عن "الاستراتيجية الثقافية الفرنسية" أو "ديبلوماسية الفرنكوفونية"
يضرب كتاب "الاستراتيجية الثقافية الفرنسية.. أو ديبلوماسية الفرنكوفونية" الصادر مؤخرًا عن مركز البحوث والدراسات حول الجزائر والعالم في صلب ما قرأته قبل أعوام في باريس بقلم الراحل هرفيه بورج، مستشار الرئيس بن بلة بعد استقلال الجزائر، والرئيس الفرنسي فرنسوا ميتران.
في كتابه "معذرة فرنسيتي"، أكد بورج، الإعلامي الكبير، والمدير العام السابق لقناتي "تي أف 1"، و"فرانس تلفزيون"، أن لا خوف على مستقبل اللغة الفرنسية ما دامت الإحصاءات تؤكد أن الملايين من أبناء أفريقيا، وشمالها بوجه خاص، ومنها الجزائر، سيتحدثون لغة فولتير لزمن طويل، رغم زحف لغة شكسبير.
وإذا كان بورج، الخبير الذي عاش مطلعًا على بواطن التحديات الفرنسية والجزائرية على السواء، قد أكد أن لغة موليير ستصمد في وجه تراجع لافت بفضل أبناء المستعمرة القديمة، فإن رقية بوقراس، صاحبة كتاب "الاستراتيجية الثقافية الفرنسية.. أو ديبلوماسية الفرنكوفونية"، تؤكد بعض الأهداف الثقافية غير المعلنة في شكل اتفاقية رسمية (كما هي حال ما لم يعلن عنه في اتفاقيات إيفيان)، ومن بينها هدف تكريس اللغة الفرنسية في الجزائر، وفي غيرها من البلدان التي لم تعد فيها اللغة الفرنسية غنيمة حرب فقط، كما قال الكاتب الراحل الكبير كاتب ياسين.
عرض كتاب رقية بوقراس الصادر عام 2017، والذي اشتريته من مكتبة ديوان المطبوعات الجامعية، صالح أكثر من أي وقت مضى شأنه شأن كتاب بورج، وربطهما بزيارة الرئيس الفرنسي الأخيرة للجزائر، كلها حقائق تعمق صحة البعد الأيديولوجي الذي يقف وراء السعي لضمان بقاء لغة فولتير وموليير ليس كوسيلة تواصل فقط.
وعي فرنسا بالسلاح الناعم
مقدمة مقالي التي تبدو عند البعض ثرثرة أيديولوجية ليست كذلك، إذا استندنا إلى صراع ما زالت تعرفه المستعمرات الفرنسية وعلى رأسها الجزائر، وهو الصراع الذي تقابله ديبلوماسيات ثقافية أوروبية عامة وفرنسية خاصة تؤكد أنه الصراع الذي يدار عبر اللغة الفرنسية بواسطة كل أشكال أسلحة الحرب، أو القوة اللينة، أو الناعمة، التي أشارت إليها الكاتبة بوقراس في السطور الأولى لمقدمتها اللافتة، وهي المقدمة التي بلورتها لاحقًا في فهرس تضمن مباحث مكنتها من الإحاطة بكافة تجليات الإشكال المستمر على ضفتي المتوسط.
قالت الكاتبة على لسان جوزيف ناي مؤكدة صحة علاقة عنوان كتابها بالاستراتيجيات والسياسات العامة التي تكرس اللغة كوسيلة للهيمنة، وليس فقط للتواصل، ويستخدم العمل الثقافي كنوع آخر من الحرب المعلنة، أو المخططات المرافقة للهيمنة والاحتلال: "ثمة قوة صارمة تستند إلى قوة اقتصادية وعسكرية، وقوة لينة هي قدرة الدولة على حمل دولة أخرى على أن تقول ما تريده من خلال اللجوء إلى ثقافتها وأيديولوجيتها. وإذا كانت ثقافة دولة ما لها جاذبيتها، سيكون الآخرون أكثر استعدادًا لاتباع قيادتها، فالقوة اللينة بنفس أهمية القوة الصارمة، وبينهما اعتماد متبادل". "بروز وسائل تواصل تقوم على تكنولوجيا غير مسبوقة دفع ـ تقول الكاتبة ـ الحكومات إلى الاهتمام بالديبلوماسية الثقافية كقوة ناعمة تقوم على نجاح الصناعات الثقافية، وعلى ترقية المعارف من خلال العمل على نشر صورة إيجابية عن الدولة في الخارج". وتضيف: "وعت فرنسا مبكرًا الانقلاب الذي حصل على الصعيد الكوني في أعقاب نتائج الحرب العالمية الثانية، وأدركت أن اشتداد وطأة ضغوط مطالب الاستقلال عنها في سياق نهاية حلمها الإمبراطوري، وعرفت أن لا سبيل لها إلى ضمان مستقبل مصالحها في مستعمراتها باستمرارها في مشروع الإخضاع العميق لشعوب المستعمرات، بل من خلال مفاوضة هذه الحركات الوطنية على مستقبل تلك المصالح على قاعدة التسليم بالحق الطبيعي والمشروع لبلدانها في حيازة الإستقلال الوطني، إلا أن الاستقلال الوطني لا يتم إلا بأبعاده السياسية والاقتصادية والثقافية".
الفرنكوفونية كوسيلة
من إحدى الاستراتيجيات الثقافية والسياسية الأيديولوجية التي أولتها فرنسا العناية الأولى والأخيرة، بغرض التحكم في شعوب البلدان المستعمرة، زرع اللغة الفرنسية ليس فقط كلغة، بل كاستمرارية لوجودها التاريخي في البلدان التي تحررت سياسيًا، ووعيًا منها بالتحدي الخطير الذي أصبح مرادفًا لتراجع ثقافي يهدد هويتها في زمن تكنولوجيا تواصل سيطرت من خلالها اللغة الإنكليزية. وتم تكريس ذلك، من خلال إيجاد مداخل جديدة للهيمنة والسيطرة على المجتمعات، وليس على الدول بواسطة أيديولوجيا تعيد إنتاج علاقات التبعية، وتستثمر الموروث اللغوي الاستعماري لأغراض سياسية واقتصادية مبنية على مبادئ حوار الحضارات في ظل عولمة دولية طغت على معالم المجتمع الدولي، والتي فرضت خصوصيات معينة عن طريق القوة بسيطرة المركز على الأطراف، وتبعية الأطراف لغة وثقافة إلى المركز.
تأسست هذه الفكرة ـ استطردت المؤلفة رقية بوقراس عبر منهجية محكمة ومضبوطة فسرت تاريخ بروز ديبلوماسية الفرنكوفونية ـ على تلازم موضوعي ودائم بين ثلاث سياسات رئيسة. وتمثلت هذه السياسات في الاستيطان وفرنسة الجماعة والنخبة (هنا يفهم تهميش ونبذ المفكر مالك بن نبي، وتمجيد قادة ومعظم مثقفي فرنسا الروائي الشهير ألبير كامو، وبعده تلميذه كمال داوود الذي تحدث عن عدم أهمية اعتذار فرنسا للجزائر، كما تحدث الرئيس الفرنسي ماكرون، وعن ما أسماه حساسيته المفرطة للمتاجرة بريع الذاكرة متناسيًا متاجرة إسرائيل بالهولوكوست الذاكرة الوحيدة التي يجب أن لا تنساها البشرية). وهدفت فرنسا من خلال السياسات المذكورة إلى الدمج الجذري الاجتماعي لأبناء المستعمرة المعنية في حضارة فرنسا وثقافتها إلى أبعد مدى، وخلق طبقة عليا من أهالي البلد الأصليين مطبوعة بطابع الثقافة واللغة الفرنسيتين ومنفصلة فكريًا ومعنويًا وروحيًا عن مواطنيها من الطبقات الأخرى داخل المجتمع، كأداة للحكم والتغلغل حتى بعد الاستقلال السياسي الرسمي.
اللغة في قلب التوازن الاستراتيجي
يعالج كتاب رقية بوقراس الفرنكوفونية كمنظومة دولية لفهم انتشارها وسعيها للتأقلم مع الوضع الجديد لخدمة مصالحها والتوسع في أقاليم جديدة، خاصة في الأميركيتين. وتبرز بوقراس ذلك من خلال الربط بين مسألة التعاون والتنافس الفرنسي، وتحليل أساليبها، حتى تعيد نسج شبكة العلاقات الدولية، وتحويلها إلى تبادل ترمي بها إلى خلق تضامن سياسي في المحافل الدولية حتى ترسم بواسطته خارطة جيوسياسية جديدة للتوازنات الإقليمية تحدد بها دائرة نفوذ دولية في سلسلة الصراعات التي يتخبط فيها المجتمع الدولي بين المسيطر والمسيطر عليه بواسطة تحالفات وعلاقات ديبلوماسية مفعلة لخدمة مشاريع سلمية بمسميات عديدة تدخل ضمن مفاهيم الشراكة والتعاون والتكامل. بعد وضع الفرنكوفونية منهجيًا في إطارها التاريخي، وفي علاقتها بالمتغيرات الدولية التي ساهمت في تراجع الحضور الفرنسي سياسيًا وثقافيًا، سلطت الكاتبة الضوء على سياسة فرنسا كدولة بارزة تجاه مناطق مهمة جدًا بالنسبة لها مع ظهور مصادر جديدة لتهديد الأمن في أوروبا عامة، وفي فرنسا خاصة. وسعت فرنسا لتجسيد هذه السياسة بناء على منظومة قيم شاملة باسم الفرنكوفونية، لغة وسياسة، ومؤسسة دولية تهدف إلى بناء حضارتها الخاصة. انطلاقًا من التصور المنهجي المدروس بدقة، تبين أن كتاب بوقراس إبحار في مقاربة علمية تستند على السياسة الخارجية التي تقوم على جدلية متبادلة بين اللغة كوسيلة، والثقافة كإطار ووعاء لها، من منظور التعاون الثقافي ذي الإبعاد السياسية.
فرنكوفونية في صلب العلاقات الدولية
تناقش بوقراس لاحقًا تداعيات الاستراتيجية الفرنسية، وانعكاساتها على مبادرات التعاون الدولي، وتأثيراتها حسب تفسيرات نظريات العلاقات الدولية بحكم التعقيدات التي تميز النموذج الفرنسي في مجال السياسة الخارجية، وتعدد الرؤى التي تحلل الفرنكوفونية وفق زاوية البناء المعرفي المؤسس غالبًا على خلفيات براغماتية. الدراسة آنية بحكم وقوفها عند راهن مساعي فرنسا للحفاظ على تماسك كيانها الحضاري في الوقت الذي تبذل فيه كل ما في وسعها لتفكيك تجانس واستقرار الدول، وتدمير الوحدة القومية لها. وإشارة الكاتبة أكثر من مرة إلى الجزائر كبلد مستهدف في أفريقيا الشمالية لم تكن إلا تأكيدًا على صوابية منهجيتها التاريخية والسياسية والثقافية. استلهمت الكاتبة إشكاليات مؤلفها من مجموع المظاهر التي تتميز بها العلاقات الدولية من منظور التاريخ الاستعماري الفرنسي الذي ما زال يطفو على السطح، والذي يجب توظيفه بشكل يراعي متطلبات الحاضر وخصوصيات الماضي بهدف سبر أغوار المستقبل على حد تعبيرها. هذا المستقبل يقوم على اعتبارات ثقافية فرضتها العولمة بشكل يساهم في تضييق التأثير الفرنسي ثقافيًا ولغويًا. تجسد تدارك النقص الذي طال الحضور الفرنسي التاريخي بعد الحرب العالمية الثانية، فكان عليها تعبئة قواها الذاتية بدعم المبادرات المحلية لتسيير الصراعات بصورة موسعة من أجل الحد المباشر لجيوشها وقواتها العسكرية.
ولوضع إطار شامل للتوظيف السياسي للغة والثقافة لدى الجماعات السياسية، قام على الجوانب الاقتصادية والإستراتيجية التي تأخذ بعين الإعتبار الجيوسياسية وسط فضاء يعرف سجالا بين الدول الإقليمية في الدول المغاربية، والتي لا ينفك عنها دور القوى الدولية الخارجية الأخرى.
الفضاء الثقافي والخطة الجيوسياسية
لا يمكن فهم الاستراتيجية الفرنسية في المستعمرات القديمة في نظر الكاتبة بوقراس، وعلى رأسها الجزائر ـ والمتسمة بخطاب التعاون المبدئي والمستمر بأشكال مختلفة رغم التقلبات الخاضعة للسياسة الداخلية ـ إلا بفهم خطورة وأهمية الفضاء الثقافي في خطتها الاستراتيجية من أجل استرجاع مجالاتها الحيوية، ولا خلاف "حول براعة فرنسا كإحدى الدول الكبرى في سيطرتها على مبادئها الثقافية، وفي استخدام الفرنكوفونية كلغة وكنسق ثقافي وحضاري في خدمة مشاريعها واستغلال الفضاءات الثقافية لصالح استراتيجيتها باستخدام أسلوب الترغيب معتمدة على القوة الناعمة"، على حد تعبيرها. تقوم هذه الاستراتيجية على ثلاثة أنواع من المنطق الجيوسياسي، وتتمثل في التي يتم إنتاجها في المعاهد الاستراتيجية ومؤسسات الفكر والرأي والأوساط الأكاديمية، وفي الأشكال اليومية للمنطق الذي يستخدمه القادة السياسيون في شرح وإضفاء الشرعية على سياستهم الخارجية والأمنية (الرئيس ماكرون خلال زيارته الأخيرة للجزائر نموذجًا)، وفي السرد المكرس في الإعلام والسينما والرواية. الأمثلة المغاربية والأفريقية التي تحفل بها معظم الإنتاجات في الحقول الثلاثة المذكورة تؤكد صحة ما راحت إليه الكاتبة، والأسماء التي تكرسها دور نشر فرنسية، مبدعة كانت أم غير مبدعة، ما هي إلا أدلة تثبت صحة مراهنة فرنسا على توظيف الفرنكوفونية في الفضاء الثقافي ضمن خطتها الجيوسياسية والديبلوماسية.
في مواجهة الأنجلوفونية
يقدم كتاب بوقراس رؤية متسلسلة ومبررة علميًا، وعرضًا لبناء المنظومة الثقافية الفرنسية في المجتمع الدولي، ومحاورها الجيوسياسية من خلال الاستراتيجية الثقافية الشاملة التي رسمتها من أجل التحكم في الفضاء الموروث عن المرحلة الاستعمارية، واستغلاله لمنافسة القوى الكبرى، والتي تغيرت ملامحها عبر الزمن. في هذا السياق، تطرقت دراستها إلى الهيكلة المعرفية والنظرية التي تعتمدها السياسة الفرنسية لتحليل العلاقات غير المتماثلة في هذه المنظومة والفضاء الدولي في ظل الإنتشار الواسع لمبادىء المنظومة الأنجلوفونية، وتمسك فرنسا بنهجها ذي الطابع العالمي.
حتى تتضح الرؤية أكثر للقارىء الكريم، عالجت المؤلفة في كتابها المحكم معرفيًا ومنهجيًا في ثلاثة أقسام أهم الأسس النظرية وأبعاد السياسة الثقافية الفرنسية الراهنة قبل استعراض الفرنكوفونية كسياسة وظاهرة اجتماعية وثقافية معقدة يصعب على فرنسا إخفاء هدفها الأيديولوجي باسم التعاون. مسعى فرنسا لا ينفصل تاريخيًا وسياسيًا وثقافيًا عن التطور الذي فرض على دول فرنكوفونية توجهًا فكريًا وتربويًا يدخل في صلب الصراع الدولي الدائر حول الهوية، وليس حول المصالح الاقتصادية فقط. من لم يتابع سياق وأهداف زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الأخيرة إلى الجزائر يمكن له أن يعوض ذلك بقراءة كتاب رقية بوقراس الضارب بعمقه في توجه فرنكوفوني فرنسي وأوروبي يثبت أن اللغة ليست وسيلة تواصل فحسب، كما الجهات الشوفينية التي تتحسس مسدساتها حينما تسمع كلمتي اللغة العربية التي بنى عليهما إريك زمور زعيم القبيلة العنصرية خطابه السياسي كمرشح لخوض الانتخابات الرئاسية الأخيرة. نقص واحد سجلناه ونحن نقرأ كتاب رقية بوقراس الواقع في 352 صفحة من القطع الكبير، وتمثل في عدم توقفها عند الفرق بين مفهوم الفرنكوفونية والفرنكوفيلية، حتى ولو فهمنا جدليًا أن محاولة التفرقة مجرد خداع وبهتان في معظم الأحيان، لأن الفرنكفونية وكما صاغتها وحللتها هي أيديولوجية في جوهرها علمًا أن عددًا لا بأس به من المبدعين الفرنكوفونيين غير منسجمين أيديولوجيًا. ربما ترى الكاتبة هذه الحقيقة الاستثناء التي لا يقاس عليها، والقاعدة هي التي تثبت صحة معالجتها الفرنكوفونية من منظور أيديولوجي لا يقبل الطعن والشك. شيء آخر سلبي حقًا هذه المرة تمثل في نشر نص الغلاف الخلفي باللغة الفرنسية عوض نشره بلغة الكتاب، أي بالعربية. صورة متحف اللوفر في الغلاف الأمامي لم تكن موفقة أيضًا في تقديرنا، حتى وإن كان يرمز عالميًا إلى القوة الثقافية الفرنسية. كان يمكن اختيار صورة تعكس مسعى الهيمنة الفرنسية في الخارج باسم التعاون الذي تحدثت عنه الكاتبة أكثر من مرة لزرع الغموض واللبس في الأذهان والتغطية على الهدف الأيديولوجي غير المعلن.