"الدرر النجفية" للعلامة الدرازي.. مخطوط متوارٍ خلف الحُجُب
مهما يكن الأمر فإن المخطوط الذي بين يدينا، والذي يبلغ عدد كلماته نحو 232 ألف كلمة، مكتوب بخط جميل وواضح، وتبحث أبوابه في مسائل الفقه والعبادة، كالطهارة والنجاسة والنكاح والإرث والوصية وغير ذلك من المسائل المعتادة في كتب الفقه. وفي المخطوط فصول وافية وجملة من الأخبار عن "عيسى ويحيى بن زكريا (...)، وفي بيان ولد الزنى وإيمانه وكفره (...)، وعن الأنبياء يُرفعون بأبدانهم من القبور". وفي المخطوط أيضاً نقاش ومجادلة في شأن "خطبة فاطمة في مطالبتها بفدك وميراثها (...)، وفي ما أحدثه معاوية من تزوير الأخبار في فضايل الخلفاء الثلاثة".
الخطير في هذا المخطوط هو المبحث الذي يتصدى لـِ "تطرق النقصان والتغيير والتبديل إلى القرآن وعدمه وتحقيق القول في ذلك"، وهي مسألة خلافية جداً، وإنكارية عموماً، مع أنها قضية ما برحت تُثار بين حقبة وأخرى، الأمر الذي يُخرجها من إطارها التاريخي والمعرفي والجدالي إلى سياق فتنوي وسياسي مستنكر. وفي بحثه هذه المسألة يقول الدرازي إن الزيادة لم تلحق بالقرآن قطّ، لكن النقصان وقع بالفعل. وهو يحدد كثيراً من الآيات التي طالها النقصان، ويبرهن، بحسب رأيه، كيف كانت الآية قبل النقصان وكيف صارت بعده، وينقل من كتاب "الرجال" لأبي عمرو الكشي بإسناده عن بريد العجلي عن أبي عبد الله قوله: "أنزل الله في القرآن سبعة بأسمائهم، فمحت قريش ستة وتركوا أبا لهب". وعن محمد بن مسعود العياشي عن أبي عبد الله يقول: "إن في القرآن ما مضى وما يحدث وما هو كائن، وكانت فيه أسماء الرجال فأُلقيت". وعن أبي عبد الله أيضاً: "لو قُرئ القرآن كما أُنزل لألفيتنا فيه مسميين". كما ينقل من كتاب "الاحتجاج" للطبرسي أن سورة الأحزاب كانت تعدل سورة البقرة (الأحزاب 72 آية بينما البقرة 286 آية)، وأن سورة النور نيف ومئة آية (في المصحف العثماني 76 آية)، وأن سورة الحجر تسعون ومئة آية (وهي في المصحف 99 آية).
* * *
إن الغاية من الكشف عن هذا المخطوط أو غيره هي العلم ولا شيء غير العلم، ثم الالتفات إلى غنى التراث العربي المطمور وثرائه. ولولا المستشرقون المتعددو الأهواء والدوافع لظل جانب من تاريخنا مدفوناً تحت ركام الأتربة. وإنها لحالة مهينة أن يكون في مكتبات أوروبا وجامعاتها ومتاحفها مئات آلاف المخطوطات العربية المنسية.
ويُقدّر يان بوست فينيكام، الرئيس السابق لإدارة الكتب الشرقية في مكتبة ليدن، عدد المخطوطات العربية الموزعة على أنحاء العالم بنحو ثلاثة ملايين مخطوط، وهو ما بقي بعد تدمير المغول بغداد وإغراق كتبها في نهر دجلة، ثم إحراق الكنوز الفاطمية في القاهرة على يدي صلاح الدين الأيوبي حيث ظلت أفران القاهرة تشتعل بها أياماً، وكذلك غداة إحراق الصليبيين مكتبة طرابلس الشام، علاوة على ضياع ما لا يقل عن ربع مليون مخطوط في مكتبة قرطبة بالأندلس. وهذا المخطوط ينتظر مَن يخرجه من الحُجب إلى النور، وتحقيقه بدافع علمي يتخطى التوظيف السياسي أو المذهبي إلى رحاب علم التاريخ الجديد. ويتطلب الأمر نزاهة علمية فائقة وشجاعة فكرية قلما توافرتا لكثير من محققي التراث العربي المحدثين، وهما معاً، أي النزاهة والشجاعة، شأن لا بد منهما لمن سيتصدى لتحقيق هذا المخطوط المهم والخطير في آن.