هل أحرق نيرون روما؟

حسام أبو حامد 7 سبتمبر 2021
آراء
(Getty)

التاريخ شاهد على الأمم والشعوب وحضارتها، لكنه ليس دائمًا ميدانًا للحقيقة، بل أيضًا تشكّل الروايات التاريخية، مادة للتوظيف السياسي. بعد حوالي 2000 عام لا نزال نحتفظ بصورة للإمبراطور الروماني نيرو أو نيرون (حكم: 54-68 م) بوصفه أحد أكثر القادة وحشية في التاريخ. في الوقت نفسه، نعرفه رياضيًا، يصف نفسه بالفنان. الروايات التاريخية لا تضع حدًا لطموحات نيرون وساديّته، والتي تمثّل أعظمها بتخطيطه لهدم ثلث روما ليتمكن من بناء سلسلة متقنة من القصور التي ستعرف باسمه (نيروبوليس)، وحين اعترض مجلس الشيوخ بشدة على هذا الاقتراح، قام نيرون بافتعال حريق روما العظيم لإكمال مخططه. هل من صورة مختلفة لنيرون يمكن أن يجدها النقد في طيات الروايات السائدة عن تلك الحقبة حتى اليوم؟


نيرون رمزا للطاغية اللامبالي

يستحضر اسم نيرون على الفور صورة إمبراطور مستبد معتوه مكلل بالغار، يعبث بشكل شيطاني أمام التوهج الأحمر لروما المحترقة. حتى عصرنا هذا، صمدت هذه الصورة وما انفكت توفّر معالجة درامية لا تقاوم للمسرح، والسينما، والموسيقى بما فيها الأوبرا وأغاني الروك. في القرن السابع عشر، كتب جان راسين (1639 -1699) مسرحيته الأكثر شهرة "بريتانيكوس"، ومع أن نيرون لم يكن واحدًا من شخصياتها المحورية إلا أن راسين جعله، بوصفه طاغية روما دون منازع، خلفية ترمز للشر المطلق وتأثيره في مصائر شخصياته المحورية. لكن أكثر المؤثرين في التجسيد الحديث لنيرون هو الروائي البولندي هنريك سينيكويتش، في روايته "Quo Vadis: A Narrative of the Time of Nero" التي كتبها عام 1895 (كو فاديس: سردا لعصر نيرو). و?quō vādis"" تعني باللاتينية: أين تسير؟ ومستوحاة من التقليد المسيحي، وتحديدًا من عبارة القديس بطرس الأولى للمسيح خلال لقائهما على طول طريق أبيا: "أين تسير أيها الرب؟". تتمحور الحبكة حول الحب المحكوم عليه بالفشل بين امرأة مسيحية شابة ورجل أرستقراطي روماني، لكن علاقتهما الرومانسية الباهتة ليست هي ما حولت الرواية إلى ضجة كبيرة في جميع أنحاء العالم وإنما إرث نيرون المزعوم عدوًا للإنسانية والمسيحية، ولكونه قوميًا متحمسًا في بولندا الكاثوليكية جعل سينيكويتش روما في مواجهة روسيا القيصرية، وكان نيرون رمزًا لاضطهاد المسيحية المبكرة. ترجمت الرواية لأكثر من 50 لغة وحصل سينيكويتش على جائزة نوبل للآداب عام 1905. كانت الرواية أساسًا لسلسلة من الأفلام التي حظيت بشهرة واسعة، لعل أشهرها فيلم Quo Vadis (1951).

أصبح نيرون رمزًا لكل سياسي لامبال بالكوارث الوطنية، وظّفه رسامو الكاريكاتور حول العالم في رسوماتهم، فيظهر السياسي اللامبالي يضع تاجًا، مكللًا بالغار، يعزف القيثارة أو الكمان، بينما تتصاعد من خلفه ألسنة اللهب وصور الخراب. ولم ينج من هذا النقد رؤساء عرب وأجانب. أما الشعار "نيرون يحرق روما" (Nero Burning Rome) فيرافق برنامج نسخ وحرق الأقراص المضغوطة الذي طورته شركة البرمجيات الألمانية Nero AG. لكن التجسيد الأهم لنيرون عربيًا تم من خلال شعر محمود درويش، حيث أصبح نيرون رمزًا للظلم/ الليل العابر في مواجهة الأرض/ الشعب، كما في قصيدته "عن إنسان":

يا دامي العينين، والكفين!

إن الليل زائلْ

لا غرفةُ التوقيف باقيةٌ

ولا زَرَدُ السلاسلْ

نيرون مات ولم تمت روما...

بعينيها تقاتلْ..

كتب راسين مسرحيته "بريتانيكوس"، ومع أن نيرون لم يكن واحدًا من شخصياتها إلا أن راسين جعله، بوصفه طاغية روما دون منازع، خلفية ترمز للشر المطلق  



حريق روما ورياح المؤرخين

بحكم منازلها الخشبية، وتخطيطها العشوائي، اعتاد سكان روما (مليون نسمة) على الحرائق التي تتسبب فيها بشكل دوري حرارة الصيف وأشعة الشمس في أرض منخفضة، والرياح الجافة القادمة من الصحراء. لكن حريق روما العظيم كان حدثًا استثنائيًا وغامضًا. لا توجد مصادر أولية حول الحريق، وبدلًا من ذلك، تم الاعتماد على الروايات الثانوية للمؤرخين الرومانيين تاسيتوس وسوتونيوس وكاسيوس ديو. قام تاسيتوس، المصدر الأقدم حول روما، بتسجيل روايته بعد حوالي ستين عامًا من الحدث نفسه، كذلك فعل سوتونيوس الذي ولد بعد سنة واحدة من وفاة نيرون. بينما كتب كاسيوس ديو بعد أكثر من مائة عام. تختلف رواياتهم بطرق متنوعة، تاركة حقيقة النار للنقاش التاريخي.

ولد تاسيتوس في عام 56 أو 57 على الأرجح في روما. كان صبيًا في روما أثناء الحريق العظيم. كتب خلال حياته عددًا من القصص التاريخية التي تؤرخ لعهود الأباطرة الأوائل، ويخبرنا أن الحريق في متاجر تبيع سلعًا قابلة للاشتعال داخل السيرك المجاور لتلال Palatine وCaelian. الرياح القوية دفعت النيران بسرعة دون عوائق لتجتاح المناطق المستوية أولًا ثم صعدت التلال، وشجّعت شوارع المدينة القديمة المتعرجة الضيقة، والكتل غير المنتظمة، تَقَدُّمَها، ولم يمتلك المنكوبون المحاصرون أي فكرة عن المكان الذي يفرّون إليه. بعض الذين فقدوا كل شيء، حتى طعامهم لهذا اليوم، كان بإمكانهم الهروب، لكنهم فضلوا الموت، وكذلك فعل آخرون فشلوا في إنقاذ أحبائهم. لم يجرؤ أحد على محاربة النيران، وتم منع محاولات القيام بذلك من قبل عصابات التهديد، كما تم إلقاء المشاعل علانية من قبل رجال تصرفوا بناء على أوامر، أو ربما أرادوا فقط النهب دون عائق (لم يشر تاسيتوس الى مصدر تلك الأوامر)، وبحلول اليوم السادس، أخمدت النيران، ولكن قبل أن يهدأ الذعر أو ينتعش الأمل، اندلعت النيران مرة أخرى في المناطق الأكثر انفتاحًا في المدينة.

هناك كانت أعداد الضحايا أقل، لكن الحريق دمّر المعابد وملامح معمارية أخرى، نحو معبد جوبيتر الشهير بعد صموده طوال 8 قرون، وأدى إلى موت المئات وشرد الآلاف، وقضى على ثلثي روما. أشار تاسيتوس إلى شائعات انتشرت بين السكان بأن نيرون من يقف وراء الحريق لطموحه بتأسيس مدينة جديدة (نيروبوليس). مع ذلك، يؤكد تاسيتوس أن نيرون كان في أنتيوم الساحلية وقت اندلاع الحريق، وعاد إليها فقط عندما اقترب الحريق من قصره الذي لم يتمكن من إنقاذه.

بينما يبدو تاسيتوس أقل ثقة بشأن وجود نيرون في روما حين اندلاع الحريق، فإن سوتونيوس الذي كان أحد رجال البلاط الإمبراطوري، تبنى الشائعات التي أشار إليها تاسيتوس وانتشرت بين العامة، محمّلًا نيرون مسؤولية الحريق وافتعاله متعمدًا، ولا مبالاته أيضًا، ويشير إلى انزعاج نيرون من قبح العمارة في روما وشوارعها الضيقة والمتعرجة، ليستنتج أنه أمر بإشعال النار في المدينة، ويصف مشهد نيرون يطلّ مرتديًا زيًا مسرحيًا من برج Maecenas ويغني. أما كاسيوس ديو، فهو قليل الاستخدام نسبيًا، وبنى تاريخه بعد حوالي 150 عامًا من حريق روما العظيم، على سيرة سوتونيوس، ورأى أن تواطؤ نيرون في الحريق حقيقة ملموسة. وأن الإمبراطور أرسل رجالًا يتظاهرون بالسكر لإشعال النار.
رياح المؤرخين تهب في اتجاهات عدة بما لا تشتهيه الحقيقة.

اضطهاد المسيحية

ذهب تاسيتوس إلى أن المسيحيين كانوا كبش فداء، وأنه تم القبض على المسيحيين وتعذيبهم لأخذ اعترافاتهم، ثم مزّقتهم الوحوش إلى أشلاء، أو صلبوا أو أحرقوا أحياء أو استخدموا كمصابيح بشرية في الليل. ربما كانوا في حينه هدفًا سهلًا للتحريض بوصفهم جماعات دينية راديكالية صغيرة وغامضة، خصوصًا وأن السلطة مطالبة أمام الجمهور بالكشف عن مرتكبي الجريمة الغامضين، لكن بعض الروايات تقترح أن هؤلاء المسيحيين اعتقدوا أن المدينة "مكان شرير" بأصحابها الوثنيين، وتنبأوا بأن المدينة سيشتعل فيها "جحيم عظيم". عندما ظهر الجحيم كان بمثابة تحقق لبداية "الدينونة الأخيرة" فامتنعوا عن المساعدة في إخماد الحريق، مما دفع نيرون إلى إلقاء اللوم عليهم. لا يمكن الجزم ما إذا كان نيرون قد استهدفهم كما يشاع لإبعاد اللوم عنه أم أنه انتهزها فرصة لافتتاح تاريخ من اضطهادهم دام حوالي عدة قرون.

تاسيتوس، المصدر الأقدم حول روما


حين انتحر نيرون في عام 68 بعد الميلاد، بدأت التقاليد المسيحية تتلقف الروايات حول نيرون، وساد اعتقاد، خاصة في المقاطعات الشرقية، بأنه لم يمت وسيعود ممتلكًا صفات المسيح الدجال. لكن لم يرد ذكر الاضطهاد على الإطلاق في المصادر المسيحية المبكرة، بل ظهرت هذه الفكرة في القرن الثالث، ولم يتم قبولها بالكامل إلا في القرن الرابع. أما الروايات التي تذهب إلى أن نيرون قام بإلقاء المسيحيين لمصارعة الوحوش في الكولوسيوم، أمام حشود من المتفرجين، فمن السهل تفنيدها لأن الكولوسيوم افتتح رسميا في 80 م. أيضًا، لم يكن لدى نيرون أي ذوق لنوع رياضة الدم التي يربطها المؤرخون بالترفيه الروماني، بل إنه ربما كان يفضّل مشاهدة سباق عربات الجياد بدلًا من رؤية رجلين مسلّحين يقتتلان، فحين طالبه البروتوكول أن يظهر في ألعاب المصارعة، بقي نيرون في مقصورته وأسدل الستائر عليه.


نيرون: وجهان متناقضان

لا يمكن تقدير الضرر الذي ألحقه حريق استمر تسعة أيام، والحرائق اللاحقة لا سيما التي حدثت عام 80 دمّرت سجلات الحريق السابق، ومن الواضح أن استيلاء الإمبراطور نيرون على العديد من الأحياء (مساحة من حوالي 200 فدان) التي دمّرها حريق عام 64 م لبناء مجمّع قصر Domus Aurea (البيت الذهبي) كان سببًا للاشتباه في أن نيرون أشعل الحريق. بدا نيرون باذخًا بإسراف، وقد وصف سوتونيوس القصر بأنه "منزل مناسب لمُصاب بجنون العظمة". أجزاء البيت مغطاة بالذهب ومرصّعة بالأحجار الكريمة وعرق اللؤلؤ، وكانت جميع غرف الطعام ذات أسقف من العاج، يمكن أن تنزلق ألواحها للخلف تمطر زهورًا وعطورًا على الزائرين، وحين تم تزيين القصر أعلن نيرون: "الآن يمكنني أخيرًا أن أعيش كإنسان!" (تستخدم الشركات الحديثة بما في ذلك الفنادق ووكلاء العقارات ومصنعو النبيذ العلامة التجارية "Domus Aurea" للإشارة إلى الثروة والرفاهية).

مع ذلك يؤكد تاسيتوس أن نيرون أمّن لضحايا روما المأوى في المباني العامة وحتى في أملاكه الخاصة، وبنى للمعدمين منهم مساكن طارئة خاصة، وجلب الطعام على حسابه من أوستيا والمدن المجاورة، وتم تخفيض سعر الذرة إلى أقل من نصف جنيه. بعد الحريق، شرع أيضًا في إعادة بناء روما مشددًا على أقصى ارتفاع ممكن للأبنية، واستخدام مواد غير قابلة للاشتعال، ووضع لوائح جديدة لمكافحة الحرائق، واستخدم في بناء قصره الجديد حطام منازل المدينة. مع ذلك، فإن هذه الإجراءات، على الرغم من طابعها الشعبي، لم تكتسب أي امتنان، مع انتشار شائعة مفادها أنه بينما كانت المدينة تحترق كان نيرون قد ذهب إلى مسرحه الخاص يقارن المصائب الحالية مع مصائب العصور القديمة، يعزف على كمانه ويمرح مغنيًا أشعار هوميروس عن حروب دمار طروادة.

ندرة المصادر المكتوبة، والتحيّز الواضح والمسافة الزمنية من الحدث، إلى جانب الغموض في الأدلة الأثرية، تبدو لمؤرخين معاصرين عوامل كافية للتشكيك بالتصوّر الشائع عن نيرون. المصادر النصّية الثلاثة الرئيسية هي تاسيتوس وسوتونيوس وكاسيوس ديو، ولم يكن أي منهم من معاصري نيرون، وكتبوا التاريخ بأثر رجعي، أو اعتمادًا على مصادر رأوها متحيّزة ضد نيرون، لكن ما يبدو واضحًا هو أن الحريق العظيم خلق فجوة بين الإمبراطور والنخبة الرومانية، استاء الكثيرون الذين توقعوا المساعدة، من دفع تكاليف خطط نيرون الفخمة لإعادة بناء روما، بما في ذلك بناء قصره الفاخر، ومن آثار انخفاض قيمة العملة في أعقاب الحريق (انخفضت نسبة الفضة النقية في العملات المعدنية الرومانية في مرحلة ما إلى 80 في المائة)، واقتنعوا أن نيرون أصبح أسيرًا لتعظيم الذات، وكان عليه الرحيل.

نيرون صبيًا  (Getty)



طمس الذاكرة

كان نيرو آخر أسرة جوليو كلوديان التي حكمت روما منذ الإمبراطور الأول يوليوس قيصر. وبعد وفاته، سيتنافس الأباطرة على العرش. كان فلافيو فيسبازيان (حكم: 69-79)، رابع الأباطرة الذين تنازعوا الحكم بعد نيرون، وأمر حوالي عام 70-72م، بإعادة الأرض الخصبة بالقرب من وسط المدينة إلى الشعب، حيث بنى نيرون سابقًا قصره، وتمثالًا له بارتفاع 38 م، وببناء مدرج جديد حيث يمكن للجمهور الاستمتاع بمعارك المصارعة وغيرها من أشكال الترفيه. لم يستمتع نيرون برفاهية دوموس أوريا لفترة طويلة.

انتحر نيرو عام 68 م، وخلال أربعين سنة اختفى هذا القصر الرائع، بعد أن سارع خلفاء نيرون إلى محو كل آثار الإمبراطور وقصره. حُرمت الغرف الفاخرة من الكسوة والمنحوتات، وتم ملؤها بالتراب حتى الأقبية لاستخدامها كأساس للمباني الأخرى. بنى تراجان حمامات في الموقع، وغطى فيسبازيان البحيرة بمدرج فلافيان، المعروف اليوم باسم الكولوسيوم في روما الإيطالية. بينما لا يزال من الممكن رؤية بعض أقسام دوموس أوريا اليوم، فقد فقدت أجزاء أخرى إلى الأبد، ولا تزال أخرى تحت الأنقاض.

في السابق وجدت أصوات نادرة حاولت الدفاع عن نيرون. في عام 1562، نشر العالم الموسيقي جيرولامو كاردانو في ميلانو أطروحة بعنوان "Neronis Encomium"، جادل بأن نيرون قد تعرّض للافتراء من قبل المتهمين الرئيسيين. مع ذلك كان حذرًا لأنه كان يواجه مشاكله الخاصة مع محاكم التفتيش في ذلك الوقت، والدفاع عن شخص يفترض أنه اضطهد المسيحيين لن يخدمه في المحكمة. ويبدو المؤرخ أنجيلو باراتيكو، الذي ترجم بيان كاردانو إلى اللغة الإنكليزية، متيقنًا أنه في ذلك الوقت كان يمكن للمرء أن يعرض حياته للخطر إن قال شيئًا جيدًا عن نيرون.


فنان في رداء إمبراطور

جون درينكووتر، الأستاذ الفخري للتاريخ الإمبراطوري الروماني في قسم الآثار الكلاسيكية والآثار في جامعة نوتنغهام، ومحاضر فخري في قسم الآثار بجامعة شيفيلد، قضى 12 عامًا في دراسة التهم الموجهة إلى Nero، وتفكيكها. وفي كتابه "Nero: Emperor and Court" يذهب إلى أنه وعلى خلاف ما هو دارج في الأعمال المنتشرة شعبيًا لم تكن الإمبراطورية كلها ضد نيرون، ولم تشكّل انتفاضة فيندكس في الغاليك تهديدًا حقيقيًا لنيرون أو روما كما اعتقد المؤرخون الكلاسيكيون، ولم ينقلب الجيش على نيرون بل "الرجال الذين يرتدون بدلات رمادية" (المقصود بهذا التعبير: رجال الأعمال أو السياسيون أو المسؤولون الحكوميون الذين يتخذون قرارات مهمة خلف الكواليس ولكنهم غير مرئيين وغير معروفين من قبل الجمهور).

درينكووتر يتعامل مع نيرون، ليس باعتباره الطاغية التقليدي القاتل، ولكن كشاب يتردد أكثر من أي وقت مضى في الوفاء بمسؤولياته كإمبراطور (Getty)


برأي درينكووتر، لا تشرح المصادر القديمة، بما يرضي أي شخص، سبب ارتكاب نيرون لكل الفظائع المنسوبة إليه، إن همها فقط استكمال صورة "الوحش". درينكووتر يتعامل مع نيرون، ليس باعتباره الطاغية التقليدي القاتل، ولكن كشاب يتردد أكثر من أي وقت مضى في الوفاء بمسؤولياته كإمبراطور، ومتلهف أكثر من أي وقت مضى لإظهار مهاراته الحقيقية كرياضي وفنان، وقد يتحمل القليل من المسؤولية الشخصية، وليس الكثير من الإثم عن الكثير من لا شيء، فرجال البدلات الرمادية تخلّصوا من نيرون، ليس بسبب ما فعله والذي لا يتجاوز "المعايير المروعة للمكائد السياسية الرومانية القديمة" عند غيره من أباطرة روما، ولكن بسبب الفشل في ما كان عليه أن يفعله. لم يكن نيرون مسيطرًا بل سمح لدائرة ضيقة حوله بإدارة الإمبراطورية: سينيكا، بوروس، القائد المخلص للحرس الإمبراطوري، وبالطبع أمّه إغريبينا، التي كانت تدير أمور الإمبراطورية كافة باسمه، وتستقبل الوفود، وترسل الرسائل إلى الحكام والملوك، كما يذكر كاسيوس ديو. من جانبه، أسلم نيرون نفسه للمهام التي تهمّه أكثر؛ قيادة عربات الجياد، والغناء، والشعر، والعزف على آلته الموسيقية. بدا عاشقًا لليونان وثقافتها المتطورة، وكان لديه القليل من الشهية الرومانية للدم والغزو؛ يخبرنا سوتونيوس، أنه في وقت مبكر من عام 64 بعد الميلاد، ذهب نيرون إلى نابولي، المدينة التي أحبها بسبب جذورها اليونانية وثقافتها المسرحية، وفي عام 67 سافر إلى اليونان لمدة عام في جولة عروض مسرحية وغنائية ورياضية وفاز في كثير من البطولات، مما يجعله رومانيا أقل جاذبية. يذهب درينكووتر إلى أن السيناتور الروماني جايوس كالبورنيوس بيزو قاد مؤامرة لقتل نيرون، ومن بين الشكاوى الرئيسية للمتآمرين كان تمثيل نيرون وغنائه في الأماكن العامة. أخذ نيرون هواياته على محمل الجد، وحظي بشعبية ومحبة العامة، لكن ذلك بدا لا يتناسب مع مؤسسة رومانية كانت تحب أن يصنع أباطرتها الحرب، وليس الفن.

تأمل نيرون لروما المحترقة لاعبًا في مسرحه مغنيًا لشعر هوميروس، لا يراه درينكووتر بالضرورة دليلًا على عدم مبالاة نيرون القاسية بمحنة شعبه. فأي شخص لديه حساسيات فنية كان سيتفاعل بنفس الطريقة. لقد فعل كل ما في وسعه لمحاربة الحريق كقائد سياسي، وبقي أن يرد على ألسنة اللهب بطريقته كفنان، حتى لو ترك نفسه عرضة لتهمة "الحرق العمد". ويعتقد المؤرخ أنتوني باريت أن هذا يندرج ضمن ردود الأفعال الإنسانية للغاية على "المأساة"، مستشهدًا بـ ج. روبرت أوبنهايمر، الفيزيائي الأميركي المعروف بأبو القنبلة النووية (1904-1967)، الذي أنشد بعد أول اختبار لقنبلة نووية في نيومكسيكو مقطعًا من بهاغافاد غيتا الهندية: "إذا كان لإشعاعات ألف شمس أن تنفجر جميعًا في السماء في وقت واحد، فهو سيكون كعظمة العزيز الجبار".


خاتمة

يبدو أن مشروع دوموس أوريا كان خطأ، وتم انتقاده في يومه باعتباره منزلًا أكثر بكثير مما يحتاجه أي ملك مطلق. ولكن ربما لم يقصد نيرون أبدًا أن تكون هذه المدينة الواقعة داخل مدينة هي ملعبه الخاص تمامًا. فالمؤرخ ديفيد شوتر، الذي كتب سيرة نيرون (2008)، ذهب إلى أن نيرون "أراد أن يجعل ملذاته متاحة للناس"، وأن من يبحثون عن علامات الجنون المفترض لنيرون لن يجدوها هنا؛ ولا ينبغي رفض مساهمته في البناء الروماني أو التقليل من شأنها بطريقة ضحلة للعديد من معاصريه.

كان نيرون يريد أن يعيش كفنان بصحبة جمهوره، أراد فعليًا أن يبني مسرحه الذي يسمع معه تصفيق الجمهور، ومع استمرار الحفريات في قصره، قد تظهر المزيد والمزيد من المعلومات حول نيرون وعالمه الذي حكم عليه، وحول روما التي نمت مدينة من حجر ورخام من رماد النار العظيمة.

 

إحالات:

1-   Geronimo CardanoJan, Neronis Encomium (1640), Free Google Play Book, In:  https://bit.ly/3jKfvMH
2-   David Shotter,  Nero Caesar Augustus: Emperor of Rome, 1st Edition, (Routledge: 2008)
3-   Anthony A. Barrett, Rome Is Burning: Nero and the Fire That Ended a Dynasty, (New Jersey: Princeton Press, 2020)
4-     Duruy, Victor, History of Rome vol. V (1883); Grant, Michael (translator), Tacitus, The Annals of Imperial Rome, (1989), in: https://bit.ly/3BzwEyK
5-   Diana Preston, "What was Nero really doing while Rome burned?", Washington Post, November 20, 2020, In: https://wapo.st/3yKl9Tj
6-   Society, National Geographic (18 June 2014). "Great Fire of Rome", In: https://bit.ly/3yMR59o
7-   Was Nero Responsible For The Great Fire of Rome?, Sky History, In: https://bit.ly/3zZvM6h
8-   Richard Cavendish, The Great Fire of Rome, History Today, Volume 64, Issue 7, July 2014, In: https://bit.ly/3h5qGxD
9-   Mark Cartwright, Nero's Golden House (Domus Aurea), World History Encyclopedia, In: https://bit.ly/3zR04I0
10- Joshua Levine, The New, Nice Nero, Smithsonian Magazine, In:  https://bit.ly/3kWBb7K