في أحوال ومقاصد قصيدة النثر العربية
ورغم أنه كان من كبار المدافعين عن التجديد والتحديث في الفكر، فإن طه حسين أبدى الاحتراز والتحفّظ أمام موجة القصيدة الحرة، لكنه كان أقلّ قسوة على أصحابها من العقاد. وفي إحدى مقالاته، كتب يقول: "ومن الشباب طائفة يرون لأنفسهم الحق في أن ينحرفوا عن مناهج الشعر القديم، وعن أوزانه وقوافيه خاصة، ولست أجادلهم في هذا الحق، بل ليس لي أن أجادلهم فيه، فأوزان الشعر القديم وقوافيه لم تنزل من السماء، وليس هنالك ما يمنع الناس من أن ينحرفوا عنها انحرافًا قليلًا، أو كثيرًا، أو كاملًا... ولكن للشعر، قديمًا كان أو حديثًا، أسسًا يجب أن تراعى، وخصائص يجب أن تتحقق، فليس يكفي أن ينشئ الإنسان كلامًا على أيّ نحو من أنحاء القول، ثم يزعم لنا أنه قد أنشأ شعرًا حديثًا، إنما يجب أن يحقق في هذا الكلام الذي ينشئه أشياء ليس إلى التجاوز عنها سبيل، فالشعر يجب أن يبهر النفوس والأذواق بما ينشئ فيه الخيال من الصور، ويجب أن يسحر الآذان والنفوس معًا بالألفاظ الجميلة التي تمتاز أحيانًا بالرصانة والجزالة، وتمتاز أحيانًا بالرقة واللين، وتمتاز في كل حال بالامتزاج مع ما تؤديه من الصور لتنشئ هذه الموسيقى الساحرة التي لا تنشأ إلا من هذا الائتلاف العجيب بين الصور في أنفسها وبينها وبين الألفاظ التي تجلوها، بحيث لا يستطيع السمع أن ينبو منها، ولا تستطيع النفس أن تمتنع عليها، ولا يستطيع الذوق إلا أن يذعن لها ويطمئن إليها، ويجد فيها من الراحة والبهجة ما يرضيه، فإذا استطاع الذين يحبون هذا الشعر الحديث أن يقدموا إلينا منه ما يمتعنا حقًا فمن الحمق أن ننكره، أو نلتوي عنه، لا لشيء إلا أنه لم يلتزم بما كان القدماء يلتزمون من الأوزان والقوافي".
ويقرّ طه حسين بأن التجديد في الشعر ليس حدثًا جديدًا في تاريخ الأدب العربي، ولا في آداب العالم، مشيرًا إلى أن الشعر العربي لم يكد يعش نصف قرن بعد ظهور الإسلام حتى أخذت أوزانه تخضع لألوان من التطور، ودخلت عليه الموسيقى التي جاءت بها "الشعوب المغلوبة". ويختم طه حسين مقاله داعيًا الشعراء الشباب إلى أن "ينشؤوا شعرًا حرًا أو مقيدًا جديدًا أو حديثًا"، شرط أن يكون هذا الشعر "شائقًا ورائعًا".
بعد مرور عشر سنوات على الحركة التمردية الأولى ضد الشعر القديم، ظهرت حركة ثانية أكثر راديكالية ورفضًا له شكلًا ومضمونًا. حدث ذلك مع عودة الشاعر اللبناني يوسف الخال إلى بيروت عام 1955، بعد إقامة طويلة في الولايات المتحدة الأميركية. في البداية، عمل أستاذًا في الجامعة الأميركية لمدة سنتين، وفي الآن نفسه، كان يكتب في الصحافة طارحًا آراءه وأفكاره حول قضايا الثقافة بصفة عامة، والشعر بصفة خاصّة. وكان واضحًا من خلال تلك المقالات أنه عاد من الولايات المتحدة الأميركية متأثرًا بالشاعر إزرا باوند، الذي كان وراء الحركات الطلائعية في الأدب الأنجلو ـ سكسوني. كما أنه كان أول من تحمّس لقصص همنغواي، ولرواية "أوليسيس" لجيمس جويس. ولعل يوسف الخال كان يحلم بأن يلعب الدور نفسه الذي كان قد لعبه معلّمه الكبير. لذا شرع يهيّئ نفسه لذلك معتمدًا على معرفته الواسعة بالتيارات الحداثيّة الغربيّة. وفي عام 1957، أسّس مجلة "شعر" محيطًا نفسه بمجموعة من الشعراء والأدباء الشبان، من أمثال ادونيس، وأنسي الحاج، وشوقي أبي شقرا، وفؤاد رفقة، وفاتحًا صفحات المجلة لكلّ المواهب الجديدة المؤمنة بالتجديد والتطوير. وبذلك أتاح فرصة الظهور والبروز لشعراء جدد، من أمثال بدر شاكر السياب، وسعدي يوسف، وسركون بولص، ومحمد الماغوط، وآخرين.
ومنذ البداية، لعبت مجلة "شعر" دورًا رياديًّا في بلورة رؤية جدّية في مجال الشعر والكتابة بصفة عامة، مُولدة ما أصبح اليوم بـ"قصيدة النثر" الفالتة من كلّ الأوزان.
وكانت المحاضرة التي ألقاها يوسف الخال عام 1956 في "الندوة اللبنانية" تحت عنوان: "مستقبل الشعر العربي في لبنان"، بمثابة البيان النظري الذي مهّد لظهور مجلة "شعر". وقد تركزت تلك المحاضرة على نقاط ثلاث: وضع الشعر العربي في لبنان بالقياس إلى التراث الشعري العربي، ووضعه بالقياس الى تطوّر الشعر في الغرب وفي العالم. أما النقطة الهامة الأخرى فهي النقلة النوعيّة التي يتحتم على الشاعر العربي أن يقوم بها. وقد وصف يوسف الخال الشعر العربي الرائج في ذلك الوقت بـ"المتخلف"، وبـ"التقليدي"، ليخْلصَ في النهاية إلى أنه لا يجاري حداثة العصر. كما أوضح أن العقل اللبناني، والحياة اللبنانية، لم يتغيّرا إلاّ على مستوى السطح، أي أنهما لم يتغيّرا بقدر كاف لتوليد نظرة جديدة تتّصلُ بالحياة، وبالإنسان، وبإمكانها أن تتجلّى في الشعر. وقد اتخذ يوسف الخال مجموعة "رندلي" لسعيد عقل، أشهر مجموعة شعرية في ذلك الوقت، وأكملها فنيًّا، لتوضيح مقاصده وأهدافه، لينتهي به ذلك إلى الإشارة إلى أن المجموعة المذكورة، أي "رندلي"، تسبح في زمن تجريديّ، خارج التاريخ الحيّ وخارج العصر. وعلى الذين اتهموه لمّا أصدر مجلة "شعر" بأنه "انسلخ عن روح الشعر العربي تقليدًا للغرب"، ردّ يوسف الخال قائلًا: "للذين يقولون بأننا استوردنا بضاعة أدبيّة، وفكرية، وشعريّة من أوروبا، ومن أميركا، وأننا حاولنا إلباسها الأدب العربي عنوة وقسرًا، أريد أن أشير إلى أن التفاعل بين الثقافات شيء تاريخي قديم. وويل لأمة لا تتفاعل ثقافيًّا مع أمم أخرى، سواء كانت أعلى أو أدنى منها ثقافة. الأوروبيون يذهبون اليوم إلى الصين، وإلى أفريقيا، ليستمدّوا منهم مددًا جديدًا. إن التفاعل بين الثقافات شيء مشرّف، وليس شيئًا معيبًا. وويل لأمة تُغلق أبوابها على نفسها رافضة رياح ثقافات غريبة عنها".
ويواصل يوسف الخال حديثه في السياق نفسه قائلًا: "إذًا، ساقطة الفكرة التي تقول بأن هذه النظريّات الفكرية، أو الأدبيّة، لا علاقة لها بالذوق العربي العام، وأنّ الأذن العربيّة مُعتادة على الرنّة الموسيقيّة في الشعر، أو صدر وعجز وقافية، وأن هنالك موسيقى عربية للشعر، وأن الأذن العربيّة لا تتحمل موسيقى ثانية، كأنّ الأذن العربيّة جامدة. وإذا ما كان العرب يعجبهم العود، والربابة، أفلا يجوز أن يستمعوا إلى أوركسترا مثلًا!".
ويستعرض يوسف الخال التجارب الفنيّة التي مرّت بها جماعة مجلة "شعر"، وبها اصطدموا، مُركزًا على أن الموضوع الفني كان الشغل الشاغل لهم منذ البداية. وسرعان ما تبيّن لهم أن ما فعلوه حتى ذلك الحين للتحرر من القوالب القديمة لم يكن كافيًا، وأنهم ظلّوا يراوحون في مكانهم من دون أن يتمكنوا من التحرّر الفعلي من الخطابية، ومن التقريريّة، ومن الغنائية، والسجعية. انطلاقًا من كلّ هذا، عرّفَ يوسف الخال قصيدة النثر قائلًا: "قصيدة النثر كما نشأت في الشعر الفرنسي منذ لوتريامون هي غيرها في هذه المحاولة الجديدة في الشعر العربي، حتى ليمكن ربطها إلى حدّ ما بتجارب جبران، أو أمين الريحاني، في ما دعوه بـ"الشعر المنثور". ومهما يكن، فقد تبنّت مجلة "شعر" محاولات لم تعتمد على البحور، ولا على أوزان الشعرية المتوارثة. وكان اعتبارنا لها شعرًا خالصًا، لا شعرًا منثورًا، أو نثرًا شعريًّا، صدمة قويّة لمن بقيت في أذهانهم رواسب الشعر التقليدي. ثم تقبّل هؤلاء القصيدة النثرية على أنه كلام جميل، ورفضوا أن يروا فيها شعرًا، لأن الشعر في نظرهم لا يزال الكلام الموزون المقفّى".
رغم المصاعب والعراقيل، تمكنت مجلة "شعر" من الصّمود على مدى 6 سنوات، فاتحة صفحاتها لتجارب مختلفة في الكتابة الشعرية لمبدعين لبنانيين وعربا، خصوصًا من العراق وسورية وفلسطين. وفي عام 1960، فجّر أحد أعضائها، وهو اللبناني أنسي الحاج، "قنبلة" هي عبارة عن ديوان صغير الحجم بعنوان "لن". وكانت المقدمة عبارة عن بيان "ثوري" ضد الكتابة الشعرية القديمة، وضد مفهوم الشعر الذي ظلّ سائدًا حتى ذلك الحين، وضدّ ركود الثقافة العربية وجمودها وتحنطها وانغلاقها، وضد اللغة "المقدّسَة" المشدودة إلى الماضي، والرافضة للحاضر والمستقبل. وفي هذه المقدمة، كتب أنسي الحاج يقول: "يجب أن أقول بأن قصيدة النثر ـ وهذا إيمان شخصيّ قد يبدو اعتباطيًا ـ فعل شاعر ملعون في جسده ووجدانه.
الملعون يَضيقُ بعالم نقيّ. إنه لا ينبطح على إرث الماضي. إنه غاز، وحاجته إلى الحرية تفوق حاجة أيّ كان إلى الحرية. إنه يستبيح كلّ المحرمات لتكون قصيدة النثر هي نتاج ملاعين لا تنحصر بهم. أهميتها أنها تتسع لجميع الآخرين بين مُبارك ومُعافى. الجميع يعبرون على ظهر ملعون". ويضيف أنسي الحاج قائلا: "ما زلنا نلهثُ في قصائدنا، ونجرّ عواطفنا المُقيّدة بسلاسل الأوزان القديمة، وقرقعة الألفاظ الميّتة". وما نلاحظه من خلال هذا البيان الجريء أن أنسي الحاج الذي كان في عز شبابه مدرك أن تقويض بنى وأساليب الكتابة القديمة عملية عسيرة، بل تكاد تكون مستحيلة في مجتمعات عربية تعيش تحت ثقل الماضي، ويمنعها الجهل المعمّم من إدراك حقيقة حياتها ووجودها. لذا سوف تَلْعنُ هذه المجتمعات كلّ من يتجرأ على رمي حجر في المستنقعات الراكدة، وعلى إزعاج سباتها الثقيل والمديد، وعلى إعلان التحدي أمام قوى الظلام المُسْتنْفَرَة دائمًا لإطفاء نور اليقظة والوعي. وسرعان ما لاقى هذا البيان تجاوبًا واسعًا لدى كل المتطلعين إلى الحرية، وإلى التجديد والحداثة، والمتمردين على ثقافة ميّتة تقتات منها قوى يستبدّ بها الذعر والقلق كلما لاحت في الأفق تباشير فجر جديد. وكانت نازك الملائكة من بين هؤلاء، إذ أنها كتبت تقول: "إن اللغة العربية لم تكتسب بعد قوة الإيحاء التي بها تستطيعُ مواجهة أعاصير القلق والتحرّق التي تملأ أنفسنا اليوم (...) وينبغي ألاّ ننسى أن هذا الأسلوب الجديد ليس "خروجًا" على طريقة الخليل، وإنما هو تعديل لها يُحتمه تطور المعاني وأساليب خلال العصور التي تفصلنا عن الخليل".
لقد مضى الآن ما يُقاربُ السبعين عامًا على تلك الفترة التي ظهرت فيها قصيدة النثر. وطوال العقود الطويلة الماضية، خاض المنتصرون لها، من شعراء ونقّاد، معارك حامية لكي تظل مُشعة في المشهد الشعري العربي. وبفضل شعراء انجذبوا إليها، حتى من بلدان الخليج المحافظة، أصبحت قصيدة النثر تتمتع في الزمن الراهن بحضور قوي في الكتابة الشعرية العربية، بحيث لا يمكن تجاوزها، أو إهمالها، أو تهميشها. وهذه ظاهرة إيجابية في حدّ ذاتها، إذ أن القوى المعادية للتطور والتقدم، وللتجديد والتحديث، عادت لتهيمن مرة أخرى على المجتمعات العربية سياسيًا واجتماعيًا وثقافيًا، عادة كلّ الأشكال الكتابة المتحررة من القوالب القديمة "اعتداء" على "قداسة" اللغة العربية، وعلى تراث تستمدّ منه ما يُبرّرُ أقوالها وأفعالها، بما في ذلك الجرائم الإرهابية، وحملات التكفير والتخوين. وفي أوضاع كهذه تظلّ كل الأشكال الكتابية المتحررة من القيود، ومن الأساليب البالية، بما في ذلك قصيدة النثر، وسيلة لمقاومة الردّة، والانتكاسات، سواء في الثقافة، أو في السياسة. مع ذلك، يجدر بنا أن نطرح بعض الملاحظات، منها مثلًا أن بين السلبيات التي لازمت قصيدة النثر استنادها في كثير من الأحيان إلى التجارب التجديدية في الشعر الغربي بالخصوص. وهذا ما لا ينكره روادها أنفسهم، أمثال يوسف الخال، وأنسي الحاج، وأيضًا أولئك الذين جاؤوا بعدهم. إلاّ أن هذا التأثير قد يصبح مُضرًا ومُفسدًا عند الإفراط والمبالغة فيه، لتأتي قصيدة النثر العربية في حالة كهذه فاقدة للروح، وعليها يغلب التصنع والتكلف والتقليد المُزيّف. لذلك، لا يمكن أن نتحدث عن تجديد حقيقي إلاّ حين يتعلق الأمر بتجديد يأتي من داخل اللغة، ومن داخل التراث. والتاريخ يقول لنا إن المجدّدين الكبار في الشعر الغربي، وفي الثقافة الغربية، بصفة عامة، لم "يستوردوا" التجديد والتحديث من خارج لغتهم وتراثهم الثقافي والفكري. وكان مالارميه، مثلًا، يمتلك اطلاعًا واسعًا على الشعراء الفرنسيين في القرون الوسطى. وإليهم كان يعود حتى في أوقات التمرد الكبرى على الأشكال الكتابية القديمة. غير أن عددًا لا بأس به من شعراء قصيدة النثر في البلدان العربية يعتقدون أنه يكفيهم الاعتماد على ترجمات، قد تكون سيئة، للشعر الغربي، لكي يكونوا من "المجددين" في الكتابة الشعرية. وفي الحقيقة هم لا يعلمون أن كل هذا مُضاد للتجديد في مفهومه الأصيل، وأنهم يسيئون بمثل هذا الطرح لقصيدة النثر فتجفّ ينابيعها، وتفقد تأثيرها وإشعاعها لتنتفي في النهاية من دون أن تخلف أثرًا يُذكر. لذلك فإنه يجدر بشعراء قصيدة النثر أن يكونوا ملمين بالتراث الشعري والنثري في مختلف تجلياته، كي لا تكون عملية التجديد شبيهة بتلك الشماريخ التي تضيء السماء لبضع دقائق، ثم يعود الظلام من جديد. ويجدر بهم أيضًا أن يقتدوا بأبي نواس الذي حفظ عن ظهر قلب أشعار السابقين له، ثم نسيها، ليشرع في عملية تجديد لم يعرف الشعر العربي مثيلًا لها قبل ذلك أبدًا.