ورغم أنني، شخصيًا، لا أستطيع أن أوافق على حصر الفنون في مهمة واحدة هي الترفيه، فللفن أدوار أخرى أكثر أهمية من الترفيه، من دون الانتقاص منه، فمثلًا صناعة الجمال عبر تكريسه كقيمة كبرى، أو صناعة الوعي الجمعي وخلق التنوع واحترام الاختلاف الفكري والثقافي والمعرفي والجندري والديني والقومي، أما الحديث عن دور الفنون في التغيير المجتمعي والسياسي فهذا شأن آخر لم تعد الفنون العربية قادرة عليه للأسف. رغم أنني كما أسلفت لا أوافق على حصر الفنون في الترفيه، فمع ذلك لم أفهم هذا الاحتفاء على السوشيال ميديا بالرفض المفترض للسيدة فيروز بالغناء في موسم الرياض، ويمكن أن نناقش هذا الأمر من عدة وجوه.
السيدة فيروز، وعلى مدى تاريخها، غنت في كل العواصم العربية، وبدعوات من زعماء تلك الدول، هي حقًا لم تغن للزعماء بأسمائهم الشخصية، ولكنها غنت للعواصم والمدن، وحين نقول فيروز فإن القصد هو (الحالة الرحبانية) المكونة من عاصي ومنصور الرحباني وفيروز، يرافقهم الشاعر سعيد عقل، الذي كتب معظم القصائد التي غنتها فيروز للعواصم العربية؛ لم يكن لأي منهم موقف من الأنظمة العربية، كانوا دائمًا كما لو أنهم يضعون السياسة في جانب وفنهم في الجانب الآخر، وباستثناء قضية فلسطين هم لم يسجلوا موقفًا واحدًا مع أية قضية عربية أخرى من أي نوع، لا في فترة حياة الأخوين رحباني، ولا بعد رحيلهما، أي حاليًا (فيروز وزياد وريما، أو باقي الأسرة الرحبانية). لم نسمع يومًا عن أن أحدًا منهم أعلن موقفًا مناهضًا لزعيم أو نظام عربي، زاروا كل الدول، وغنوا لكل الدول، باستثناءات قليلة، منها السعودية التي كانت تحرم الغناء تلك الفترة، وأكاد أجزم أنه لو كان الوضع مختلفًا في السعودية تلك الفترة، وكانت قابلة لإقامة حفلات فنية كما هي الآن، لكانت فيروز والرحابنة على رأس المتواجدين على مسارحها، خصوصًا أن الفن في مصر ذلك الوقت كان متألقًا ومتجاوزًا، وكانت المركزية المصرية في أوجها، وكان فنانو مصر لا يحتاجون كثيرًا لتقديم حفلات كبيرة خارجها، كما حدث لاحقًا إثر الانهيار الذي أصاب قطاع الفن في العالم العربي. وأظن أيضًا أن فيروز كانت ستغني قصيدة عظيمة للرياض كان سيكتبها سعيد عقل، وهي التي غنت له قصيدته البديعة (غنيت مكة أهلها الصيدا) قبل أن يخطر في بال أحد أنه من الممكن يومًا ما أن يحدث ما يحدث الآن في السعودية.
فيروز الآن في السابعة والثمانين. اعتزلت الغناء منذ سنوات طويلة تجاوزت الاثنتي عشرة سنة، ولم تعد حتى تسجل ألبومات مع زياد، وتكتفي أحيانًا ببعض التراتيل الدينية فترة الميلاد أو فترة الفصح. تدرك فيروز أن صوتها لم يعد كما هو، ولا إطلالتها على المسرح بقيت كما هي. تعيش السيدة العظيمة حاليًا معتزلة مع أسرتها، كما لو أنها نذرت باقي حياتها للاعتناء بولدها هلي (من ذوي الاحتياجات الخاصة) لا تظهر في أية صورة إلا برفقته ورفقة ريما وزياد. ومعروف عن السيدة فيروز خفرها من الظهور العام والمقابلات والحضور الاجتماعي. وإن كانت قد تلقت دعوة من السعودية لتكريمها في الرياض فهذا يقع في باب تقديرها كقيمة فنية عربية كبيرة، وإن رفضت الدعوة، كما قيل، فهي لم ترفضها، حتمًا للأسباب التي ذكرها أو تمناها متناقلو الخبر، وإن حصل ودعيت ووافقت وذهبت ووقفت على المسرح لن يكون في هذا أي انتقاص من قيمتها. سوف نحزن عليها كما حزنا على نجاة حين ظهرت مؤخرًا في حفل (جوي آوورد) في السعودية. سوف نحزن لأنها لن تغني بصوتها، بل بطريقة (البلاي باك)، ولن تقف ثابتة على المسرح بكل قوتها، كما اعتدنا عليها. سوف نحزن لأن صورتها في وجداننا مختلفة عن الصورة التي ستظهر بها على المسرح وهي قد تجاوزت الثمانين. سوف نحزن في الحقيقة علي أنفسنا ونحن نراقب الزمن يمضي بنا من دون أن ننتبه كم أن يده قاسية وخشنة وبلا رحمة. سوف نحزن لأننا سنصدم حين نراها عاجزة عن الغناء، نحن الذين أسرنا صوتها النادر، وشكل وجداننا الفردي والجمعي منذ زمن طويل. سوف نحزن لأن عالمًا كبيرًا تربينا فيه وعليه ينهار أمامنا من دون أن نتمكن من فعل شيء لإنقاذه وإنقاذ أنفسنا. سوف نحزن، لكن لن تنقص قيمتها في وجداننا لو فعلت ذلك.
اتركوا فيروز بحالها، هي أدرى بما هو أصلح لها، لا تحملوها مواقفكم الشخصية، لا تحملوها رغباتكم، لا تلقوا بها في مهاترات أيديولوجية وسياسية عاشت حياتها كلها في منأى عنها. يحق للسعودية دعوتها، ويحق لفيروز الرفض، أو القبول، لأسباب تراها هي وتعرفها وحدها. أما تحميل رفضها (لو كان قد حصل) موقفًا سياسيًا وأيديولوجيا فهذا يقع في باب التمني لا أكثر.