش مقطع فيديو ظهر فيه مسلّحون من التنظيم في متحف الموصل يحطمون تماثيل أثرية يصل عمر بعضها لخمسة آلاف سنة. وفي تسجيل آخر يظهر عنصر من داعش وهو يستخدم مطرقة كبيرة لتحطيم تمثال الثور المجنح في المنطقة الأثرية في المدينة. تكرر لك في مدينة تدمر في سورية، وقطع مسلحو جبهة النصرة رأس تمثال لأبي العلاء المعرّي في مدينته معرّة النعمان في بدايات عام 2013. لم يختلف ما صنعه هؤلاء عما صنعه قبلهم أباطرة بيزنطة الأرثوذكس الذين منعوا تقديس الصور ودمروا الأيقونات والتماثيل، وكهنة روما الكاثوليك الذين كفّروا الشعراء والفنانين. مع فارق أن أوروبا أحدثت قطيعة مع هذا الماضي، بينما إسلاميًا تتم محاولات إحياء ماض متخيل انطلاقا من الحاضر. إنه صراع في جوهره حول مفهوم الحرية وأبعادها وحدودها، يخوضه من يجعلون أنفسهم قيمين على حماية أخلاق المجتمع، عبر ضبط ذائقة الناس الجمالية، فيضعون المقدّس والجميل في موضع التعارض، يحاكم أولهما الثاني.  

يلتقي المقدّس والجميل دون أن يشكل أي منهما إطارَا لمحاكمة الآخر ليحضر الفن في الدين من خلال ما في طقوسه من أبعاد جمالية، بينما يحضر الدين ورموزه في الفن كموضوع حتى عند فنانين من خارج الدائرة الإيمانية. مع ذلك، يعبّر هذا الالتقاء بين المقدس والجميل عن النزوع الإنساني للبحث عن الحقيقة/ الجمال.

 

هامش:

(1)  أبو الفرج الأصفهاني، كتاب الأغاني، ج:15، ص248. والطلول: جمع طلل. والزُبر جمع زَبور أي الكتاب. ومعنى البيت: كشفت السيول المتواترة عن أطلال تلك الديار التي اختفت تحت غبار الرياح العاصفة فكأن تلك الطلول كتب أجدّت ما كان فيها من المتون المنطمسةَ أقلامُها التي تكتب أمثالها.

إحالات:

- عزمي بشارة، الدين والعلمانية في سياق تاريخي، ج1: الدين والتدين، ط1 (بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2013).
- علي عزت بيجوفيتش، الإسلام بين الشرق والغرب، محمد عدس (مترجما) (القاهرة: مؤسسة بافاريا للنشر، 1997).
- سعيد توفيق، "الجميل والمقدس في خبرتي الدين والفن"، مجلة أليف للشعر المقارن، العدد 23: الأدب والمقدس، (2003)، ص ص 8-30.
- سعيد توفيق، تهافت مفهوم الجمال الإسلامي (دار قباء).
- جان برتليمي، بحث في علم الجمال، أنور عبد العزيز (مترجما)، نظمي لوقا (مقدما) (القاهرة: دار النهضة).
- مرسيا إلياد، المقدس والعادي، عادل العوا (مترجما) (بيروت: دار التنوير، 2009).
- حسن طالب، المقدس والجميل: الاختلاف والتماثل بين الفن والدين (القاهرة: مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، 2001)