الأمير فيصل يحتفل في باريس بالوحدة العربية

محمد م. الأرناؤوط 7 سبتمبر 2018
استعادات
الأمير فيصل في مؤتمر الصلح بباريس

قبل شهر من حلول مئوية الحكومة العربية في دمشق نظّم منتدى الفكر العربي بعمّان في 2/9/2018 أول ندوة في سلسلة ندوات ستستمر في المنطقة خلال 2018-2020 التي تتوافق مع إعلان الحكومة العربية في دمشق في 5 تشرين الأول/ أكتوبر 1918 وصولا إلى إعلان استقلال "سورية المتحدة"، وإعلان الأمير فيصل بن الحسين ملكا دستوريا على الدولة الجديدة في 8 آذار/ مارس 1920.

ومن المأمول بطبيعة الحال ألا تكون هذه الندوات بروح احتفالية أو استعادية وتجترّ ما هو معروف ومنشور هنا وهناك، بل إن المئويات هي فرصة ثمينة للمراجعة التي تحفل بقراءة جديدة لمصادر لم تكن معروفة وتقدم جديدا وتوجّه أخيرا رسائل إلى الحاضر.

فبعد حوالي خمسين سنة على سقوط هذه التجربة العروبية الرائدة أمام جحافل القوات الفرنسية عقب معركة ميسلون نشرت د. خيرية قاسمية رسالتها للدكتوراه "الحكومة العربية في دمشق بين 1918-1920" في 1971 لتصبح بطبعاتها المتكررة حتى 2017 المرجع الرئيس للباحثين في هذا المجال. ولكن بعد خمسين سنة تقريبا على صدور كتاب د. قاسمية لا يجوز أن ندخل المئوية ونحن نجترّ ما فيه من معلومات مع إضافات محدودة هنا وهناك. ففي العقود الخمسة الأخيرة صدرت في أوروبا والولايات المتحدة كتب عديدة عن سقوط الدولة العثمانية وتشكل الشرق الأوسط الجديد، التي تناولت بشكل أو بآخر الحكومة العربية في دمشق 1918-1920، وخاصة مع مئوية الحرب العالمية الأولى 1914-1918 التي كانت الحكومة العربية من مخرجاتها.

في هذا السياق لا بد أن نذكر على سبيل المثال كتاب المؤرخة الكندية المعروفة مرغريت ماكميلان "باريس 1919: ستة شهور غيّرت العالم" الذي خصصت فيه فصلا بعنوان "الاستقلال العربي". وكان هذا الكتاب حينما صدر في 2001 دخل في قائمة نيويورك تايمز للكتب الأكثر مبيعا وصدر بعدها في عدة طبعات. وعلى الرغم من أهمية هذا الكتاب، الذي يعتمد على الوثائق الموجودة في الأرشيفات الأوروبية والكندية والأميركية وعلى الأوراق الخاصة والمذكرات، إلا أنه لم يترجم إلى العربية ولا أعرف أحدا استفاد منه. ومن هنا قد يكون من المفيد أن نشير إليه بمناسبة مئوية الحكومة العربية.

هذا الكتاب يكسر ثنائية الأبيض والأسود التي تسهّل تبسيط الأمور وتفسر كل شيء وفق شرق- غرب وحلفاء- أعداء الخ. فالمؤلفة بالمناسبة هي حفيدة لويد جورج رئيس وزراء بريطانيا الذي كان مع جورج كليمانصو رئيس الحكومة الفرنسية اللاعبين الكبيرين في مصير الشرق الأوسط بالاستناد إلى اتفاقية سايكس-بيكو التي اتفق عليها الطرفان في 1916. ولكن الحفيدة هنا مؤرخة وهي لا تجامل جدها بل إنها تبدأ الفصل الخاص بالاستقلال العربي بمشهد مؤثر يمثل كيف كانت تقسم التركة العثمانية (بلاد الرافدين وبلاد الشام) بين الطامعين فيها.

يعود الفضل إلى كشف هذا المشهد إلى المؤرخ ارنولد توينبي الذي كان في شبابه آنذاك يعمل مستشارا للوفد البريطاني إلى مؤتمر الصلح الذي بدأ في كانون الثاني 1919. وفي أحد الأيام كان يحمل أوراقا إلى الوفد الذي يرأسه لويد جورج، الذي لم ينتبه إلى وجود توينبي فتابع حديثه عن كيفية تقسيم التركة العثمانية: "بلاد الرافدين .. نعم.. النفط ..الري.. يجب أن تكون لنا. فلسطين.. نعم.. الأرض المقدسة..الصهيونية..يجب أن تكون لنا. سورية.. همم..ماذا يوجد في سورية؟ ليأخذها الفرنسيون".

صحيح أن فرنسا وبريطانيا اتفقتا مع سايكس- بيكو في 1916 على خطوط عامة إلا أن الكتاب يكشف عن خلاف شديد بينهما، أو عن تغير مزاج لويد جورج ورغبته في تقزيم الوجود الفرنسي في بلاد الشام فأخذ منطقة الموصل منها (التي كانت من حصة فرنسا حسب سايكس- بيكو) ليضمّها إلى بلاد الرافدين تحت الانتداب البريطاني، وأبعد فرنسا عن فلسطين (التي كانت متروكة لإدارة دولية في سايكس- بيكو) لتصبح تحت الانتداب البريطاني أيضا، وكان يسعى لحصر الوجود الفرنسي في لبنان فقط بإقناع كليمانصو أن يقبل بالأمير فيصل على رأس الحكومة العربية في سورية الداخلية، أي التي تشمل الآن معظم سورية وشرق الأردن وذلك مقابل أن يعترف الأمير فيصل بنوع من السيادة الفرنسية، وأن يقرّ بأن فلسطين ليست جزءا من سورية ويوقع اتفاقية مع حاييم وايزمن رئيس المؤتمر الصهيوني آنذاك.

بضغط من لويد جورج وافقت فرنسا مرغمة على أن يشارك الأمير فيصل في مؤتمر الصلح وأن يلقي كلمة في 6 شباط 1919 يتحدث فيها عن طموح العرب بالاستقلال. بعد كلمته سأله الرئيس الأميركي وودرو ولسون، الذي كان قد دغدغ المشاعر العربية بدعوته إلى حق تقرير المصير وحق الشعوب في تقرير نوع الحكم الذي تريده، عما إذا كان العرب يفضلون أن يكونوا تحت انتداب واحد أو عدة انتدابات، فراوغ الأمير فيصل في الجواب بأن العرب يريدون الوحدة والاستقلال ولمّح إلى أنه إذا قررت القوى الكبرى اختيار انتداب واحد للعرب فإن العرب يفضلون الانتداب الأميركي على أي انتداب آخر.

وقد حظي الأمير فيصل لاحقا بلقاء الرئيس ويلسون، وهو اللقاء الذي شارك فيه لورنس كمترجم. ومع أنه لا يوجد محضر لما دار في الاجتماع إلا أن الأمير فيصل قال لاحقا إن الرئيس ولسون وعده إذا قامت سورية بإعلان استقلالها فإن الولايات المتحدة ستدعمها في ذلك.

وقد تطور الموقف الأميركي إزاء إصرار فرنسا على فرض نفسها على سورية الداخلية والمنطقة الساحلية فطرح الرئيس ويلسون، الذي كان يعتبر اتفاقية سايكس- بيكو "نموذجا لنهاية الدبلوماسية القديمة"، إرسال لجنة تحقيق لسؤال العرب عما يريدون. كان ويلسون يدعو إلى سلام عالمي يقوم على الحقائق الموجودة على الأرض وليس على "الحقوق" المكتسبة بالمعاهدات السرية لاقتسام مناطق العالم. وبالرغم من عدم حماس كليمانصو ولويد جورج لهذه الفكرة إلا أن الرئيس ويلسون أصرّ عليها في أيار 1919 إلى أن تم إقرارها. كانت الموافقة على فكرة اللجنة تعني الكثير للأمير فيصل لأنه كان متأكدا من موقف غالبية السكان على الأقل ولذلك عندما عرف بإقرار فكرة اللجنة، كما تقول المؤلفة، شرب الشمبانيا لأول مرة في حياته (ص 394).

إلا أن هذه الفرحة لم تطل لأن بريطانيا وفرنسا لم تسميا ممثلين لهما في هذه اللجنة المقترحة،  ولذلك اقتصرت على ممثلين أميركيين فقط (هنري كينغ وتشارلز كراين) وعُرفت لاحقا باسم "لجنة كينغ- كراين". ومع أنها جاءت بلاد الشام في صيف 1919 وتجولت فيه من شماله إلى جنوبه وقدّمت تقريرها إلى عصبة الأمم الذي يبيّن الرغبة العارمة بالوحدة والاستقلال لغالبية السكان، إلا أن هذا التقرير لم ينشر إلا في سنة 1922 أي بعد أن أصبحت سورية ولبنان وفلسطين وشرق الأردن تحت الانتداب الفرنسي والبريطاني!