جنازة الرأي العام

بلال خبيز 29 أكتوبر 2024
آراء
وقفة احتجاجية أمام البيت الأبيض (Getty, 7/10/2024)


في النصف الثاني من سنوات العقد الأول من هذا القرن، كنا مجموعة من الفنانين والمثقفين اللبنانيين، نبحث في أنجع طريقة لجعل التواصل مع الثقافة في العالم، الغربي منه على وجه الخصوص، ممكنًا ومفيدًا. وليد صادق، الأستاذ الجامعي والكاتب والفنان، كان واحدًا من أعضاء هذه المجموعة. وفي أعقاب حرب 2006 قدمت معه ومع فادي العبد الله عملًا مشتركًا في بينالي الشارقة ونال جائزة البينالي الأولى. جزء من مساهمتي في هذا العمل كان نصًا طويلًا، نشر في كتاب، يتناول الأثر الاجتماعي والثقافي والقانوني على اللبنانيين بعد الحرب التي شنتها إسرائيل على لبنان في تموز/ يوليو من ذلك العام. هذه المساهمة كانت، كما يظهر لي اليوم، إفراطًا في الكلام، إذا ما أردت أن أقارنها بالجزء المتعلق بمساهمة وليد صادق في هذا العمل المشترك. فوليد صادق لم يفعل في هذا الصدد إلا محو اللوحات الفنية لفنانين لبنانيين، والاستعاضة عنها بعناوين تلك اللوحات. يومذاك كنت أرى في هذا البياض المطلق الذي علّقه صادق على الجدران إفراطًا في الكسل. أو لربما كنت أحسب أنه إفراط في التخلي. ما كان يقوله وليد صادق يومذاك، وعبّر عنه بوضوح فيما بعد، أن فنوننا وكتاباتنا والوهم الذي نغذّيه في أنفسنا بوصفنا من المؤثرين في الشأن العام، ليس إلا سرابًا، يجدر بنا أن نقلع عن ملاحقته. وأن ما سيبقى لنا، إذا أردنا أن نعمل في الفنون، لا يتعدى حدود غرف منازلنا الضيقة: العناية بأولادنا وزوجاتنا وأهلنا، زراعة الحديقة بالبقوليات والحبوب، تخزين الأغطية والثياب في خزائننا تحسّبًا لأيام قارسة مقبلة. أما الطموح إلى سكنى المتاحف والغاليريات وشاشات التلفزيونات، فليس مؤدّيًا إلى أي مكان. قد يشكّل هذا الطموح إذا تحقّق، نوعًا من الإشباع المالي، لكنه عدا ذلك ليس إلا استقالة من كل ما نعرفه ونذكره ونحاول التواصل معه.

يومذاك كنت أقل تشاؤمًا من صديقي. وكنت أحسب أن جهدًا فائضًا وغزيرًا، قد ينجح في جعلنا أندادًا لأولئك الذين يهتمون بالشؤون العامة في الغرب ويحسبون أنهم جزء لا يتجزأ من السلطة القائمة فيه، وقادرون على التأثير في قراراتها وخياراتها، ليس في زمن الاقتراع فحسب، بل أيضًا خلال الفترات التي يكون فيها المواطن منسيًا وغارقًا في همومه من دون أي معين.

لكن حسبان هؤلاء وظنونهم لم تكن دقيقة أبدًا. إذ سرعان ما انتبه المشتغلون في الشؤون العامة في العالم أجمع، أن محاولاتهم للخروج من الخانة التي وضعهم فيها جيمس ماديسون تبدو مستحيلة. فماديسون كان يرى أن الديمقراطية الحقة تقضي بأن يستمع المرشح إلى البرلمان جيدًا إلى هموم الناخبين وشجونهم، إنما يجدر به ما أن تطأ قدمه عتبة الكابيتول هيل، حتى ينسى كل الذين انتخبوه، ويهتم بمصالح الأمة فقط، لا بمصالح ناخبيه. معادلة ماديسون لها ما لها وعليها ما عليها. لكن الثابت أن تاريخ النضال الذي خاضه التكنوقراط (الثقافي والسياسي والقانوني) ليتحول من مجرّد مدوّن للقوانين التي تحمي القوى الفاعلة في المجتمع وتحافظ على مصالحها، إلى جهة يحسب حساب مصالحها ومواقفها في هذه القوانين، أثمر بعض الثمار، وربما وصل إلى ذروته الحاسمة ومنتهى سلطانه في التظاهرات الأميركية ضد حرب فييتنام، وأحداث أيار/ مايو 1968 في فرنسا. والأرجح أنه منذ ذلك التاريخ (السحيق) لم يعد ثمة قمم أخرى يستطيع التكنوقراط تسلقها، ومنذ ذلك الحين بدأ رحلته في الانحدار نحو الوديان.

لقد تغذّت ثورات الربع الأخير من القرن العشرين على سلطة الرأي العام. والرأي العام لم يكن مرّة عبارة عن محصلة آراء الناس والمواطنين. لطالما كان الرأي العام مكوّنًا من مجموعات ضغط، تهدّد بحجب أصواتها عمّن تعارضه في الانتخابات المقبلة. وهي مجموعات ضغط تشترط لتشكلها أن يكون أعضاؤها ملمّين إلى هذا الحدّ أو ذاك في شؤون القضايا التي يناضلون لأجلها وشجونها.

لنعد إلى فييتنام. كانت الحجة الرئيسية في التظاهرات الأميركية أن تلك الحرب عبثية ويسقط من جرائها قتلى أميركيون من دون أن يكون لسقوطهم فائدة على الإطلاق. الحجة دامغة وقوية، لكن أميركا خاضت حروبًا أخرى فيما بعد، في بنما، في أفغانستان، في العراق، في سورية واليمن إلى حدّ ما، لكن القتلى الذين سقطوا في تلك الحروب سقطوا في غفلة عن أعين الرأي العام إياه. باتت الخسائر تحدث أثرها في بيوت القتلى وبين عائلاتهم فقط، ولا تعمّم لتشمل البلد بأسره. التظاهرات التي تعنى بالسياسات الخارجية اليوم في الولايات المتحدة يغلب عليها مكوّن النسب. ثمة فلسطينيون كثيرون يمتون بصلات نسب وأرحام للفلسطينيين الذين يعانون المجزرة المستمرة، يتظاهرون دعمًا لهم، وقد ينضم إليهم بعض الأفراد. وثمة مناصرون لإسرائيل يتظاهرون في مواجهتهم ويطالبون بقتل المزيد منهم. والطرفان جزء من هذا الرأي العام. وتعارضهما يسمح للسلطات، كلها، وليس السلطات السياسية فقط، بالتغاضي عما يطالبان به، والتصرف كما لو أن شيئًا لم يكن. لقد انحدرت صناعة الرأي العام من الكونية والعالمية إلى حدود العائلة والنسب وصلات الرحم والقرابة.

ولنضف إلى ذلك عاملًا آخر. لقد جعلت التقنيات الحديثة من عيش الناس في المدن المتصلة بالتقانة المعاصرة سعيًا لا يكلّ ولا ينتهي إلا بالإرهاق الذي يعالج بالنوم. ليس ثمة وقت للتضامن مع أحد، وإن حدث فإنه تضامن لحظوي يمكن ممارسته على وسائل التواصل الاجتماعي التي ليست في واقع الأمر إلا زمنًا خفيفًا شائلًا ومقتطعًا بين زمنين صلبين وقاسيين. هكذا وأمام مقتلة بحجم ما حدث في غزة تضامن كثيرون مع أهل غزة وطالبوا بوقف الهجوم الوحشي، لكن الزمن ليس في مصلحة المتضامنين. عليهم أن يعودوا إلى شؤونهم وأعمالهم، وعلى الفلسطينيين الاستمرار في الموت حتى فناء المكان الذي كانوا يعيشون فيه. إنما مع ذلك ثمة من تظاهر، كانت المجزرة في بدايتها وكان الصراخ في مواجهتها ضروريًا وطبيعيًا. لكن المجزرة استمرت وانتقلت إلى بلد آخر هو لبنان. ولم يكلف أحد نفسه عناء التنديد. ذلك أن اليأس من قدرة التنديد على إيقافها تم اكتناهه في غضون المجزرة الأخرى. ولم يعد لدى هؤلاء ما يفعلونه غير الغضب واختبار الشعور بالعجز.

منذ أيام ذهبت لإصلاح دراجتي الهوائية. صاحب المتجر الأميركي لم يكف طوال الوقت عن إبداء غضبه الشديد على الهمجية الإسرائيلية الممارسة في فلسطين ولبنان وسورية. لم يقبل مني أي اعتراض أو ملاحظة. فقط كان يسمح لي من وقت لآخر بطمأنته أن أهلي هناك ما زالوا بخير، ويسألني إن كنت بحاجة لشيء لأرسله لهم ويستطيع تأمينه. هذا الرجل الذي هاجر أجداده إلى أميركا تحوّل بسبب عجز الرأي العام عن التأثير إلى واحد منا. بل بدا لي أنه أكثرنا حزنًا وأكثرنا ارتباطًا ببلادنا التي تتهدّم وأهلنا الذين يبادون. لم أستطع أن أجيبه على أي شيء. لكنني أدركت بصورة قاطعة أن الإنسانيون والعالميون والمواطنون في كل العالم تعرّضوا لهزيمة قاسية وها هم يعودون أهلًا وأنسباء، حتى من كان منهم يتحدّر من أهل ونسب بعيد كل البعد عن أنسابنا.

الأهل يجيدون الصراخ والصمت والحداد. هذا ما كان يريد وليد صادق قوله لي في ذلك العام من تلك الحرب. وهذا ما كنت أحسب أنه تخلّ واستسلام.