هل العالم اليوم أقل اعتناء بالآخر؟

بلال خبيز 19 يوليه 2024
آراء
(Getty)
يرى جاك أتالي أن الظروف التي حالت دون تجنب اندلاع الحربين العالميتين الأولى والثانية تمثلت في الدرجة الأولى في انحسار نفوذ الإمبراطورية البريطانية "المعولم"، ورغبة بعض الدول الأوروبية يومذاك في وراثة ما أمكنها وراثته من الإرث الإمبراطوري البريطاني. بعض الدول الكبرى، خصوصًا فرنسا، بعد انتهاء الحرب الأولى، كانت تسعى بكل ما أوتيت من جهد إلى منع ألمانيا من وراثة بريطانيا على أي نحو، وهذا كان السبب الأهم في تشدّدها حيال التعويضات الجائرة التي فرضت على ألمانيا في معاهدة استسلامها في فرساي، أملًا في ألا تنجح ألمانيا في تطوير اقتصادها بما يسمح لها بالطموح للهيمنة على العالم، وتهديد فرنسا.
لكن العالم الذي كان قائمًا يومذاك لم يكن عالمًا مهللًا بالحروب. لقد حفلت نهاية القرن التاسع عشر وبدايات العشرين بدعوات المساواة بين شعوب العالم، ومحاولات إنشاء هيئات عالمية تضمن السلم والاستقرار والازدهار لكل شعوب الكرة الأرضية. وفي خضم الحروب العنيفة ولدت عصبة الأمم. ورغم أنها ولدت مبتورة الأطراف، وبلا مخالب على الإطلاق، إلا أنها كانت خطوة ضرورية ومهمة في ترسيخ مواقع دعاة السلام والإخاء بين الشعوب على امتداد الكرة الأرضية. فكرة عصبة الأمم كما نظّر لها الرئيس الأميركي توماس وودرو ويلسون اصطدمت بهواجس الدول الكبرى التي انتصرت في الحرب الأولى، ولم تلبث أن لعبت هذه الهواجس دورها الحاسم في منع الأمم المتحدة التي ولدت من رحم الحرب الثانية من أن تتسلح على نحو يمكنها من فرض السلام العالمي، ومنع الدول الطامعة من تحقيق أطماعها وطموحاتها بالحروب.
من جهته، يلاحظ ستيفان تسفايغ أن أوروبا، قبل الحرب الأولى وبعدها، كانت تغذي كراهية متزايدة بين شعوبها. وكان من شأن هذه التغذية أن متنت روابط الدول الأمم، وجعلت من أبنائها أكثر استعدادًا للموت في سبيل هزيمة الأمم الأخرى.





لكن ملاحظات تسفايغ، على دقتها وأهميتها، لم تحل دون تكاثر الدعوات لتحقيق السلام العالمي، الذي يتبعه رخاء اقتصادي ومعيشي، ويمكّن العالم كله من العيش في أمن واطمئنان، ويساوي بين شعوبه وأفراده. هذه الدعوات امتدت على مساحة أوروبا كلها، من بريطانيا، إلى فرنسا، وسويسرا، والولايات المتحدة. ولا يتردد جاك أتالي في وصف الثورة الشيوعية التي قادها لينين في روسيا بالداعية إلى السلام. ذلك أن أول إنجازاتها كان الانسحاب من الحرب العالمية الأولى. وبصرف النظر عن دقة هذه الملاحظة، إلا أن الحركة الشيوعية، والاشتراكية من قبلها، كانت تنظر إلى العالم بوصفه مقسومًا إلى طبقات، وليس إلى إثنيات وشعوب وأعراق. وهذا مما يجعل العامل في النمسا مساويًا في حقوقه وتطلعاته للعامل في فرنسا، أو روسيا، أو الهند.
على أية حال، لم تحافظ الحركة الشيوعية على نقاء أفكارها طويلًا. وحدث ما لم يكن من حدوثه بد. وتحولت الحركة الحداثية المعولمة الأبرز في القرن العشرين إلى دكتاتورية لا مثيل لعنفها وضيق أفقها على يدي ستالين.
اليوم، نشهد على امتداد العالم تمنيًا حارًا بزوال الهيمنة الأميركية على مقدرات العالم وثرواته. يبدأ هذا التمني بالرغبة الحارة في انحسار هيمنة الدولار على تحديد الأسعار في العالم أجمع، ولا ينتهي عند المحاولات العنيفة التي تطمح إلى هزيمة "الإمبريالية" الأميركية في كل مكان. ورغم أن الرغبة عامة بانحسار الهيمنة الأميركية، إلا أن الدول التي تتحالف للحد من هذه الهيمنة لا تخفي خلافاتها البينية العميقة، وسعيها المستمر لحل هذه الخلافات بواسطة الجيوش. هذا ينطبق على العلاقات بين روسيا، والصين، والهند، مثلما ينطبق على العلاقات بين اليابان، والصين، والكوريتين، وينسحب بدرجة أقل على العلاقات بين الدول الأوروبية الكبرى، والاتجاهات المتعاظمة إلى تبني أفكار اليمين المتعصب بين مواطنيها. وإذا كان اليوم يشبه الأمس في مقدماته، فإن احتمال تكرار نتائجه راجح ومتوقع. بمعنى أن الدول ــ الأمم الطامحة إلى وراثة الإمبراطورية الأميركية، حالما تبدي ضعفًا ووهنًا كافيين لإيقاظ طموحات السياسيين في هذه الدول ــ الأمم، قد تخوض حروبًا في ما بينها، وقد تكون أعنف من كل الحروب التي سبقت بما لا يقارن أو يقاس. وللتذكير فقط، فإن الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت، الذي كان أكثر المتحمسين للسلام بين الأمم، وله الفضل الأكبر في ولادة الأمم المتحدة ومؤسساتها، هو الذي أمر بإلقاء قنبلتين ذريتين على هيروشيما وناغازاكي (اليابان)، وقام جنرالاته مع نظرائهم البريطانيين بتنظيم مذابح جوية في هامبورغ، ودريسدن، لم يشهد لها العالم مثيلًا.
ما تقدم يبدو كارثيًا إذا ما نظرنا إلى ما يجري في غزة اليوم. فالنظر إلى هذه الحرب بمنظار أوسع من رقعتها الجغرافية يوحي، بل ربما يؤكد، أن حياة الشعوب في أي مكان من العالم لم تعد تعني أهل السياسة والحل والربط. وأن إبادتها عن بكرة أبيها لم تعد أمرًا غير قابل للتخيل أو التصديق. وبالتالي، فإن أي انهيار أو تصدع عميق في النظام العالمي القائم قد يؤدي إلى إبادة شعوب بأكملها على أيدي شعوب أخرى كانت حتى الأمس القريب تقيم بينها وبين هذه الشعوب علاقات وثيقة على المستويات كافة.
في الخلاصة يمكن قول ما يلي: العالم يبدو اليوم أقل اعتناء بالآخر. والآخر اليوم لم يعد ذلك الذي يقبع خلف الحدود، ويناصبنا العداوة والحسد والرغبة في إفقارنا، بل أصبح الجار الذي ينافسنا في العمل، ويعتنق أفكارًا تختلف عن أفكارنا، ويسلك مسالك لا نراها مناسبة لنا.